على درب أبي

منذ حوالي ثلاثين سنة، ورثتُ مِن أبي دكّانه، واحترتُ في أمري إذ كنتُ آنذاك شابًّا جامعيًّا ولَم يخطُر ببالي أن أدير محلاً. كنتُ أحلم بمستقبل آخر إلا أنّ والدتي توسّلَت إليّ كي آخذ مكان والدي وكأنّني أحمِل الشعلة بعد مماته. ماذا أرادَتني أن أفعَل؟ أن أبيع السكاكر والخضار لأهل الحَي طوال حياتي كما هو فعَلَ؟ صحيح أنّه ربّانا وعلّمَنا من جني دكّانه، إلا أنّه كان مِن جيل وبيئة مُختلفة تمامًا عنّا. خطَرَ ببالي فجأة كيف ستكون ردّة فعل أصدقائي وزملائي في الجامعة، وتخيّلتُ وجوههم الضاحكة وسخرياتهم. ثمّ عدتُ وفكّرتُ بأخوَتي الصغار، فمِن أين كنّا سنأتي بالمال اللازم لِتعليمهم؟ عرضتُ على أمّي أن تحلّ هي مكان أبي في المحلّ، إلا أنّها كانت تُعاني مِن أوجاع في المفاصل، وبالكاد تقومُ بالأعمال المنزليّة الضروريّة. لِذا قبلتُ على مضض أن أفتحَ المحلّ لكن فقط في خارج أوقات جامعتي، فلَم أكن أبدًا مُستعدًّا لتضييع فرصة نَيل شهادتي.

سُرَّ أهالي الحَي بي بعدما اعتقدوا أنّ المحلّ سيُقفَل لدى موت أبي، وتفاجأتُ بهذا الكمّ مِن الفرَح وتشجَّعتُ للقيام بمهامي. إفتخرَت أمّي بي ودعَت لي بالتوفيق. جرَت ألأمور على ما يُرام، واعتادَ الزبائن المجيء إلى المحل في أوقات تواجدي وأنا استطعتُ حضور حصصي في الكلّيّة.

لكن مع الوقت، بدأتُ ألاحظُ أمورًا غريبة تحصل وبشكل مُستتِر للغاية. فكان بعض الزبائن يغيبون خلف رفوف المحلّ لبضع ثوان ثمّ يخرجون فارغي اليدَين. المُشكلة أنّهم كانوا يختفون وراء الرفوف نفسها وليس في مكان آخر. وجدتُ الأمر مُريبًا، لِذا ركّزتُ على مُراقبتهم بشكل خفيّ كي لا أُثير شكوكهم. في المرّة الأولى، كانت إحدى جاراتنا في المبنى تسلّلَت إلى خلف الرفوف المذكورة، ليدخُل وراءها جارنا في المبنى المُقابل. رأيتُه يضع شيئًا في جَيبه ثم يخرجُ بسرعة داعيًا لي بنهار سعيد. خطَرَ ببالي على الفور أنّها مسألة تبادُل مُخدّرات، إلا أنّ المنطق قال لي إنّ جارتنا لطالما كانت إنسانة هادئة وخلوقة، وهي ربَّت أولادها لوحدها بعدما ماتَ زوجها. أمّا الجار الآخر، فكان أستاذ مدرسة مُتقاعدًا، ولَم يفتعِل أيّ مشكلة تُذكَر طوال سنوات معرفتي به بل عاشَ وحيدًا مع هِرَره ودفاتره. فاجأتني إحدى ساكنات الشارع العجوز بمكوثها دقائق طويلة وراء الرفوف، بعد خروج صبيّة جميلة مِن المكان نفسه. سألتُ نفسي ما قد يكون الرابط بينهما، فلَم أرَ بحياتي تلك المُراهقة على خلاف العجوز التي عرفتُها طوال حياتي. إحترتُ لأمري وتابعتُ مُراقبتي لزبائني، وتفاجأتُ بنفسي أجدُ مُتعة بالأمر لَم أتخايلُها ممكنة قبل فترة قصيرة.

بعد ذلك، رأيتُ ابن السكّاف يدخلُ عمق المحلّ بعد أن سبقَه الجزّار. كان مظهر هذَين الشخصَين، خاصّة الجزّار، مُخيفًا، فتأكّدَت شكوكي حول حدوث أمور غير قانونيّة في دكّاني. إمتلأ قلبي بالغضب، فتخيّلتُ كيف أنّ هؤلاء الناس استغلّوا طيبة والدي لسنوات بغية تمرير أعمالهم المشبوهة خلف ظهره. فبالفعل كان أبي إنسانًا ذا قلب نقيّ وضمير حَيّ، ولقد بكاه الجميع يوم غادرَ هذه الدنيا. والدتي هي الأخرى كانت امرأة صالحة إلا أنّ طيبتها كانت مقرونة بالعقل والمنطق، ولقد ورثتُ تلك الخصال منها. لِذا رحتُ أُخبرُها بالذي اكتشفتُه، طالبًا منها النصيحة لِمعرفتها الواسعة بأهالي الحَيّ والمبنى. وعلى الفور قالَت لي:

 

ـ قد تكون ترى أمورًا غير موجودة يا بُنَيّ.

 

ـ أبدًا! أنا مُتأكّد مِن الذي روَيتُه لكِ! أُريدُ فقط أن تُساعديني على اختيار الحلّ المُناسب لوضع حدّ لِما يحصل.

 

ـ الحلّ؟ وهل هناك مِن مُشكلة بالفعل؟

 

ـ ما بكِ يا ماما؟ أقولُ لكِ إنّ أمورًا مشبوهة تحصل في مقرّ مورد رزقنا؟ وهل تقبلين بأن نأكل مِن مال مصبوغ بالحرام؟ لو أبي كان لا يزال حيًّا...

 

ـ ... لكان طلَبَ منكَ أن تتجاهل هؤلاء الناس.

 

ـ يا إلهي... أنتِ على علم بالموضوع؟ وأبي؟!؟ هل هو الآخر كان على معرفة بذلك؟ وقبلتُما بأن يقوم أحدٌ بما هو مُنافٍ للقانون وربّما للأخلاق؟ حسبتُكما والدَين صالحَين.

 


ـ إنتبِه لكلامكَ يا ولَد! ولا تنسَ أنّني أمّكَ وأنّ أباكَ في دنيا الحقّ! آمرُكَ بترك هؤلاء الزبائن وشأنهم وحسب! كنتُ أودّ التحدّث معكَ بالأمر مطوّلاً، إلا أنّني لن أتحمَّل ولو للحظة قلّة احترامكَ. على كلّ الأحوال، ربمّا مِن الأفضل أن أهتمّ بنفسي بالمحلّ.

 

ـ لن يحصل هذا! ستبقين في البيت وأنا أقومُ بما رجَوتِني أن أفعله قبل فترة. إضافة إلى ذلك، سأنظّفُ الدكان مِن تلك الحثالة!

 

بعد حديثنا هذا، لاحظتُ أنّ الزبائن لَم تعُد تتغلغل وراء الرفوف كالسابق، وعلِمتُ أنّ لأمّي دخلاً في ذلك. فهي حتمًا نبّهَتهم مِن أنّني قد أشتكي عليهم أو على الأقلّ أطردهم مِن محلّي. أبقيتُ عَينًا ساهرة على ذهاب وإياب الزبائن في حال عادوا إلى عاداتهم السابقة.

ثمّ خطَرَ ببالي أمران: الأوّل هو أنّ أبي، وحتمًا أمّي، كانا يستفيدان مِن تلك التجارة الخفيّة والمُشينة، وإلا كيف لهما أن يعيشا ويصرفا مِن دكّان صغير كهذا؟ وهذا يعني أنّني أكلتُ وشربتُ وتعلّمتُ ولا أزال مِن مال مصدره غير قانونيّ؟ شعرتُ بالغضب والعار في آن واحد. لكنّ الأمر الثاني هدّأ مِن روعي: إن اشتكَيتُ على هؤلاء الناس، فستُفتَح قضيّة ويتلطّخ اسم أبي واسمنا إلى الأبد، الأمر الذي لا يجدرُ بي فعله إن كنتُ أحبُّ ذويّ. يا للمعضلة!

حاولتُ في الأيّام التي تلَت التركيز على درسي بدلاً مِن مُراقبة الزبائن، لكن مِن دون جدوى.

بعد فترة، عادَ المشبوهون إلى خصالهم القديمة، أيّ إلى تبادل "البضائع" في ما بينهم وأمام عَينَيّ! ما أوقحهم! ألَم تُنبّههم أمّي؟ هل هي الأخرى كانت قد فقدَت ضميرها مِن أجل المال والربح؟ كرهتُها مِن كلّ قلبي وتمنَّيتُ أن يكون لي أمّ وأب مُختلفَين، يتبعان تعاليم الله والناس ولا يجرّان ولدهما البكر في تجارتهما البشعة.

وأخذتُ قررًا صارمًا وهو اقفال الدكّان، بعدما فضّلتُ ترك الجامعة لإيجاد عمل "شريف" يُمكّنُني مِن الصرف على والدتي وأخوَتي. كنتُ مُستعدًّا للتضحية بمستقبلي إن كان ذلك سيُبعدُنا جميعًا عن الوقوع في الرذيلة. وحين زفَّيتُ الخبَر لأمّي، صرخَت عاليًا:

 

ـ أنتَ مجنون حقًّا! أترك الناس وشأنهم وركّز على جامعتكَ، أرجوكَ بالله! كنتُ على حقّ حين قرّرتُ عدَم الوثوق بكَ.

 

ـ ماذا تعنين؟ هل تقصدين عدَم الوثوق بي بإشراكي بأموركم المُريبة؟ حسنًا فعلتِ!

 

ـ لا يا بُني، بالعكس. للحقيقة، تكلّمتُ وأبيكَ بالأمر خلال فترة مرَضه الطويلة، خاصّة أنّ أيّامه كانت معدودة، وهو وافقَني الرأي. كان لا بدّ ألا تعرفَ بشيء بسبب سنّكَ وعدَم معرفتكَ بالحياة والناس، وخفنا أن تفضَحَ كلّ شيء.

 

ـ لستُ أفهم ما تقولينَه.

 

ـ ستفهم اليوم مساءً.

 


وحين عدتُ مِن جامعتي ليلاً، تفاجأتُ بوجود كلّ هؤلاء المشبوهين مُجتمعين في صالوننا فانتابَني غضب شديد. لكنّ والدتي أمرَتني بالصمت والجلوس على أحد المقاعد ثمّ قالَت:

 

ـ لن أقوم بالتعارف، فأنتَ تعرف جيّدّا جارتنا الأرملة والأستاذ الأعزب، وتعرفُ هذه الجدّة الوقورة والصبيّة الجميلة، وابن السكّاف والجزّار.

 

ـ أجل ولكن إن اعتقدتم أنّني...

 

ـ أسكُت! دعني أكمل! جارتنا الأرملة تحبُّ الأستاذ لكنّ أولادها منعوها، مِن كثرة أنانيّتهم، بأن تسعَد مع رجُل وتعرف الحبّ مِن جديد، لِذا هي تتبادل الرسائل مع حبيبها الأستاذ الذي بقيَ عازبًا مِن أجلها.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ وهذه الجدّة مُنِعَت مِن الاتّصال بأحفادها مِن قِبَل ابنها العقوق، فتأتي إحدى حفيداتها لتُعطيها صوَرًا عنهم وأخبارًا كي تبقى على إطّلاع على حياتهم ولا تشعُر بالعُزلة... فإن علِمَ ابنها بالأمر، لَمنَعَ ابنته مِن أن تُتابع ما تفعله.

 

ـ حفيدتها؟!؟

 

ـ والجزّار الشهم يُساعدُ ماليًّا إبن السكّاف بعد أن فقَدَ هذا الأخير أباه وأمّه وباتَ يعيشُ في القلّة. وبالطبع لَم يُرِد هذا الشاب أن يعلَم أحدٌ أنّه يعيشُ في الوقت الحاضر مِن حسنات الناس، وذلك إلى حين يستطيع الوقوف على رجلَيه.

 

ـ هذا يعني...

 

ـ هذا يعني أنّ أباكَ قدَّمَ محلّه ليُقرّبَ بين الناس ويُعطيهم نافذة ولو صغيرة على السعادة. هكذا كان والدكَ وليس تاجر ممنوعات خسيسًا. وحين هو ماتَ، إنتظرتُ لأرى ردّة فعلكَ على ما يجري لأُقرّر إن كنتَ جديرًا بأن نثقَ جميعًا بكَ، لكنّكَ خذلتَنا. فلقد خطرَت ببالكَ على الفور أفكار واتّهامات بشعة ومُشينة وعلِمتُ أنّكَ لستَ مثل أبيكَ. فلقد سبَقَ هؤلاء الناس أشخاص آخرون كثيرون، وكان هذا الدكّان بمثابة همزة وصل وأحيانًا وسيلة تصالح بين أناس فقدوا الأمل. دكّان أبيكَ هو مكان طاهر يا بُنَيّ.

 

شعرتُ بالخزيّ، فوقفتُ وقدّمتُ اعتذاري الحارّ للموجودين ثمّ دخلتُ غرفتي لأبكي على ظلمي لأهلي، وخاصّة أبي الذي كنتُ على وشك تشويه سمعته الطيّبة. وفي الصباح رحتُ أقول لأمّي:

 

ـ إرثُ أبي ليس فقط جدرانًا وبضائع، بل أيضًا بشر، فلقد فهمتُ ذلك بوضوح. لن أخذلكِ ووالدي، كوني على ثقة بذلك. سأحملُ الشعلة بفخر واعتزاز وأُكمِلُ ما بدأُه أروَع أب. كيف لَم أرَ الحقيقة بالرغم مِن معرفتي الجيّدة بطيبة ونزاهة والدي، لستُ أدري! قولي لِمَن تشائين إنّ الدكّان مفتوح لهم حينما يشاؤون فلن أقِف بِدَربهم بل العكس. أُريدُ أن أكون جديرًا بما تركَه لي أبي.

 

ـ الآن صِرتَ تمشي على دربه يا بُنَي. هنيئًا لكَ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button