بعدما أنهَيتُ المكالمة الهاتفيّة مع السيّد ناجي، بدأتُ أبكي مِن الفرح. كانت أيّام الفقر والبؤس ستنتهي أخيرًا، لأنّ ذلك الرجل الطيّب عرَضَ عليّ العمل في بيته كمدبّرة منزل. إختارَني بالذات، أوّلاً لأنّني ابنة بلدته، ولطالما عرَفَ أهلي بالرغم مِن الفارق الاجتماعيّ بيننا، وثانيًا لأنّه لم يعد يريد توظيف عاملات أجنبيّات. شكرتُ ربّي لأنّه لم ينسَني بعد كل تلك السنوات التي قضاها في العاصمة.
جمعتُ أمتعتي ولم أودّع سوى جيراني، لأنّني كنتُ يتيمة الأبوَين وابنة وحيدة. نظرتُ حولي لآخر مرّة، وركبتُ سيّارة الأجرة التي قادَتني إلى منزل السيّد ناجي وزوجته ناديا.
ذُهلتُ لجمال المنزل وكبره، ولم أجرؤ على الجلوس على احدى الكنبات الفخمة، فبقيتُ واقفة بينما أملى عليّ السيّد ما عليّ فعله:
ـ ستكونين مسؤولة عن حُسن سير العمل في البيت. هناك فتاة أجنبيّة مهمّتها التنظيف، وأخرى تطهو لنا وترحل بعد إتمام عملها. لدَيكِ غرفة خاصّة بكِ، وحمّام وكل ما يلزمكِ. وستزوّدكِ زوجتي بالتفاصيل الباقية حين تعود مِن زياراتها المعتادة. شيء أخير: أريد معرفة كل ما يجري هنا، وأعني بذلك كل شيء. ولو علِمتُ أنّكِ خبّأتِ عنّي ولو حادثة بسيطة، سأضطرّ لاعادتكِ إلى البلدة. مفهوم؟
ـ نعم سيّدي، مفهوم.
ذهبتُ إلى غرفتي وخلتُ نفسي في حلم جميل. إستلقَيتُ على السرير الضخم وأخذتُ أحدّق بالثريّة المعلّقة بالسقف. كم كنتُ محظوظة!
بعد ساعتَين، نادَتني السيّدة ناديا وأعطَتني التفاصيل اللازمة. لكنّها لم تكن مسرورة بي، هي لم تقل شيئًا بل شعرتُ بذلك مِن نظراتها إليّ ونبرة صوتها. وقبل أن أعود إلى غرفتي لأنّ الوقت كان متأخرًّا قالَت لي:
ـ السرّيّة ثمّ السرّيّة! لا أريد أن يعرف أحد بالذي يجري في بيتي... وخاصّة في ما يتعلّق بحياتي الشخصيّة. وعندما أقول لا أحد، أعني حتى زوجي، وإلا قمتُ بطردكِ. أفهمتِ؟
ـ فهمتُ يا سيّدتي.
إحترتُ لأمري، فكلا السيّد وزوجته كانا يطلبان منّي أمرَين متضاربَين، ورجوتُ ألا أتواجد في موقف يكون عليّ الاختيار بينهما. على كل الأحول، كان أحدهم سيطردني وأجد نفسي بلا عمل.
في الصباح، تعرّفتُ إلى عاملة التنظيف والطاهية، ووجدتُ صعوبة بالتعامل معهما، لأنّهما لا تجيدان اللغة العربيّة. وحاولتُ تذكّر دروس اللغة الانكليزيّة التي تلقَّيتُها في المدرسة، أي منذ سنين طويلة!
بدأتُ العمل ولم يكن مُتعبًا، فكل ما عليّ فعله كان الإنتباه إلى التفاصيل. حاولتُ إرضاء أصحاب البيت قدر المستطاع، إلا أنّني لم أنَل محبّة السيّدة ناديا. فهي كانت تنظر إليّ بغضب وحذَر، وكانت تتوقّف عن الكلام كلّما رأتني مارّة، وتتمتم وكأنّني لا أسمعُها: "لماذا جاء لي بمَن يفهم لغتنا؟!؟ لماذا؟". فعملتُ جهدي كي لا أتواجد معها في المكان نفسه، خوفًا مِن أن أزعجها أو أسمع تلميحات بشعة.
كان الراتب ضخمًا ككلّ شيء في ذلك البيت الذي لم أجد فيه سوى البرودة والتجاهل، ليس فقط معي بل بين السيّد وزوجته. فكل واحد منهما كان يعيش على طريقته وفي عالمه. إستغربتُ الأمر بعدما علِمتُ أنّهما، وبالرّغم مِن سنّهم الذي تخطّى الخمسين، تزوّجا حديثًا، أي مِن حوالي الخمس سنوات. هل ذلك لأنّهما لم يُرزقا أطفالاً؟ لستُ أدري.
كان يأتي إلى البيت زوّار كثر، لكنّ المفضّل لدَيّ كان جاد، إبن أخ السيّدة ناديا والذي كان مراهقًا لطيفًا ومضحكًا يقصّ الأحداث بطريقته ويتمتّع بابتسامة جذّابة جدًّا. كان جاد محبوبًا مِن الجميع، حتى مِن السيّد ناجي الذي كان يكره عائلة زوجته ولا يطيق رؤية أيًّا منهم. وحده ذلك الشاب كان مسموحًا له المجيء والمكوث قدر ما يشاء. وسرِرتُ كثيرًا عندما علِمتُ أنّه سيسكن المنزل ليذهب إلى الجامعة التي اختارَها لإكمال تعليمه والتي هي قريبة منّا. كان جاد سيُضفي على المنزل جوًّا شبابيًّا مفرحًا وسط مناخ مشدود وبارد.
أحبَّني جاد كثيرًا أيضًا، الأمر الذي أزعجَ السيّدة ناديا، لأنّها لم تكن تتحمّل أن تراني سعيدة، فمنعَتني مِن كثر الكلام مع ابن أخيها:
ـ إسمعي يا... ما أسمكِ؟
ـ سلوى.
ـ صحيح... إسمعي، أنتِ لستِ فردًا مِن العائلة بل مجرّد عاملة هنا، ولا أريد أن أراكِ تحومين حول جاد.
ـ أحوم حوله؟ أنا؟ أنتِ مخطئة تمامًا فهو بسنّ إبني!
ـ وإن يكن. إبتعدي عنه وحسب!
إمتلأت عينايَ بالدموع لهذا الكمّ مِن البغض والذلّ، وركضتُ أبكي في غرفتي. وكما طُلِبَ منّي، صرتُ أتفادى جاد الذي لم يفهم سبب جفائي له.
مرَّت أشهر عديدة، وتعوّدتُ العَيش برفقة البنتَين، وعدم الإختلاط بـ" أسيادي"، شاكرة ربّي أنّ لدَيَّ عملاً وسقفًا فوق رأسي. فالمال الذي كنتُ أجنيه كان سيحميني مِن العوَز حين أشيخ.
لكن في أحد الأيّام، وبعد أن أنهَينا تنظيف البيت وترتيبه وبدأنا بتحضير وجبة الغداء، طلَبت منّي الطاهية أن أجلب لها بعض المواد الغذائيّة مِن المستودع الموجود بجانب المنزل والذي له مدخل مِن الخارج فقط.
ولكن عندما وضعتُ يدي على مقبض باب المستودع، سمعتُ أصواتًا آتية مِن الداخل، وسألتُ نفسي لمَن تُرى تكون إذ أنّ جميع سكّان البيت ذهبوا إلى أشغالهم باكرًا. خفتُ أن يكون هناك لصوص أتوا لسرقة ما في المستودع الذي كانت فيه أصناف غالية الثمَن ونادرة الوجود. أخذتُ قطعة خشب كانت موجودة قرب الباب، ودخلتُ ببطء.
وصرختُ بأعلى صوتي عندما رأيتُ السيّدة ناديا وجاد في وضع أكثر مِن حميم، ووقفتُ أمامهما غير مصدّقة عينَيَّ. هل يُعقَل أن تعاشر السيّدة ابن أخاها؟!؟
ركضَت إليّ الفاسقة وأمسكَتني بشعري، وألقَتني أرضًا وبدأَت تركلني بكل قواها. ولولا تدخّل جاد، أظنّ أنّها كانت قد قضَت عليّ. زحفتُ إلى زاوية المستودع أبكي مِن كثرة ألَمي، وبعد أن ارتديا هدومهما وقفا أمامي وقالت لي ناديا:
ـ سأقتلكِ إن تفوّهتِ بكلمة واحدة لأيّ كان! لحظة ما وقعَت عينايَ عليكِ علِمتُ أنّ مصيبة ستقع بسببكِ! ماذا تفعلين هنا؟
ـ جئتُ أجلب بعض المواد للطاهية.
ـ خذي ما جئتِ مِن أجله واخرجي بسرعة، وقولي لها إنّكِ تعثّرتِ. ولو علِمتُ أنّكِ تكلّمتِ، سأقتلع قلبكِ! هيّا!
فعلتُ ما طلبَت منّي ناديا وركضتُ خارجًا، قبل أن تغيّر رأيها وتنفّذ تهديدها في الحال. وحده جاد كان مرتبكًا وشاعرًا بالعار حيال ما حصل.
تفادَيتُ السيّد ناجي وزوجته وجاد خلال الأيّام التالية، ولم أكن أعرف كيف أتصرّف حيال ما جرى. هل أخبر السيّد كما طلَبَ منّي أن أفعل؟ فلو تكلّمتُ ستقضي عليّ ناديا، وإن بقيتُ صامتة سأصبح شريكة في الجريمة وأغشّ الذي أعطاني عملاً وطلَبَ منّي إطلاعه على كل شيء. إلى جانب ذلك، لم أكن أدّخَرتُ ما يكفي لتأمين حياة كريمة لنفسي.
ووسط هذه الأجواء الصعبة والمؤلمة، جاء جاد إلى غرفتي في إحدى الليالي وقال لي:
ـ أنا آسف يا سلوى... لا أدري ماذا أقول لكِ... سوى أنّني ضحيّة مثلكِ، لا بل أكثر. لم أرِد تلك العلاقة يومًا، بل ناديا هي التي اعتدَت عليّ عندما كنتُ فتيًّا. هدَّدَتني كما هدّدَتكِ، ومع الوقت إعتدتُ على هذه العلاقة التي تغضب الله والناس. لم أجد مخرجًا بعد، لكنّني لا أنوي أبدًا الإستمرار هكذا. فكرة الجامعة والمكوث هنا كانت فكرة ناديا لتتمكّن منّي ومِن مصيري. المشكلة هي أنّني لستُ غنيًا كعمّتي، ولا أملك ولو نصف الشجاعة اللازمة للوقوف بوجهها. فلو هي أخبرَت أبوَيّ عمّا يجري بيننا سيموتون مِن الحزن والعار، وسيقتلني زوجها.
ـ لن تجرؤ ناديا على إخبار أحد يا بنيّ، أنا متأكّدة مِن ذلك.
ـ وكيف لكِ أن تكوني أكيدة؟
ـ لأنّها ستكون المتضرّرة الأكبر، ستخسر زوجها، أي حياة الرخاء التي تنعم بها، فمَن سيصرف عليها بعد ذلك؟ خاصّة أنّ الخبر سينتشر في العائلة وبين المعارف. لا، مِن مصلحتها أن يبقى الأمر سرًّا، صدّقني. تقول إنّكَ لستَ شجاعًا؟
ـ أجل.
ـ الانسان لا يولَد شجاعًا بل يُصبح شجاعًا عندما تحصل له مصيبة عليه مواجهتها، وعندما يكون التوقيت مناسبًا للتصرّف. لم يفت الأوان بعد، إرحل مِن هنا وعُد إلى أهلكَ ولا تردّ على ناديا أو تصدّق إخافتها لكَ. أكمِل حياتكَ وعِشها كأي شاب ليس له عمّة لا تتمتّع بذرّة أخلاق. إرحل الليلة!
ـ الليلة؟ يا إلهي، لستُ جاهزًا... أقصد أنّ الأمر مفاجئ؟
ـ الليلة وإلا بقيتَ في هذه الدوّامة! هيّا!
لحقتُ بجاد حتى غرفته، وساعدتُه في جمع أمتعته كي لا يتراجع، ودعوتُ له بالتوفيق بعد أن وعدتُه بأنّني لن أفضَحَ أمره يومًا. وبعد أن ترَكَ ذلك المنزل البغيض وارتاحَ قلبي، إبتسمَتُ لِما سيحصل لناديا عندما تعرف أنّ حبيبها هجرها وسط الليل.
شعَرَت ناديا بأنّ لي دخلاً برحيل جاد، فكانت تلك المرأة ذكيّة جدًّا، إلا أنّ حزنها وخَيبتها منعاها مِن الإنتقام منّي، على الأقل في الفترة الأولى. فبدأَت تخترع لي المهمّات التعجيزيّة، وتتّهمني اتّهامات خطيرة لتتخلّص منّي، خاصّة أنّني كنتُ الشاهدة الوحيدة على جريمتها. لكنّ السيّد ناجي كان يُدافع عنّي في كل مرّة ويُصرّ على بقائي في البيت.
وفي أحد الأيّام، ناداني السيّد إلى مكتبه، وطلَبَ منّي أن أجلس قبالته على الكرسيّ بعد أن أغلَقَ الباب. وقال لي:
ـ لا أدري ما الذي فعلتِه ليرحل ذلك الـ... مِن بيتي، لكنّني أشكركِ.
ـ لا أفهم ماذا تقصد يا سيّدي.
ـ بلى يا سلوى، تفهمين تمامًا ما أقصد. لماذا إذًا جئتُ بكِ إلى هنا؟ أعرفكِ منذ زمَن بعيد، وأعرف مدى ذكائكِ ونزاهتكِ وقوّة شخصيّتكِ. وأعرف أيضًا أنّ شيئًا ما كان يدور بين زوجتي وابن أخيها، فأنا رجل ناضج وأفهم بالناس والحياة، إلا أنّني لم أكن أملك الدليل على شكوكي، فالموضوع شائك جدًّا ولم يكن مِن المقبول أن أتصرّف مِن دون يقين. توقّعتُ طبعًا أن تأتيني بالأخبار كما طلبتُ منكِ أن تفعلي، لكنّكِ بقيتِ صامتة وكنتُ على وشك أن أطردكِ. ولكن حين رحَلَ جاد في الليل ورأيتُ حزن ناديا وارتباكها، فهمتُ أنّ أحدًا تدخّل في الأمر. ومَن غيركِ يا سلوى يُمكنه معرفة ما يجري وتصليح الأمور؟
ـ لن أتفوّه بكلمة يا سيّدي ويُمكنكَ طردي إن شئتَ.
ـ أظنّ أنّ صمتكِ هو وعد قطعتِه لجاد أيضًا، أليس كذلك؟ على كل حال سأطلّق ناديا بعدما تأكّدتُ مِن شكوكي.
ـ لكنّني لم أقل شيئًا!
ـ بلى، والكثير أيضًا.
عندما طلّق السيّد زوجته، تلقَيتُ منها تهديدات عديدة لكنّني لم أخف منها. وبعد فترة قصيرة، علمتُ أنّ جاد سافَرَ إلى الخارج ليُتابع دراسته، بعيدًا عن تلك المرأة الشنيعة والمُنفرة.
بقيتُ مع السيّد ناجي أكثر مِن عشر سنوات، ثمّ عدتُ إلى البلدة للعَيش بسلام بعدما باتَ لي ما يكفي للإستمرار بعيدًا عن العاصمة وأصحاب الأموال ومشاكلهم التي لا يُصدّقها عقل.
حاورتها بولا جهشان