إذا كنتُ اليوم وحيداً، فأنا السبب ولا أستطيع إلقاء اللوم على أحد سواي. ولزِمَني وقت طويل لإستيعاب مافعلتهُ خلال حياتي.
فمنذ كنتُ فتى صغيراً, وطبعي حاد ومزاجي صعب، فظنّ أهلي أنّني سأتغيّر مع الوقت، لِذا لم يوقفني أحد عند حدّي. حتى أنّ جدّتي كانت تشجّعني على الإستمرار بهكذا سلوك، قائلة:" هكذا هم الرجال... لاتدع أحداً يؤثّر عليك وإلاّ فقدتَ وَهرتَكَ." ورغم هذه الأجواء، كان بإمكاني أن أُصلِحَ نفسي مع الوقت وأتعلّم مِمَن هم أفضل منّي، ولكنّني كنتُ سعيداً بشخصيتّي الفظّة وأستمتع بتخويف مَن هم مِن حولي.
وهكذا كبرتُ، آخذاً ما أستطيع دون أن أعطي شيئاً وكأنّ ذلك هو حقّ مكتسب. فعندما رأيتُ حنان في الجامعة، قررتُ أنّها ستكون لي بالرغم أنّها لم تكن حتى مُعجبة بي بل بزميل لنا وكانا يتواعدان وينويان الإرتباط جدّياً فور حصولهما على الشهادة. ولم يهمّني أنّ يكون قلبها يدقّ لغيري، فكنتُ متأكداً أنّها ستحبنّي لاحقاً بعدما ترى أي رجل أنا. فبذلت جهدي، لأثبتَ لها أنّ حبيبها ليس جديراً بها وأنّها تستحقّ أفضل منه. وبدأتُ أراقب تحرّكاتهما وأتبعهما سراً أينما ذهبا.
وفي ذات مساء، عندما كانا عائدَين مشياً على الأقدام مِن تناول العشاء في المطعم، بعثتُ لهما شاباً كان يعمل عند أبي في المعمل ليخيفهما مدّعياً السرقه. وبعدما شهرَ عليهما سكيناً كبيراً وطلبَ منهما إعطاءه جميع مقتنياتهما، ظهرتُ لإنقاذ الوضع وطرده بعيداً. فلكمتهُ على وجهه وفرّ السارق المزعوم في ظلام الليل. عندها نظَرت إليّ حنان بإعجاب، بينما كان حبيبها ما زال يرتجف مِن الخوف. ومنذ ذلك المساء، بدأت حنان تراني في الجامعة وتحدّثني ونمضي وقتاً لوحدنا في الكافيتريا نتحدّث. وبالطبع أظهرتُ لها جانباً جيداً لم أكن أمتلكهُ، فظّنَت أنّني أنسان رقيق وخدوم وحنون. ومع الوقت بدأت الفتاة تتعّلق بي حتى أنها نسيَت الذي سكنَ قلبها مِن قبلي. وهكذا نجحَت كل مخطّطاتي وفزتُ بها وتزوّجتُها بعد سنتين على تخرّجنا.
وخلال تلك الفترة كنتُ أخرج مع فتيات أخريات لأنّني لم أكن أنوي يوماً أن أكون وفيّاً لأحد وحين واجهتني حنان بشأن خياناتي، قلتُ لها أنّني رجلٌ ولدّي حاجات جسدّية وعليّ إشباعها مع أحد. ووعدتُها أنّني سأكفّ عن مواعدة أولئك النساء حالما أتزوّج منها. وصدّقَتني المسكينة. وإلى جانب كذبي مع زوجتي، كنتُ أيضاً أستعمل أسلوب الغش والتخويف مع زملائي في شركة الهندسة التي عملتُ فيها. فبعد أن إستعَنتُ بمعارف أبي لأتوظّف هناك لم أتردّد على إزاحة كل مَن كان واقفاً بيني وبين التقدّم في سلّم المراكز. ولكن الأهم كان أنّ حنان قد أنجبَت لي توأمين. فرحتُ في البدء، لأنّه بدل الصبي أصبحَ لي إثنان، ما زاد مِن عزّة نفسي ولكن سرعان مابدأتُ أنزعج مِن صراخهما وبكائهما الدائم. ووجدتُ أن أفضل طريقة لأكون مرتاحاً، هي ألاّ أبقى في البيت وأقضي معظم وقتي خارجاً. وتركتُ عائلتي تتخبّط بمشاكلها اليوميّة، بينما كنتُ أسهر وأمرح مع شلّة مِن الفتيات الجميلات. كل ما كنتُ أفعله كان أعطاء المال لحنان لتجيء باللازم لها وللأولاد وللمنزل، ظاناً أنّ ذلك كاف، وتأمّلتُ أن تبقى حياتي هكذا طوال الوقت. وبالطبع لم أعد أجد حولي إلا مَن كان مثلي، أي كل شخص عديم المسؤوليّة أو الطموح وكل من أراد الإستفادة مِن كَرَمي. ولم يعد أحد مِن رفاقي القدامى أو حتى مِن أهلي، يطيق وجودي لِكثرة تعجرفي وسوء معاملتي لعائلتي. ولكن كلّ ذلك لم يكن يهمنّي، بل شعرتُ بإرتياح كبير مِن دونهم.
ومِن ناحيتها لم تعد حنان تحبّني وبدأت تفكرّ بتركي بعدما أدركَت أنّ لافائدة مِن البقاء مرتبطة بي. وعلمتُ بنيّتها هذه مِن المحامي الذي قصَدته، فأسرعتُ أهدّدها بأخذ أولادنا منها إن رحَلَت. فبقيَت رغماً عنها وصبَّت إهتمامها على تربية التوأمين اللذين كانا يكبران دون أن يرياني معهما.
وهكذا كبرَت في قلبيهما ضغينة تجاهي نمّتها حنان يوماً بعد يوم. كنت أشعر باستيائهم جميعاً تجاهي ولكنّ الأمر لم يكن مهماً بالنسبة لي لأنّني لم أكن بحاجة إلى حب أحد. ولكن الأيّام السعيدة لم تكن لِتدوم لأنّني فور بلوغي الأربعين عاماً، بدأتُ أشعر بخدر في أطراف أصابعي. في البدء لم أعتبر الأمر مهمّاً وحسبتُ أنّني أفرط في السهر والكحول ولكنّ وضعي بدأ يتأزّم بعد أن بدأت حركتّي تبطئ شيئاً فشيئاً. وحين ذهبتُ إلى الطبيب وأجريتُ الفحوصات اللازمة، أخبرَني بأنّني مصاب بما يسمّى التصلّب الجانبي. وحين سألتُه ما الذي سيحدث لي، قال:
ـ ستشعر بصعوبة في إستعمال أطرافكَ الأربعة ومِن ثم في التكلم والبلع... سيصيب الشلل جهازكَ التنفّسي... وفي غالب الأوقات لن يتأثرّ دماغكَ، فستحافظ على كامل عقلكَ...
ـ وسأموت؟
ـ كلنا سنموت... ولكن أنتَ قبل أوانكَ... لأنّ العلم لم يجد بعد علاجاً لِمرضكَ... ولكن هناك أدوية تبطئ بعض الشيء الأعراض التي ستمرّ بها... هل مِن أحد يمكنه الأهتمام بكَ؟ سيأتي يوم ولن تستطيع المشي أو أمساكِ الأشياء بيديكَ... ولن تستطيع البلع، فسندخل مسباراً في حلقكَ لِتمرير الغذاء وسنوصلكَ إلى جهاز تنفسّ حين لن تعود رئتَاك قادرتين على العمل لوحدهما... هل أنتَ متزوّج؟ هل لديكَ أطفال؟ ما أعمارهم؟
ـ أجل... لديّ زوجة... وتوأمان... بلغا على ما أعتقد سن الخامسة عشرة...
ـ عظيم... يعني ذلك أنهم سيهتموّن بكَ جيّداً...
ـ أرجو ذلك... أرجو ذلك
وحين خرجتُ من العيادة كنتُ كالضائع تتخبّط صور الشلل المرعب في رأسي. ومشيتُ لوحدي لساعات أحاول إيجاد ولو شيئاً واحداً إيجابياً بالذي سيحدث لي ولكنّني لم أجد ما يمكنه رفع معنوّياتي. وصلتُ إلى البيت في المساء حين كان الجميع نائماً وتمدّدتُ قرب زوجتي ونظرتُ إليها وسألتُ نفسي ما سيكون موقفها عندما تعلم بالذي يصيبني. هل ستعتني بي أو ستجد في ذلك فرصة للإنتقام؟ وبعد قليل، غرقتُ في النوم العميق المليء بالأحلام المزعجة. وبعد بضعة أيّام أخبرتُ حنان بمرضي. سكتَت مطوّلاً ثم قالت:
ـ غريبة هي الحياة... الرجل القوي سينكسر بعدما سمح لِنفسه بكل شيء... أراكَ ذليلاً يا زوجي... أين ثقتَك المفرطة بنفسكَ؟ أين ذهَبت لهجتكَ المتعالَية؟ كبر ولداك دون أب... وأنا عشتُ خمس عشرة سنة دون زوج... خنتَني وأهملتَني... إعتبرتَني خادمة ومربيّة وناطورة بيتٍ لم تمكث فيه سوى لِتنام... والآن تعود إلينا لنداويك ونؤمّن لك آخرة كريمة... إعلَم أنّنا لا نحبّك لأنّكَ لم تحبّنا، لأنّ ذلك لم يهمّكَ يوماً... زوجي العزيز... حان الوقت لكي أعيش بهناء ولن أقضي باقي سنواتي في خدمتك مجدّداً... سآخذ ولديّ وأرحل وأنا أكيدة أنّكَ لن تمنعني من ذلك، لأنّكَ فقدتَ قوّتَكَ على أذيتّي... هناك ممّرضات ومستشفيات ولديكَ المال الكافي للحصول على العناية اللازمة... لا أستطيع وصف شعوري الآن، لأنّه مزيج مِن التشفّي والحزن... أتمنّى أن يكون الله في عونكَ... هذا إن كنت لا تزال تؤمِن به ولو بعض الشيء... وداعاً.
وتركَتني حنان وأصطحبَت التوأمين وبقيتُ لوحدي. وبالطبع لم يعد أحد مِن أصدقائي يأتي لِزيارتي أو مساعدتي مع أنّ حالتي باتَت تتطلَّب العون. ورأيتُ أنّ أفضل حل، هو أن أدخل المستشفى وأسلّم قدَري للعلم. وها أنا اليوم راقد في سرير أبيض وموصول إلى أجهزة تمكنّني مِن التغذية والتنفسّ وأنتظر بخوف الموت الذي سيخلّصني مِن عذابي بعدما أدركتُ أنّني هدَرت أيّامي عندما كنتُ في كامل صحتّي. ولو علِمتُ بالذي سيصيبني، لتصرّفتُ بطريقة مختلفة. ولكنّ الأوان قد فات وما مِن وسيلة للرجوع بالزمن وتصحيح أخطائي.
حاورته بولا جهشان