عقاب أبي

بدأ أبي بشرب الكحول حين تركَته أمّنا. كّنا قد تزوّجنا جميعًا، والبعض منّا أنجَبَ أيضًا، وبقيَ والدانا لوحدهما. ثمّ علِمنا مِن والدتنا أنّها لَم تعُد قادرة على تحمّل زوجها، فلقد قبِلَت لسنوات لا تُحصى طغيانه وخياناته، وجاء اليوم لأن ترتاحَ أخيرًا. للحقيقة، هي بالفعل تحمّلَت كلّ ذلك، وسألتُ نفسي مرارًا كيف لها أن تبقى صابِرة وقابِلة لِما يحصل. وخفتُ وأخواتي أن نتزوّج رجُلاً مثل أبي ونقَع وقعة أمّي.

شجّعتُ أمّي على العَيش بسلام كيفما شاءَت، فهي كانت تستحقّ ذلك. أمّا بالنسبة لإخوَتي وأخواتي، فاتّخذوا مواقف مُتفاوِتة بسبب خوفهم مِن كلام الناس. وقفتُ في وجههم صارخة: "أين كانوا الناس حين تعذّبَت أمّنا طوال سنوات؟ هل ساعدوها او واسوها أو أوقَفوا والدنا عند حدّه؟ بالطبع لا. فلا أرى سببًا لاحترام رأيهم مهما كان. دعوا المسكينة تعيش ما تبقّى مِن حياتها بسلام ولا تكونوا أنانيّين!".

رحلَت أمّي إلى بيت أهلها الذي ورثَته بعد مماتهم وزّينَته على كَيفها، فالجدير بالذكر أنّها لَم تكن يومًا سيّدة بيتها، فزوجها منعَها منذ اليوم الأوّل أن تعتبر نفسها في بيتها، بل شعرَت طوال الوقت أنّها مُجرّد عامِلة فيه.

مِن جانبه، فرِحَ والدُنا لرحيل زوجته، صارخًا يوم أخذَت أمتعَتها: "مع ألف سلامة! ولا تعودي أبدًا يا وجه النحس!". وعلِمتُ أنّه بدأ يخرج ليلاً مع أصدقائه ويفعل ما يشاء، أيّ أنّه استطاعَ أخيرًا عَيش حياته المُنحلّة على سجيّته. لكن بعد فترة، بدأ يشعر بوطأة غياب زوجته، فارتمى في الشرب مِن الصبح حتّى المساء.

إنشغَلَ بالي كثيرًا عليه، فحالته عندما رحتُ أراه كانت يُرثى لها، فبالكاد كان واعيًا أو يعلَم أين هو. وضعتُه في سريره وبقيتُ معه حتّى الصباح، وعندما استفاقَ، قال لي:

 

ـ أعيدوها لي! أين أمّكِ؟

 

ـ إنّها بسلام في بيت أهلها، وأنتَ تعلَم ذلك.

 

ـ أريدُها هنا! أريدُها أن تطهو لي وتُنظّف المكان!

 

ـ إن شئتَ، نستطيع إيجاد لكَ عامِلة منزل.

 

ـ لا! هي التي ستقوم بواجباتها!

 

ـ أمّي ليست خادِمة.

 

ـ بلى! هي خادِمتي!

 

ـ إهتمَّت أمّي بكَ لأنّها زوجة فاضِلة، وبنا لأنّها أمّ مُتفانية، وبالبيت لأنّها سيّدة منزل مُمتازة. كلّ ما فعلَته كان بطَوعها، كما أفعلُ مع عائلتي.

 

ـ وأنا جئتُ بالمال!

 

ـ وخنتَها وأهَنتَها وحصَلَ مرارًا أنّكَ صفَعتَها. والآن، هي قرّرَت أنّ ما مرَّت به هو كافٍ، ولا تُريدُ قضاء باقي حياتها في الذلّ.

 

ـ أفعلُ ما أشاء، فأنا ربّ المنزل! أنا رجُل!

 

ـ أنظُر إلى نفسكَ... أنتَ لا شيء مِن دون أمّي... إعترِف أنّكَ اشتقتَ إليها.

 

ـ أخرجي مِن بيت! أنتِ أفعى كأمّكِ!

 

تركتُه يغلي مِن الغضب، وأمِلتُ أن يهدأ ويعي ما فعلَه بزوجته. في الواقع، لولا حكمة أمّي، لكانت حياتنا في البيت أصعَب بكثير، فخلال سنوات، هي تحمّلَت الإهانات لوحدها لتُجنّبنا الأذى الجسديّ والنفسيّ، وبقيَت تقولُ لنا إنّ والدنا يُحبُّنا بالرغم مِن كلّ شيء. ملاكٌ هي أمّي!

إستمَرَّ والدي بشرب الكحول، وتعرّفَ على امرأة سيّئة السلوك وجلبَها إلى البيت لتعيش معه. علِمنا أنّه تزوّجَها وأجلسَها على عرش حياته، مع أنّها لَم تكن تُساوي شعرة مِن رأس والدتي. وما هو أفظَع، أنّه كان مُطيعًا لها لدرجة مُخيفة، إذ أنّها كانت الآمِرة الناهية. ويوم رحتُ أزورُهما، نظرَت إليّ زوجة أبي باحتقار وقالَت: "أهذه إحدى بناتكَ؟ إنّها قبيحة مثل أمّها... سأدخُل غرفتي... إبقَ أنتَ معها". لَم يخجَل أبي مِن كلامها، بل همَسَ لي: "لماذا لَم تقولي لي إنّكِ قادَمة؟ هي لا تُحبّ الزيارات المُفاجئة... ها أنتِ أغضبتِها الآن". لَم أُجادِل، بل جلَستُ معه لأرى كيف أحواله، ولَم يسَعني تجاهل وجود زجاجات كحول شبه فارغة على طاولة الصالون. هزَزتُ برأسي لكنّني لَم أقُل شيئًا، فأبي رجُل ناضج كفاية لمعرفة الصحّ مِن الخطأ. وجدتُه تعِبًا وشاحِبًا، فنصحتُه بالذهاب إلى طبيب إلا أنّه أجابَني: "زوجتي الحبيبة تهتمّ بي وأنا بصحّة مُمتازة". زوجته الحبيبة... لَم أسمَعه يومًا يتكلّم عن أمّي هكذا.

علِمَت أمّي طبعًا بزواج أبي الجديد، إلا أنّها لَم تتأثّر بذلك على الاطلاق، بل ضحِكَت حين سمِعَت أنّ تلك المرأة هي التي تُديرُ أبي وباقي الأمور، وقالَت: "يجدرُ بي أن أبعَث لها رسالة تهنئة... فأبوكِ وجَدَ أخيرًا مَن هي أقوى منه. لكنّني أتكهّن لزواجه نهاية قريبة وبشِعة، سترَين". إستغربتُ كلام والدتي، وردَدته لرغبتها بأن ينال أبي جزاءه، ولَم أتصوّر أن تكون على حقّ... فقد نسيتُ أنّ أمّي هي دائمًا على حقّ.

أجرى أخيرًا أبي بعض الفحوصات المخبريّة بعد أن أجبرَه أخي الكبير على ذلك، وتبّيَنَ أنّه يُعاني مِن كلّ ما قد يُعاني المرء منه، ووصَفَ له الطبيب مجموعة أقراص عليه أخذَها يوميًّا، وحمية غذائيّة صارِمة. أكّدَت لنا زوجته أنّها ستُراقبه عن كثب وتُساعده على استعادة عافيَته. لَم أُصدِّقها طبعًا فهي لَم تكن تُبالي سوى بنفسها. وكما توقّعتُ، لَم يتحسّن أبي، بل العكس.

وفي أحَد الأيّام، حين زرتُ والدي، بعد أن أخذتُ موعدًا طبعًا، وجدتُ في البيت مجموعة مِن الغرباء يسرحون ويمرحون في أرجاء المكان ويأكلون ويشربون ما طابَ لهم.

سألتُ أبي مَن يكون هؤلاء، وهو أجابَ ببساطة: "لستُ أدري... إسأليها". نظرتُ إلى زوجته التي ابتسمَت قائلة: "إنّهم أصدقائي، لماذا تسألين؟ أليس هذا بيتي؟ وهل أذهب إلى داركِ وأتدخّل بضيوفكِ؟". فضّلتُ الرحيل وتَركهم جميعًا، فبالفعل، ما شأني؟. إلا أنّ ما رأيتُه لَم يكن سوى غَيض مِن فَيض. فبعد فترة قصيرة، إتّصَلَ بي والدي طالبًا الإذن بزيارتي لبضع أيّام. لَم أسأله عن سبب هذا الطلَب المُفاجئ، فهو لَم يبِت عندي يومًا، وهو لَم يُعطِني تفسيرًا. ومِن حجم وعدَد الحقائب التي جلبَها معه، فهمتُ أنّ بقاءه عندنا سيطول.

وبعد ثلاثة أيّام على قدوم أبي، قالَ لي حين كنّا لوحدنا:

 

ـ كيف حال أمّكِ؟ هل هي بخير؟ هل هي سعيدة؟ أوصِلي لها سلامي مِن فضلكِ.

 

ـ إنّها بخير، نعم. وأنتَ؟ هل أنتَ بخير وسعيد؟

 

ـ معكم هنا أجِدُ نفسي سعيدًا... لكن هناك... يا إلهي، كيف سمَحتُ لها أن تُسَيطر عليّ وعلى المكان؟

 

ـ ربّما لأنّكَ انشغَلت بالشرب والبحث عن ملذّاتكَ يا بابا. قُل لي، لماذا جئتَ إليّ؟

 

ـ تلك الأفعى... كلمة أفعى قليل عليها... إنّها تأتي برجال إلى البيت ونساء و... تعرفين ماذا يفعلون.

 

ـ لا، لا أعرف، قُل لي.

 

ـ حسنًا... لقد انقلَب بيتي إلى بيت دعارة!!!

 

ـ ماذا؟!؟ إرمِ زوجتكَ خارجًا على الفور! طلقّها!

 

ـ لقد كتبتُ البيت باسمها! أجل، أنا مُغفَّل، مُغفَّل! فعلتُ ذلك لأقنِعها بالزواج منّي آنذاك... فهي تعلَم كيف تحمل رجُلاً على إطاعة رغباتها. والحقيقة أنّها... يا إلهي كيف أقولُ لكِ ذلك... هي التي رمَتني خارجًا.

 

وبدأ أبي بالبكاء كالطفل، فواسيتُه بالرغم مِن غضبي الشديد منه. كيف له أن يُفضّل هكذا امرأة على أمّي التي أهانَها وخانَها وعنفَّها؟!؟ وشيء في داخلي وجَدَ أنّ ما يحصل له هو بالتمام ما يستحقّه، لكنّني عدتُ وأشفَقتُ عليه. فهو باتَ رجُلاً مكسورًا لا بيت له بل هو مُجبَر على التنقّل بين بيت إلى بيت كضيف دائم عند أولاده.

أخبَرتُ والدتي بما حصَلَ لزوجها السابق، وسمعتُها تضحَك مِن كلّ قلبها، الأمر الذي فاجأني، فلَم أعهدها حقودة هكذا. لكنّ المرارة التي سكنَت قلبها لسنوات طغَت على طيبتها، على الأقلّ في ما يخصّ أبي.

إجتمَعتُ وإخوَتي وأخواتي ووضَعنا جدولاً لاستقبال أبينا بالتداور، لكنّ الكلّ لَم يكن ممنونًا. فلا تنسوا أنّ والدنا لَم يكن كباقي الآباء، بل كان طاغيًا في مُعظم الأحيان. لكن في آخِر المطاف، كان علينا أن نُكرمِه كما أوصانا الله. مِن جهة أخرى، بحَثنا عن طريقة لنقض مُلكيّة تلك المرأة للبيت، وقد نصحَنا محامٍ بأن ننسى الموضوع، بعد أن سألناه إن كنّا نستطيع إثبات أنّ أبي كان تحت تأثير الكحول حين تنازَلَ عن مسكنه، فلَم يكن لدَينا دلائل أو شهود على ذلك.

طلَّقَ والدي زوجته، الأمر الذي أفرحَها إلى أقصى درجة. إلا أنّني لَم أنتهِ منها على الاطلاق، فكانت لدَيّ خطّة انتقاميّة بامتياز! فتركتُ تلك الفاجِرة تستمتِع بالبيت وتفعل فيه ما تشاء لفترة مِن الزمَن، إلى أن قصَدتُ وبعض جيران والدي قسم الشرطة، وقدّمنا بلاغًا بأنّ ما يجري في البيت شبيه بالدعارة المُنظّمة.

راقبَت الشرطة المكان لمدّة ثلاثة أيّام، وقامَت بعمليّة مُداهمة مُحكمة وتمّ القبض على زوجة والدي السابقة ومجموعة مِن الناس في الجرم المشهود! وانتهى بالجميع وراء القضبان، خاصّة تلك الأفعى التي كانت لها سوابق!

وتلك الحادثة كانت شديدة الوطأة على أبي الذي صارَ هزيلاً جدًّا صحّيًّا، فأدخَلناه المشفى، وكَم كانت دهشتنا كبيرة حين رأينا أمّي تدخُل غرفة أبي وتجلسُ بالقرب مِن سريره وتمسكُ بِيَده. خرَجنا كلّنا مِن الغرفة وترَكناهما لوحدهما، بعد أن رأينا دموع الندَم والامتنان في عَينَيّ والدنا.

وقَبل أن يحين موعد خروج والدي مِن المشفى، قالَت لي أمّي:

 

ـ سآخذُه معي.

 

ـ هل أنتِ مُتأكّدة يا ماما؟ فأنتِ بالكاد استمتَعتِ بحياتكِ الجديدة.

 

ـ هو أبوكم والرجُل الوحيد الذي عرفتُه. لا أستطيع تركه هكذا. لا تخافي، أنا مُتأكّدة مِن أنّه تعلّمَ الدرس جيّدًا. وإن عادَ إلى طبيعته السابقة، سأرميه خارجًا بدوري، فلَم أعُد تلك المرأة الضعيفة والخاضِعة. لكن شيئًا يقولُ لي إنّ الأمور ستسير جيّدًا بيننا.

 

إستعادَ أبي عافيته شيئًا فشيئًا، بفضل مُعاملة أمّي له، ورأيتُ فيه رجُلاً جديدًا. فلَم أعهده أبدًا إنسانًا مرِحًا ومُحِبًّا بهذا القدر. لو ترَون كيف صارَ ينظرُ إلى أمّي، نظرات باتَت مليئة بالحنان والحبّ وكأنّه تعرّفَ إليها للتوّ!

أحَطنا والدَينا جيّدًا، ونحن نجتمع عند أمّي أسبوعيًّا مع أولادنا، وتعمُّ الفرحة كلّ لقاء نقومُ به. فهكذا تكون العائلات!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button