عريسي الثاني (الجزء الثاني)

وقَعتُ في حيرة مِن أمري، بعد الذي فعلَه كامِل في ما يخصّ رئاسة لجنة المبنى: هل آخُذُ موقفًا صارِمًا منه، أم أتجاهَل الموضوع لأنّنا مُتحابّان وننوي الزواج والانجاب، ولا ينبغي عليّ التوقّف عند تفاصيل كهذه؟ لكن مِن جهّة ثانية، الأسلوب الماكِر الذي استعملَه خطيبي لإزاحتي، كان يدلّ على نفسيّة بشِعة قد تنعكِس على حياتنا سويًّا. هل هو فعَلَ ذلك ليُثبتَ نفسه كرجُل ويُبقي مكانته في الثنائيّ الذي سنؤلّفه، أم أنّ هذه هي طباعه، أيّ أنّه يُريدُ الفوز مهما كلّفَ الأمر وبأيّة وسيلة؟

سؤال آخَر حيّرَني: كيف لجيراني أن ينحازوا هكذا ويُفضّلون إنسانًا غريبًا عليّ؟ ما الذي دفعَهم للتصويت له وإبعادي، بعدما رأوا ما فعلتُه لهم وللمبنى؟ المُشكلة كانت أنّ هؤلاء الجيران، الذين كانوا يؤلّفون معي عائلة واحدة، صاروا يتفادوني إمّا خجَلًا منّي أو لسبب آخَر كنتُ أجهلُه. فانتظرتُ حتّى حانَ موعد تسليمي الصندوق العام الذي كان فيه مبلغ كبير جمَعتُه بفضل قدرتي على إدارة المصاريف، حتّى تواجَدتُ مع أعضاء اللجنة في مكان واحِد. وبعد عمليّة التسليم لِكامِل، إنفرَدتُ مع أحَدهم فقلتُ له:

ـ لماذا؟ ما الذي بدَرَ منّي خلال السنوات التي مضَت؟

 

ـ التغيير عنصر مهمّ... قد تحدُث تحسينات جديدة مع الأستاذ كامِل... الأمر ليس شخصيًّا، لكنّه وعدَنا بأمور إيجابيّة عديدة لَم تخطُر حتّى في بالكِ.

 

ـ أنا إنسانة واقعيّة ولا أطلق الوعود الزهريّة يمينًا ويسارًا. على كلّ الأحوال، كامِل هو خطيبي وسيُصبحُ زوجي قريبًا، فلا فرق بيننا.

 

قلتُ تلك الجملة الأخيرة مِن دون أن أعنيها بالفعل، لكن فقط للحفاظ على ماء الوجه. وبقيتُ أتفادى التكلّم عن الموضوع مع خطيبي، لكنّه شعَرَ طبعًا بامتعاضي، فقال:

ـ لا عليكِ... ستشكُريني لاحقًا، إذ ستكون لكِ مسؤوليّات كبيرة عندما نتزوّج ونُنجِب، ولن يعودَ لكِ الوقت لهذه الأمور، صدّقيني.

 

ـ لَم يُعجِبني الأسلوب الذي استعملتَه يا كامِل.

 

ـ أنتِ استفزّيتِني، كانت لعبة مِن جانبي، وليس أكثر، رهان أخذتُه بكلّ طيبة قلب.

 

للحقيقة، لَم أُصدّق كلامه بأنّه كان يرفَع التحدّي، فإحساسي قال لي إنّه بالفعل كان يُريدُ إزاحَتي أكنتُ زوجته المُستقبليّة أم لا. بعد ذلك تغيّرَت مشاعري تجاه خطيبي، لكنّني فعلتُ جهدي لأتمسّك بالنقاط الإيجابيّة لعلاقتنا، وصبَبتُ اهتمامي على التحضير للزفاف وإجراء بعض التحسينات في شقّتي التي ستصبح عشّنا الزوجيّ. مِن جهتها، لَم تعرض حماتي المُستقبليّة مُساعدتها عليّ، أو حتّى جاءَت على ذكر زواجي وابنها. على كلّ الأحوال، لَم أكترِث للأمر كثيرًا، فهي ستعيشُ في بيتها ولن تُشكّلُ أيّة مُشكلة بالنسبة لي... أو هكذا ظننتُ.

فكَم كانت دهشتي كبيرة حين وجدتُ في خزانة إحدى غرَف شقّتي، حقيبة تحتوي على ملابس نسائيّة لا تخصُّني! وبعد تفحّصها، إستنتجتُ أنّها لأمّ كامِل، فلقد تعرّفتُ على فستان رأيتُها ترتديه يومًا. سألتُ كامِل عن الأمر فقالَ لي ضاحِكًا:

ـ أجل، إنّها بعض الملابس وضعتُها في تلك الغرفة التي لا تستعملينها، فلَم يعُد هناك مِن مكان لاحتواء ملابس أمّي القديمة.

 

ـ كيف دخَلتَ الشقّة يا كامِل؟

 

ـ أنسيتي أنّكِ أعطَيتِني مُفتاحكِ ذات يوم لأرى ما الخطب في مكينة القهوة لدَيكِ؟

 

ـ أتذكّرُ ذلك، لكنّكِ أعَدتَ لي المُفتاح.

 

ـ صبَبتُ عنه نسخة، في حال احتجتِ إلى شيء آخَر.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ وما المشكلة في ذلك؟ ألن يصبحَ هذا المكان خاصًّا بي أيضًا؟

 

ـ بلى، لكنّني لا أحبّ أن تتصرّف مِن دون إعلامي. أرجو منكَ أن تُعيدَ ملابس أمّكَ إليها.

 

ـ وما الذي يزعجَكِ بهذه الحقيبة الموضوعة في خزانة غرفة لا يستعملُها أحَد؟

 

ـ تلك الغرفة ستصبحُ غرفة ولَدنا أو ابنتنا.

 

ـ الأمر لا يزال مُبكِرًا، ألا تظنيّن ذلك؟

 

ـ لا، فأنوي إعادة تأهيلها وتزيينها على الفور. خُذ الحقيبة لأمّكَ، وابقِني على عِلم دائمًا بما تنوي فعله. أنا لا أحبّ هذا الأسلوب.

 

إمتعَضَ كامِل منّي، لكنّني لَم آبَه لذلك، فكنتُ بالفعل مُستاءة مِن حركاته الغامِضة التي ازدادَت في الأواني الأخيرة.

جاءَ اتّصال مِن أمّ كامل عاتبَتني خلاله على موقفي مِن حقيبة ملابسها، قائلة إنّها منذ البداية شعَرَت أنّني لستُ إنسانة ذات رحابة صدر، بل أنانيّة ومُتعالية. أضافَت أنّها لا تفهَم لماذا أعتبرُ نفسي مُهمّة بينما لستُ سوى "أرملة عاديّة جدًّا". ذِكرها لكَوني أرملة، وكأنّ ذلك يحطُّ مِن شأني أغاظَني، فقرّرتُ عدَم التعاطي معها على الاطلاق أو الإجابة على اتّصالاتها، فإلى متى كنتُ سأتحمّل تنمّرها عليّ؟ ومِن أجل ماذا، من أجل ابنها الماكِر؟

ومع اقتراب موعد الزفاف، صارَ كامِل كثير الاهتمام بي لدرجة أنسَتني ما فعلَه سابقًا، وتصوّرتُ نفسي أنّني سأكون حقًّا سعيدة معه في حياتنا الزوجيّة الآتية. وعندما صارَ كلّ شيء جاهزًا، مِن الاتّفاق مع منسِّق الزهور والمُصوّر والفستان والدعوات، زفَّ لي خطيبي خبَرًا أقلقَني كثيرًا، وهو أنّ أمّه تعرّضَت لسقطة في بيتها أدَّت إلى كَسر وركها، وأنّ الطبيب منَعَها مِن التحرّك، بل أمرَها بالبقاء في السرير إلى حين يلتحِم الكِسر. فطلَبَ منّي خطيبي أن نستقبلها في بيتنا بعد الزواج لفترة زمنيّة ثمّ تعود إلى شقّتها. أقلقَني الأمر كثيرًا، فلَم أكن مُستعِدّة للسكن مع تلك المرأة البغيضة ولو للحظة. لكن مِن جهة أخرى، لَم أقبَل إنسانيًّا أن أتركَ أمّ زوجي لوحدها في هذه الحالة الصعبة.

قرّرتَ أن أزورَ العجوز لأطمئنّ عليها أثناء غياب ابنها، ولأرى إن هي بحاجة إلى شيء، فاستعمَلتُ المُفتاح الذي أعطاني إيّاه كامِل بعد أن أطلعتُه على ما أنوي فعله. قرَعتُ الجرَس ثمّ توجّهتُ إلى غرفة النوم لأرى حماتي المُستقبليّة في سريرها تئنُّ مِن الألَم. قبّلتُها على جبينها وهي نظرَت إليّ بامتنان وشكرَتني على اهتمامي، وتحدّثنا قليلًا عن انتقالها لشقّتي بعد الزواج. ثمّ هي أشارَت لي بأصبعها إلى زاوية غرفتها حيث كانت حقيبة مُجهّزة لنَقل أمتعتها، فلاحظتُ على الفور أنّ تلك الحقيبة هي نفسها التي وجدتُها في خزانة غرفة بيتي. طلبتُ منها الإذن بتفقّد محتوياتها لأرى إن كان كلّ شيء جاهزًا، وتفاجأتُ مرّة أخرى بإيجاد الأمتعة نفسها وكأنّ الحقيبة لَم تُمَسّ منذ تلك الحادِثة. ولأنّني أتحلّى ببعض الذكاء والحمدالله، فهمتُ أنّ الحقيبة بقيَت كما كانت، وأنّ الهدَف كان نفسه منذ البدء: أن تسكُن حماتي معنا. فحجّة كامِل في المرّة الأولى كانت أنّ لا مكان لهذه الملابس في بيت أمّه، أيّ أنّها هدوم لا تُستعمَل كثيرًا، فكيف أن تأخذها معها دون سواها حين تنتقِل إلى شقّتي؟ عندها قرّرتُ التقصيّ عن تلك "السَقطة" المُفاجئة والتي حدثَت في وقت مُناسِب جدًّا!

إنتظرتُ بضع أيّام تصرّفتُ خلالها بشكل طبيعيّ جدًّا، أيّ أنّني بدأتُ أُحضِّر الغرفة التي ستمكثُ فيها حماتي، وبكلّ طيبة خاطِر ليطمئنّ بال كامِل وأمّه مِن ناحيتي. ثمّ اخترتُ وقتًا لا يكون خطيبي في بيته، بل في عمَله، فأخذتُ إذن بالخروج مِن عمَلي، وصعدتُ سلالِم المبنى على مهل ثمّ ألصقتُ أذُني على باب شقّة العجوز. إنتظرتُ وقتًا طويلًا، ثمّ سمعتُ حرَكة في الداخل آتية مِمَّا استنتجتُ أنّه المطبخ، لأفتَح باب الشقّة وأدخلها على رؤوس أصابعي. وإذ بي أرى أمّ كامِل واقِفة في مطبخها تطهو وجبة الغداء وكأنّها لا تشكو مِن شيء! عندها صرختُ بها:

ـ حماتي! كَم أنا مسرورة برؤيتكِ مُتعافية هكذا! يا للمُعجِزة! هذا يعني أنّ لا لزوم لتنتقِلي إلى شقّتي!

 

ثمّ فاجأتُها بأخذ صورة لها بهاتفي، الأمر الذي أغضبَها كثيرًا فصرخَت بي: "أيّتها الفاجِرة!".

وفور وصولي مكان عمَلي، أرسلتُ الصورة لكامِل مُرفقة بهذه الكلمات: "لقد تعافَت أمّكَ تمامًا بفعل ساحِر... فلتبقى في مسكنها، فلا حاجة لها بعد الآن لمُساعدة أحَد. على فكرة، هي حضّرَت لكَ طبقكَ المُفضّل، ألف صحّة لكَ ولها!". لَم يُجِب كامِل على الفور، فأظنّ أنّه خابَرَ أمّه أوّلًا ليرى ما حدَث، ثمّ قال خطّيًّا: "أجل، تعافيها مُفاجئ لكنّها قد تنتكِس مِن جديد، مَن يدري؟". فأسرعتُ بالقول: "لن تطأ قدماها شقّتي سوى لزيارتنا، أفهمتَ؟!؟

بعد ذلك، لَم أعُد أريدُ الزواج مِن كامِل على الاطلاق، فهو برهَنَ عن مِكر واضح. وسألتُ نفسي إن هو أحبَّني بالفعل أم رأى فيّ وسيلة للراحة والربح. فاستنتجتُ أنّه كان يُخطّط لِنقل أمّه إلى شقّتي، وبَيع مسكنه لاحِقًا والاستفادة مِن هذه الفرصة الذهبيّة... والربح مِن صندوق لجنة المبنى، لأنّه اتّضَحَ أنّ الذي كنتُ أنوي الزواج منه مدَّ يدَه إلى المبلغ الموجود فيه لِمنفعته الشخصيّة. فيوم احتاجَ المبنى لبعض التصليحات مُفاجئة، وجَدَ أفراد اللجنة أنّ المال الموضوع جانِبًا لَم يكن كافيًا. صحيح أنّ الحسابات التي قدّمَها كامِل كانت مُطابِقة للمبلغ المُتبقّي، إلّا أنّ الجميع تذكَّرَ أنّ المحتوى كان أعلى بكثير. وقد اتّضَحَ أنّه زوَّرَ الحسابات وصَرَف المال! تمَّ طرده على الفور مِن منصبه ورُفِعَت دعوى ضدّه بتهمة الاختلاس، إلّا أنّ خطيبي السابق أسرعَ بردّ المبلغ والانتقال وأمّه مِن المبنى إلى وجهة مجهولة. لكنّ أعضاء اللجنة رفعوا شكوى لنقابة المُحامين فتمّ شَطبه منها، الأمر الذي أفرحَني بعد كلّ الذي فعلَه بي. بعد أيّام تمّ انتخابي مِن جديد على رأس اللجنة، مع اعتذارات شديدة قُدِّمَت لي بحرارة. قبِلتُ بالمنصب فقط لأنّني كنتُ قادِرة على تحسين أوضاعنا في المبنى، ولأنّني أدركتُ أنّ هؤلاء وقَعوا ضحيّة كامِل كما جرى معي، فهو كان يتمتّع بقدرة إقناع هائلة.

لَم آسَف على عريسي الثاني، بل شكرتُ ربّي أنّني كنتُ ذكيّة كفاية لفَهم اللعبة التي كانت تُحضَّر لي. فعواطفنا تحجبُ عنّا الرؤية الصحيحة فنفقدُ موضوعيّتنا، كما في حالتي، حين تتقدّم لي فرصة ثانية للسعادة والانجاب.

فهمتُ أخيرًا أنّ نصيبي كان العَيش مِن دون رجُل أو أولاد، فنسيتُ أمر الحبّ والزواج إلى حين يأتي الانسان المُناسِب إلى حياتي. وإن لَم يأتِ، فلدَيّ عمَل جيّد وعائلة مُحِبّة وجيران يُحيطون بي، فلستُ بحاجة إلى كمّيّة حبّ واهتمام أكبَر. سأتركُ أمري لله، فهو يعرفُ ما هو الأفضل لي وما بإمكانه إسعادي. وثقتي به كبيرة، ألَم يُنقِذني مِن مخالِب كامِل وأمّه؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button