عريس بالمزاد (الجزء الأول)

كان العيد قد اقترَبَ، ورحتُ وخطيبتي إلى الأسواق لتختار هديّتها منّي. ولأتمكّن مِن إرضاء ذوقها الرّفيع، عملتُ على إدّخار المال مدّة أشهر آملاً أنّني سأكون على قدر توقّعاتها. فالواقع أنّ مايا كانت فائقة الجمال وتتحدِر مِن عائلة مُرتاحة مادّيًّا، بينما أنا رجُل عاديّ أعملُ في شركة صغيرة في قسم الزبائن. هي لَم توحِ لي يومًا بأنّني أقلّ منها شأنًا وكذلك أهلها، فهم إستقبلوني في بيتهم وكأنّني واحد منهم. وحين طلبتُ يَد مايا، وافَقَ والدُها بسهولة، الأمر الذي أدهشَني قليلاً. وقد وعدتُه بأنّني سأفعلُ جهدي لإسعاد إبنته وهو أجابَني: "بالطبع، بالطبع".

إختارَت مايا خاتمًا بسيطًا كهديّة لها، وكنتُ ممنونًا لها ضمنًا لأنّها لَم تحرجني كما سبَقَ وحصَلَ يوم رحنا إلى مطعم فخم ولَم يكن لدَيّ مال يكفي لتسديد كامل الفاتورة. عندها هي ابتسمَت لي بحنان وأخرجَت مِن حقيبتها رزمة مِن المال وقامَت بالواجب. وبعد خروجنا مِن ذلك المطعم، طلبتُ منها عدَم تكرار ما فعلَته، وأنّ الحلّ الأنسَب هو أن نقصد أماكن أكثر رخصًا في المُستقبل.

أمّي، مِن ناحيتها، لَم تِحبّ مايا وأهلها، ربّما لأنّها شعرَت أنّهم مِن طبقة لن نصِل إليها يومًا حتى بالإقتران. وقد نصحَتني بتركها لكنّني لَم أفعل لأنّني كنتُ أحبُّها. يا لَيت الأهل يتركون أولادهم يُقرّرون مصيرهم بأنفسهم! لا تُسيؤوا فهمي أيّها القرّاء، فلَم أكن فقيرًا، مع أنّ الفقر ليس أمرًا مُعيبًا، بل كنتُ أجني ما يكفي لحياة وجدتُها مقبولة نسبة لمُحيطي. وقبل أن أتعرّف إلى حبيبتي، كنتُ بالفعل أعدُّ نفسي إنسانًا مُنتجًا. لكنّ الأمور هي نسبيّة، وصرتُ أخجَل مِن راتبي وأمور أخرى مُقارنةً بِنمَط عَيش مايا. شيء آخر أزعجَني، وهو أنّني، بالرّغم مِن علاقتي الطيّبة مع أهل خطيبتي، لَم أتعرّف إلى باقي العائلة أو الأصدقاء المُقرّبين. وشعرتُ أنّهم أبقوني في الظلّ، لكن إلى متى؟ ألَم أكن سأصبح صهرهم في العلَن؟ تصرّف بالفعل غريب لأناس يعدّون أنفسهم لائقين. لكنّ حبّي لمايا غطّى على مخاوفي كلّها، وفكرة قضاء حياتي مع مخلوقة بِروعتها كانت الأهمّ.

إشترَت لي خطيبتي ملابس جميلة، ليس بسبب ملابسي العاديّة، كما قالَت، بل لأشعر ببعض التغيير. لَم أرفض فقط لأنّ ذلك كان يُفرحُها. وفي كلّ مرّة، كانت مايا تأخذُ لنا صورًا عديدة مُتعانقَين وسعيدَين. سالتُها عن ماذا تنوي أن تفعل بتلك الصوَر، لأنّني لا أحبُّ أن أظهر على مواقع التواصل الإجتماعيّ، وهي أكدَّت لي أنّها لنا فقط لنتذكّر لاحقًا أيّام الخطوبة. في الواقع، هي كانت تأخذُ الصوَر في كلّ مُناسبة مهما كانت صغيرة، كما يفعل العديد في أيّامنا هذه. وما الضرَر في ذلك طالما كانت سعيدة؟

 


ثمّ أطلعَتني مايا على نيّتها السّفَر إلى عمّتها في فرنسا في فترة الصيف لتكون معها في زفاف إبنتها الوحيدة. وهي لَم تدعُني لِمُرافقتها بسبب إنشغالي في عمَلي طبعًا، ووعدَتني بإرسال العديد مِن الصوَر لي والبقاء على تواصل مُستمرّ معي. دعوتُ لها بالتوفيق ولإبنة عمّتها، وأخذتُها وشنطها إلى المطار حيث تعانَقنا مُطوّلاً قبل أن تختفي عن أنظاري. وخلال غيابها، دعاني أبواها مرارًا إلى الغداء أو العشاء، فشعرتُ حقًّا بأنّني واحد منهم. بقيَت خطيبتي على وعدها لي، فأرسلَت لي صورًا عديدة مِن فرنسا، وكان مِن الواضح أنّها تستمتعُ بوقتها في الأماكن السياحيّة والمطاعم. لَم ارَ العروس معها لكنّ الأمر لَم يكن يعني لي الكثير، فما شأني وشأنها؟

عادَت مايا فرحة ومُبتسمة، وقصّت عليّ مئة قصّة عن مكوثها هناك وعن الفرح العظيم الذي أُقيَم لقريبتها. ومِن بعد ذلك عُدنا لحياتنا الإعتياديّة سويًّا. أحبَبتُ أن نُحدِّد موعد زفافنا نحن، إلا أنّ خطيبتي أجّلَت الموضوع إلى ما بعد السنة الجديدة. فلِما العجلة؟ فكنّا موعودين لبعضنا بمعرفة أهلنا. على كلّ الأحوال، كنتُ بحاجة إلى بعض الوقت لتجميع مبلغ مُحترم مِن المال لشراء الحُلى لعروستي، بعد أن وعدَني أبوها بأنّه سيدفع كامل تكاليف الفرَح. لَم أكن لأقبَل بعرضه هذا لولا يقيني بأنّني غير قادر على الإطلاق على تأمين زفاف يليق بإبنته.

وقرابة آخر السنة، أٌصيبَت مايا بوعكة صحّيّة كبيرة منعَتني مِن رؤيتها لأكثر مِن عشرة أيّام بسبب خطر العدوى. لَم أكن خائفًا على نفسي، بل إقتنعَت بعدَم زيارة خطيبتي وأهلها كي لا أحمل العدوى لأمّي التي كانت تعاني مِن مشاكل صحّيّة عديدة. تعافَت حبيبتي بعد ذلك وقبّلتُها مئة قُبلة. وعند مطلع السنة... تركَتني مايا مِن دون تفسير.

إضافة إلى ذلك، أُغلِقَ في وجهي باب دارها وصرتُ غريبًا بين ليلة وضحاها. ما الذي فعلتُه لأستحقّ الإبعاد والعَزل؟ كلّ ما علمتُه مِن مايا أنّ أباها قرَّرَ فجأة أن يُزوّجها لرجُل آخر في الغربة. كيف له أن يتراجع عن وعده لي، وهل أنا لعبة لدَيه؟ لقد حطَّمَ قلبي وجعلَني مضحكة بين أقاربي ومعارفي. حاولتُ الإستفسار لكن مِن دون نتيجة للأسف. كانت حبيبتي قد أُرسِلَت لإنسان آخر كسلعة وضيعة. كيف يفعلون بها وبي ذلك؟ أُصبتُ بإنهيار عصبيّ وأخذتُ إجازة مرضيّة مِن عمَلي. لَم تعُد الحياة تعني لي شيئًا مِن دون جميلتي، وقد يكون مِن الأفضل لي أن أموت.

وبالفعل حاولتُ إنهاء حياتي يوم رأيتُ على مواقع التواصل صوَر فرَح مايا مع عريسها. أخذتُ قارورة مِن مُهدّئات والدتي وابتلَعتُ كمّيّة هائلة مِن الأقراص. غرقتُ في غيبوبة لمدّة أسبوع، إلى حين استفقتُ أخيرًا. وعندما تحسّنَت حالتي، أقنعَتني أمّي أن أُسافر إلى أخيها في الولايات المُتحّدة وأن أبقى هناك. لَم تُعجبني الفكرة أوّلاً، ومِن ثمّ وجدتُ أنّ لا منفعة لي بالبقاء في البلد حيث كلّ شيء يُذكّرني بمايا. حاولتُ توديع أهلها بالرّغم مِمّا فعلوه بي إلا أنّهم بقوا يتجاهلوني.

عمِلتُ في أمريكا لدى خالي الذي يملكُ شركة تصدير، وهو رأى فيّ الإبن الذي كان يتمنّاه، فإبنه لَم يكن نافعًا بل يقضي وقته بصرف مال أبيه على النساء والسيّارات. فهؤلاء الناس كانوا أثرياء بفضل أعمالهم في بلَد حيث بإمكان أيّ أحد أن ينجَح ويزدهر. وجدتُ فرقًا شاسعًا بين حياتي وعمَلي في البلد، وبين فُرص النجاح في الولايات المُتحّدة، وندِمتُ لأنّني لَم أُسافر قبل ذلك إذ كان خالي قد دعاني مرّات عديدة للإنضمام إلى فريق عمَله.

 


بقيتُ أُلاحِق أخبار مايا مِن خلال الصوَر التي كانت تنشرها على حساباتها، وبدَت لي سعيدة. وما عساها تفعَل غير ذلك؟ فقد كان والداها قد أجبراها على الزواج، وما نفع العَيش بالعذاب طوال الوقت؟

عرّفَني خالي إلى صبايا جميلات مِن عائلات مُحترمة، لكنّني لَم أكن قد شفيتُ مِن حبّ مايا كلّيًّا، لِذا ركّزتُ على العمَل والتقدّم، لإعتقادي أنّ سبب تزويج حبيبتي مِن آخر كانت حالتي المادّيّة. لكن ماذا كنتُ أنتظر مِن نجاحي في أمريكا؟ ربّما أن أثبِت لأهلها أنّني صرتُ أيضًا ثريًّا، على أمَل أن يندموا لطردهم لي مِن حياتهم.

جلبتُ والدتي إلى الولايات المُتحّدة أخيرًا واطمأنّ بالي عليها. بعد ذلك، سارَت حياتي كما خطّطتُ لها، وصرتُ شريك خالي في العمَل. فهو أحبَّ أن يستريح بعد أن قضى حياته بالعمَل الدؤوب. لكنّ قلبي بقيَ فارغًا عن قصد، ووجود والدتي معي ملأ ذلك الفراغ نوعًا ما. كنتُ سعيدًا، على الأقل مِن الخارج وكان ذلك كافيًا لي.

مِن جانبها، أنجبَت مايا الأولاد وعرضَتهم بفخر على صفحتها. فرحتُ لها أنّها وجدَت توازنًا في حياتها، على عكسي، لكنّ فكرة أن يكون أحدنا سعيدًا كانت مُرضية. ألَم نكن أولاد مُجتمع لا يبحث سوى عن المال والنسَب؟ لو علِم والدا مايا كيف صارَت أحوالي لَشعرا بأنّهما استعجلا بفعلتهما. لكن بعد التفكير، وجدتُ أنّني لَم أكن لأغتني لو بقيتُ في البلد، بل لاستمرَّيتُ في عملي البسيط. لِذا توقّفتُ عن التخيّل، فهو أمر لا منفعة منه.

يوم زارَ الشركة وزير الاقتصاد وأعطانا وسامًا لِمُساهمتنا بإزدهار الولاية، نشرتُ الصوَر على صفحتي على مواقع التواصل، فكنتُ فخورًا بنفسي. وتلك الصوَر بالذات أثّرَت بشكل مُباشَر على باقي أحداث حياتي. فبعد أيّام، تلقَّيتُ رسالة مِن مايا على الخاص. كادَ قلبي أن يتوقّف، وشاورتُ نفسي إن كان عليّ الردّ على تهنئتها لي أم لا. عدتُ وقرّرتُ أنّ لا ضرر مِن ذلك فكتبتُ لها: "شكرًا جزيلاً". إلّا أنّ ردّها أدهشَني إلى أقصى درجة لأنّها كتبَت: "أتعرفُ أمرًا؟ لقد اشتقتُ إليكَ كثيرًا". تدحرجَت الدموع على خدَّيّ، فحلِمتُ سرًّا مرارًا أن يكون ذلك شعورها تجاهي. جلستُ أُفكّر بالذي يحصل غير مُصدّق أنّه ليس حلمًا بل حقيقة.

ومنذ ذلك اليوم، بدأتُ ومايا نُرسلُ لبعضنا الكلمات الجميلة والرومانسيّة. كنتُ سعيدًا إلى أبعَد حدّ، حتى لو أنّ حبيبتي في بلد أوروبيّ ومُتزوّجة وأمّ.

لكنّني لَم أتخايَل كَم كانت ستنقلبُ الأمور والأحداث بعد ذلك!

 

يتبع...

المزيد
back to top button