كنتُ أسمَع بعبارة "الحبّ أعمى"، إلا أنّني لَم أفهَم مدى صحّتها سوى حين وقَعَ ابن عمّي سالِم بغرام تالين. فهو لطالما كان رجُلاً عاقِلاً يدرسُ كلّ شيء بأدقّ تفاصيله، ويأخذُ وقته في ما يخصّ قراراته. كيف له أن يمضي بتلك العلاقة السامّة ويقَع هكذا كالمُراهق؟ فلقد رأيتُ بعَينَيّ نزوله إلى ما أسمَيتُه "جهَنّم".
لن تفهموا خطورة ما حصَل إلا بعد ما أقصُّ عليكم تفاصيل قصّة حبّ سالِم لِتالين، لكن عليّ أيضًا أن أشرَح طبيعة علاقتي بسالِم: فهو، إضافة إلى كَونه ابن عمّي، كان بمثابة أخ لي. فلقد تربَّينا سويًّا بعد أن سافَرَ أبوه إلى أمريكا، إثر طلاقه وتركه عند أخيه، أي معنا. عمِلنا كلّنا للترفيه عنه، خاصّة أنّ أمّه تزوّجَت بعد فترة ولَم نعد نسمَع عنها. للحقيقة، إندمَجَ سالِم معنا بسرعة، ربّما لأنّه كان لا يزال صغيرًا، وخاصّة معي فقد كان سنّنا يجمعُنا. ولَم نفترِق منذ ذلك الحين... إلا بعد قدوم تالين إلى حياتنا.
في تلك الأثناء، رحنا المدرسة سويًّا ودرَسنا سويًّا ولعبنا أيضًا سويًّا. وكنّا نتشارَك أسرارنا ونُدافِع عن بعضنا عند الحاجة. وخلال سنوات طويلة، لَم يستطِع أحَد التفريق بيننا... إلا تالين.
دخَلنا الكلّيّة نفسها وتخصّصنا وتشارَكنا مشاريعنا المُستقبليّة، وما هو أهمّ، أقسَمنا أنّ لا شيء أو أحَد سيُبعدُنا عن بعضنا، إذ قرَّرنا حين يتزوّج كلّ منّا بدوره أن نسكنَ الحَيّ نفسه أو إذا استطَعنا، المبنى نفسه. فكيف لي أن أعيشَ بعيدة عن سالِم وهو بعيدًا عنّي؟
تزوّجتُ قَبل ابن عمّي. وقَبل أن أختارَ وخطيبي مسكننا، تشاوَرتُ مع سالِم. على كلّ الأحوال، فهِمَ الرجُل الذي اختَرتُه إلى أيّ درجة أنا مُتعلّقة بقريبي ولَم يرَ أيّ خطَب في ذلك، خاصّة بعد أن تعرّفَ إليه وأحبَّه. وأكثر ما أحبَّه خطيبي في ابن عمّي، أنّه يستطيع أن يُطمئنَ باله في حال حدَث له مكروه يومًا.
بدأتُ حياتي الزوجيّة بفرَح وأمَل، وراحَ سالِم يُفتّش عن عروس لتكتمِل حياته. ويوم عرّفَني وزوجي على تالين، إنتابَني شعور سيّئ لَم أستطِع تحديده. هل كانت نظراتها السبب، أم حركاتها، أم فقط الموجات السلبيّة النابعة منها؟ لستُ أدري.
لَم تُحبّني تالين هي الأخرى، أيّ أنّ الشعور كان مُتبادلاً، لكن لأسباب مُختلِفة. فهي رأت على الفور القرب والتفاهم الموجودَين بيني وبين سالِم وشعرَت بالخطر. إنسانة مُتوازنة نفسيًّا كانت لترى في ذلك أمرًا جيّدًا ولاطمأنّ بالها على حبيبها، لكن في حالة تالين، فقد اعتبرَتني عدوّة وعثرة في طريقها. لِذا هي عمِلَت منذ اللحظة الأولى على إبعادي.
بدأت تالين حربها عليّ قَبل أن يتمّ زواجها مِن سالِم، تحضيرًا لِهيمَنتها الكاملة عليه. ستقولون إنّني أُبالِغ وربّما تتراءى لي أشياء غير موجودة. للحقيقة، هذا ما اعتقدتُ أيضًا، لكنّ الأحداث التي تلَت أثبتَت لي أنّني كنتُ على حقّ.
بالطبع لَم أُطلِع سالِم على مشاعري السلبيّة بعد تعرّفي على تالين، فالمسكين كان فرِحًا للغاية أنّ أهمّ امرأتَين في حياته أصبحا يعرفان بعضهما، وأنّ حياتنا نحن الأربعة ستكون مليئة بالفرَح والحبّ. إلا أنّني بقيتُ على حذَري مِن تالين، على أمَل أن أكون مُخطئة بما يتعلّق بها. فكلّ ما كنتُ أتمنّاه هو سعادة ابن عمّي العزيز وأخي الروحيّ. بدأنا نخرجُ سويًّا، وبعد عودتنا في إحدى المرّات، سألت زوجي عن رأيه في تالين:
ـ إنّها تتصرّف معه وكأنّه طفل. أرأيتِ كيف هي تختار عنه ما سيأكله؟
ـ ربّما هي تُحافظ على صحّته، فهو جسيم البنية.
ـ هي تُقاطعه كلّما بدأ بالكلام.
ـ قد تكون تالين تُريدُ إثبات نفسها أمامنا بإبداء رأيها في مواضيع مُختلِفة، فلا تنسَ أنّ سالِم مُثقّف جدًّا، على خلافها.
ـ لا تُدافعي عنها، فلقد رأيتُ على وجهكِ علامات الانزعاج على ما فعلَته.
ـ أنتَ على حقّ، فإنّكَ تعرفُني جيّدًا. على كلّ الأحوال، ما يهمّ هو أن يكون سالِم سعيدًا، فللصراحة بدا لي مُرتاحًا لتصرّفات تالين.
دافعتُ عن تالين أمام زوجي كَي لا يقول إنّني لَم أحِبّ خطيبة ابن عمّي لأنّها أخذَت مكاني في حياته. لكنّني كنتُ بالفعل مُستاءة مِن مُعاملتها له، ولَم تكن تلك أوّل مرّة أراها مُسيطرة عليه. لكنّ الوقت كان لا يزال مُبكِرًا لتكوين رأي واضح وثابِت عن تلك الصبيّة. لكنّ أخبار سالِم بدأَت تشِحُّ تباعًا مع اقتراب زفافه، وكلّما اتصَلتُ به تكون لدَيه انشغالات كثيرة. وحين أتى يوم ارتباطه الرسميّ بتالين، كان قد مضى زمَن على رؤيتي له، الأمر الذي لَم يحصل مِن قَبل. هنّأتُه وهمَستُ له: "إيّاكَ أن تنسَني يا سالِم، أنا أختكَ الوحيدة!"، وهو هزّ برأسه إلا أنّني لَم أرَ في عَينَيه أنّه فهِمَ الرسالة. ذهَبَ وعروسه إلى شهر العَسل، ثمّ سكَنا في شقّة اختارَها بعيدة عنّي، وانقطعَت أخباره لفترة. للحقيقة، إنشغَلَ بالي عليه، لكنّني تركتُه يتمتّع بأيّام زواجه الأولى. ثمّ اتّصلَتُ به لنتّفق على موعد كي أزوره وزوجي لكنّه اعتذَرَ عن استقبالي. والعذر الذي أعطاني إيّاه لَم يكن مُقنعًا، لِذا قرّرتُ زيارته في مقرّ عمَله، فكنتُ اعتدتُ أن أقصدَه هناك كلّما احتجتُ لرؤيته لسبب طارئ. لكنّ ابن عمّي قالَ لي لحظة دخلتُ مكتبه:
ـ يا لَيتكِ أطلَعتِني على قدومكِ.
ـ لماذا؟ فأنا أجيء إلى هنا مِن دون موعد عادةً. ما بكَ يا سالِم؟ أعرفُكَ أكثر مِن أيّ شخص آخَر في الدنيا، ولن تقنعَني أنّ ليس هناك مِن خطَب.
ـ حياتي الزوجيّة تأخذُ كلّ وقتي.
ـ لماذا تُديرُ نظرَكَ عنّي يا سالِم؟ أنظُر إليّ وأنتَ تكذِب عليّ!
ـ لماذا أنتِ عدائيّة معي هكذا؟ على كلّ الأحوال أنتِ عدائيّة مع الكلّ.
ـ مع مَن مثلاً؟
ـ مع تالين مثلاً. ماذا فعلَت لكِ عروسي؟ إنّها ملاك!
ـ عامَلتُ تالين بمحبّة ورفق منذ البداية، ولا أدري إن هي ملاك أم لا، بل أسألُ نفسي ما الذي غيّر علاقتكَ بي.
ـ أترَين؟!؟ أنتِ تتّهمينها بشيء لَم تفعله! هي كانت على حق حين قالَت إنّكِ تغارين مِن قربها منّي. فلهذا السبب عامَلتِها بقساوة وجفاف.
ـ سالِم! أنتَ تتصرّف وتتكلّم وكأنّكَ لا تعرفُني! هذا أنا، إبنة عمّكَ وأختكَ! تُصدّقُ إنسانة غريبة وتُكذّبُني؟!؟ لقد خذَلتَني كثيرًا!
ـ أنتِ خذَلتِني... بدلاً مِن أن تفرَحي لي، أنتِ تُحاولين تدمير زواجي.
ـ تدمير زواجكَ؟!؟ ما هذا الكلام الخطير! تتكلّم وكأنّني أتدخَّل بزواجكَ وأُخطِّط وأُنفِّذ! مِن المؤكِّد أنّكَ تفقدُ عقلكَ والسبب معروف! لن أزعجكَ بعد الآن، لكنّني سأبقى موجودة على الدوام مِن أجلكَ.
أخبرتُ زوجي عن حديثي مع سالِم، وهو نصحَني بتركه لفترة والانتظار إلى حين يُدرك خطأه. حزِنتُ كثيرًا وشعرتُ أنّني فقدتُ رفيق عُمري ونصفيَ الآخَر.
بعد فترة مِن الصمت، بعَثَ لي سالِم رسالة خطّيّة مفادها أنّ زوجته حامِل. هنّأتُه وانتظَرتُ بفارغ الصبر لأرى المولود، خاصّة أنّه قالَ لي إنّه سيُعطيه اسم أبي كعربون شكر لِما فعلَه مِن أجله.
وُلِدَ ابن سالِم لكنّني لَم أرَه بعد أن قالَ لي أبوه إنّ المولود لا يتمتّع بالمناعة الكافية ليُحاط بالأغراب. الأغراب؟!؟ فهمتُ أنّ هذه العبارة ليست منه بل مِن تالين، ولَم يسَعني فعل شيء. فلن أرى ابن سالِم إلا حين تسمَح أمّه بذلك.
لكنّني تفاجأتُ بخبَر سفَر سالِم وعائلته الصغيرة إلى الخارج. عندها فهِمتُ أنّ تالين تُريدُ عَزل زوجها عن كلّ شيء وأحَد عرفَه يومًا. لكن كيف لابن عمّي أن ينصاع لها هكذا؟!؟ فهو لَم يكن يومًا رجُلاً ضعيفًا! مهلاً... هل لأنّه رأى في تالين صورة عن أمّه؟ هل أعطَته، على الأقلّ في البدء الحنان الذي كان يفتقد إليه؟ لستُ أدري. ودّعتُ سالِم برسالة صوتيّة ودعوتُ له ولعائلته بالتوفيق. هل كنتُ سأراه مُجدّدًا؟
إنقطعَت أخبار ابن عمّي كلّيًّا، إلا أنّني بقيتُ أعرفُ بعض التفاصيل عنه عبر صفحة تالين على مواقِع التواصل الاجتماعيّ، على الأقلّ جزئيًّا، فكانت تلك المرأة تنشرُ صوَرها إمّا لوحدها أو مع ولَدها. ونادرًا ما استطعتُ رؤية سالِم في زاوية إحدى الصوَر، إلا أنّه بدا لي نحيلاً للغاية وحزينَا... هل تراءى لي ذلك؟
لَم يُرزِقني الله أولادًا، وقبِلنا مشيئته. ولَم يؤثِّر ذلك على زواجنا بل تعلّقنا ببعضنا أكثر، فخفَّ حزني على فقدان الاتّصال بابن عمّي. أليس ذلك ما أرادَه؟ ليُسعِده الله أينما كان.
لكنّ سالِم عادَ مع زوجته وابنه إلى البلَد بعد حوالي السبع سنوات مِن رحيله، وعلِمتُ برجوعه منه شخصيًّا! فهو اتّصَلَ بي طالبًا منّي أن أُقابله في أحَد المطاعم. لَم أصدِّق أذنَيّ فركضتُ لِمُلاقاته وعانقتُه مُطوّلاً. كان سالِم قد رجِعَ لي أخيرًا! إلا أنّه كان بالفعل نحيلاً وحزينًا وحتّى صوته كان مُختلفًا. جلَسنا وأمسَكتُ بِيَده سائلة ما الخطب وهو أجابَ:
ـ لَم أعُد أتحمّل هذه الحياة... لقد حاولتُ... فعلتُ كلّ ما هي طلبَته منّي... لا أدري لماذا لا أستطيع الوقوف في وجهها.
ـ لماذا عدتُم؟
ـ عُدنا لأُبعِدها عن عشيقها.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، فهي تعرّفَت على أحد هناك عبر الانترنِت وذهبَت للقائه... وحصَل الذي حصَل.
ـ يا إلهي! ولماذا لَم تتركها؟!؟
ـ لأنّها أقنعَتني بأنّني السبب، فلقد أهمَلتُها منذ وصولنا إلى هناك لأبحَث عن عمَل ونستقرّ ولاحقًّا بالعمَل نوبتَين . فالأمور لَم تكن سهلة.
ـ ما هذه الحجّة السخيفة؟ فالزوجة تُسانِد زوجها في أوقاته العصيبة، خاصّة إن كانت هي السبب في السفر إلى بلَد غريب!
ـ وهناك ابننا، لا أُريدُه أن يربى بلا أمّ. تالين ليست سيّئة بل اقترفَت مُجرّد غلطة... فنحن بشَر في آخِر المطاف. سامحيني أرجوكِ لمُقاطعتكِ هكذا، إلا أنّ تالين صعبة المزاج ولا تُحبّ أحدًا.
ـ وأنتَ تُحبّها كثيرًا، أليس كذلك؟
ـ أجل، أكثر مِمّا تتصوّرين. لكن لا تخافي، شَرطي لمُسامحتها كان أن أستعيدَ علاقتي بكِ وبالجميع... سنعودُ كما في السابق، سترَين.
ـ أرجو ذلك مِن كلّ قلبي يا سالِم، مِن كلّ قلبي.
للحقيقة لَم أُصدّق أنّ امرأة كتالين يُمكنها تقبّل ما رفضَته بقوّة مِن قَبل. إضافة إلى ذلك، هي رأت أنّ زوجها سامحَها على أكبر غلطة مُمكِن أن تُرتكَب مِن قِبَل زوجة. وأظنّ أنّها أدركَت مدى تمكنّها منه. ليكن الله في عَونكَ يا ابن عمّي!
واتّضَحَ أنّ خوفي كان في محلّه. فبعد مُحاولات قليلة للجَمع بيني وبين تالين، هي بدأَت ترفض رؤيتي أو زوجي، بل صارَت عدائيّة معنا ووصَلت وقاحتها للقول لي يومًا:
ـ تبًّا لكِ! ألن تختفي مِن حياتنا؟!؟ أنا أكرهُكِ!
ـ لماذا يا تالين؟ ما الذي فعلتُه لكِ لتكنّي لي هذه المشاعر السلبيّة؟ لَم أتدخّل يومًا في زواجكما أو بينكما بل احترَمتُ خصوصيّتكما.
ـ يا لَيتكِ تموتين!
ـ يا إلهي! ما هذا الكلام؟!؟
وبينما أخَذَ زوجي بِيَدي وسحَبَني للخروج مِن بيت ابن عمّي، تدخّل سالِم أخيرًا، وقال لزوجته:
ـ أصمُتي يا تالين! كان بيننا اتّفاق!
ـ أصمُت أنتَ يا شِبه الرجال! أنا زوجتكَ وعليكَ احترامي والدفاع عنّي! إسمَع، لطالما شعرتُ أنّ هناك شيئًا بينكَ وبين ابنة عمّكَ!
ـ إبنة عمّي أشرَف منكِ يا تالين! على الأقلّ هي ليست خائنة مثلكِ!
عندها صفعَت تالين سالِم بقوّة وشتمَته. أمّا هو، فسكَتَ وامتلأت عَيناه بالدموع خجَلاً منّا. وشيئًا ما في قلبي قال لي إنّها ليست المرّة الأولى التي تصفَع فيها تالين ابن عمّي. رحَلنا بسرعة لكنّ بالي كان مشغولاً للغاية على سالِم، فقَبل أن نخرج مِن ذلك البيت، إستدَرتُ نحو سالِم ورأيتُ نظرته إلى زوجته، نظرة حقد عميق.
يتبع...