عذاب النار

عندما رأيتُ مُحسِن مِن جديد في جنازة والدتنا، بالكاد تعرّفتُ عليه. إقتربتُ منه وأمسكتُ بِيَده، فلا بدّ أنّه عانى أكثر منّا جميعًا مِن فقدان والدته.

في الواقع، لقد بقيَ مُحسِن في منزل العائلة بعد أن ماتَ أبي، وغادرنا جميعًا لِنعيش حياتنا مع أزواجنا وزوجاتنا. وللحقيقة، كان هو الأصغر سنًّا بيننا ولم يكن غريبًا في تقاليدنا أن يبقى الأصغر في البيت بإنتظار الزواج وتكوين أسرة. لكنّه لَم يتزوّج وكان مِن الواضح أنّ السبب الأوّل والأخير هو والدته.

فكنّا نعرفُ جميعًا أنّ أمّنا لَم تكن سهلة الطباع، لا بَل العكس تمامًا. وزواجنا المُبكر كان بالحقيقة هربًا منها. كنّا نحبُّ تلك المرأة إلا أنّها لَم تُبادلنا هذا الحبّ، أو على الأقلّ ليس كما تفعلُ أيّ أمّ غيرها. إضافة إلى قساوة قلبها، فقد كانت مُتسلّطة وعنيدة لا تقبلُ أن تُعصى أوامرها حتى لو كانت خاطئة. كنتُ قد عرضتُ في ما مضى على أخي الصغير العَيش معي أو مع أيّ مِن أخوَتي أو أخواتي، إلا أنّه طمأنَني بأنّه سيكون بِخير. لكنّه ظهَرَ لي بحالة يُرثى لها في ذلك النهار، فاصطحبتُه بالقوّة إلى منزلي حيث بدأ بالبكاء على أمّنا وبالكاد أكَلَ أو شربَ شيئًا. عادَ مُحسِن إلى البيت عالمًا تمام العلم أنّ المكان الذي ينتظرُه سيكون فارغًا وباردًا، بعد أن تركَته صاحبته المُفعمة بالحيويّة والقوّة. فهي لَم تمُت مِن جرّاء مرض ما أو بِفعل كبر سنّها، بل لأنّها وقعَت عن السلالم. مَن يدري كَم كان مُقدّرًا لها أن تعيش لولا ذلك الحادث المؤسف؟

هل حزنتُ على موت أمّي؟ أجل... ولا. فأنا كنتُ مُتأكّدة مِن أنّ غيابها سيُزيل عن مُحسن ثقلاً كبيرًا، وأنّه سيتمكّن أخيرًا مِن العَيش كما كان مُقدّرًا له لولا طغيان أمّه.

بقيتُ على اتّصال بأخي الصغير يوميًّا لأطمئنّ عليه، ولدعوتِه مرارًا إلى الغداء أو العشاء كي لا يبقى بمفرده وتُراودُه أفكارٌ سوداء. لكنّه فضّل الإنعزال لفترة واحترَمتُ رغبته هذه.

وبعد حوالي الأسبوعَين، تفاجأتُ بمُحسن يدقُّ بابي ويقفُ أمامي وعائلتي وبسمة كبيرة على وجهه. خلتُه يدّعي الفرَح، إلا أنّه أخبرَنا قصصًا طريفة وضحِكَ عاليًا معنا أثناء العشاء. ودّعتُه وبالي مشغول عليه. لكنّ أخي كان بالفعل سعيدًا، إذ أنّه غيّر أثاث البيت الذي كان قديمًا للغاية، وصارَ يدعو الناس للسهر عنده، وتوّجَ حياته الجديدة بالتعرّف إلى صبيّة جميلة. كنتُ على حقّ، بدأ مُحسن يتنفّس الصعداء بعد رحيل التي أسرَته وتحكّمَت بحياته منذ لحظة ولادته.

إرتاحَ قلبي نهائيًّا عندما تزوّجَ مُحسن بعد أربعة أشهر على موت أمّه، وأقامَ، خلافًا للتقاليد في هكذا حالة، فرَحًا كبيرًا. ومَن يستطيع لومه؟ فالحياة للأحياء وليس للأموات.

كنّا قد صِرنا جميعًا مُتزوّجين، أيّ أنّ حياتنا على السكّة الصحيحة. وسرعان ما نسينا أمر والدتنا. لكن بعد أقلّ مِن ستّة أشهر على زواجه، جاءَت إليّ زوجته طالبة النصيحة. تفاجأتُ بها، فهي لَم تكن مُقربّة منّي لِدرجة زيارتي مِن دون موعد. قالَت لي:

 

ـ أعلَم كَم أنّكِ مُقرّبة مِن مُحسن... لكنّ الوضع هو... دقيق بعض الشيء.

 

ـ ما الأمر يا حبيبتي؟ يمكُنكِ قول ما تشائين لي.

 

ـ لهذا السبب جئتُ إليكِ في الواقع... يا إلهي كيف أقولُ ذلك... مُحسن لَم يقُم بواجباته الزوجيّة معي.

 


ـ تقصدين أنّه لَم...

 

ـ أجل.

 

ـ لكنّني رأيتُ الإهتمام الذي يكنّه لكِ يا حبيبتي.

 

ـ أجل، إنّه لطيف معي للغاية، لكن في الليل...

 

ـ لَم يحدُث ذلك أبدًا؟ حتى في الليلة الأولى؟

 

ـ أبدًا. لقد سألتُه عن السبب إلا أنّه لَم يُعطِني أيّ تفسير.

 

ـ وكيف لي أن أُساعدكِ؟ فليس مِن اللائق أن أتحدّثَ مع أخي عن هكذا أمور.

 

ـ أدركُ ذلك. لكنّني لَم أُنهِ الحديث بعد. فمُحسن لا ينامُ معي في السرير نفسه.

 

ـ أين ينام أذًا؟!؟

 

ـ في سرير أمّه. وأسمعُه يتكلّم معها، أقصد أنّه يُكلّمها ويبكي.

 

أسِفتُ للغاية لدى سماعي ذلك، فكان مِن الواضح أنّ أخي لَم يتجاوز أمر موت أمّنا بل تظاهرَ بذلك فقط. قرّرتُ التحدّث معه، ليس بأمر مُعاشرته لزوجته طبعًا، بل لسؤاله عن سبب نومه في سرير أمّه. وهذا كان ردّه:

 

ـ يا أختي العزيزة... أحبُّ زوجتي بالفعل، إلا أنّ والدتي لطالما وقفَت في وجه فكرة زواجي.

 

ـ لكنّها ماتَت. ولماذا تنام في سريرها؟

 

ـ أنا بحاجة إلى ذلك، كي أشعرُ أنّها لا تزال حيّة. وأحيانًا أكلّمُها.

 

ـ ماذا تقولُ لها؟

 

ـ أطلبُ السماح منها.

 

تأثّرتُ كثيرًا مِن حالة مُحسن، فكان مِن الواضح أنّ تأثير والدته عليه كان لا يزال بالقدر نفسه، في حين اعتقدتُه أفلَتَ مِن نيرها. طلبتُ مِن زوجته أن تصبُر، واعدةً إيّاها بأنّ الأحوال ستتغيّر مع الوقت، وهي وافقَت على البقاء معه. وفي تلك الأثناء، إستشرتُ طبيبًا نفسيًّا شارحةً له ما يحصل لأخي، فطلَبَ أن يراه شخصيًّا. لكنّني كنتُ أعلَم أنّ أخي لن يتقبَّل رؤية أخصّائي، فقرّرتُ زيارته بشكل يوميّ.

واستاءَت حالة مُحسن، فهو صارَ دائم الحزن، والدمع لا يُفارقُ عَينَيه. لَم يعُد يهتمّ لوجود زوجته التي حزمَت حقائبها وتركَت البيت. المسكينة... لَم تذُق طعم الهناء مع أخي.

 


بعد فترة، نامَ أخي في فراش أمّه ولَم يعُد يُفارقه. جلبتُ له الطبيب الذي لَم يجِد فيه أيّ خطب جسديّ، بل اكتشفَ أنّه يُعاني مِن اكتئاب عميق فوصَفَ له دواءً لذلك. أظنّ أنّ مُحسن كان يبصقُ الأقراص خفيةً، لأنّه لَم يتحسّن بل زاد كآبةً، واحترتُ لأمري. كنتُ قد تركتُ بيتي لأهتمّ به، وأوكلتُ إلى زوجي القيام بمهامي عنّي. فأنا خفتُ أن ينتحرَ مُحسن وألومُ نفسي لاحقًا لِعدَم تمكّني مِن إنقاذه.

وفي إحدى الأمسيات، بينما كنتُ جالسة بالقرب مِن أخي وهو في السرير، نظَرَ إليّ مُحسن مطوّلاً ثمّ أخَذَ بيَدي وقال لي همسًا:

 

ـ يا أختي... أشعرُ بلهيب النيران.

 

ـ أيّة نيران يا مُحسن؟ فالطقس بارد اليوم.

 

ـ نيران جهنّم! أشعرُ بألسنتها تلتفُّ مِن حولي... إنّها تُريدُ سحبي إلى الأسفل وإبتلاعي!

 

ـ أنتَ تتصوّر هذه الأمور، ليس هناك مِن سبب لتذهب إلى النار يا أخي، فأنتَ رجل طيّب ومُستقيم.

 

ـ لقد قتلتُها.

 

ـ عمَّن تتكلّم؟!؟

 

ـ لقد قتلتُ أمّنا.

 

ـ بل بقيتَ إلى جانبها طوال حياتها وعاملتَها مُعاملة حسنة.

 

ـ لقد دفعتُها عن السلالم! أردتُ أن أتخلّصَ منها لأعيش! أردتُ أن أعيشَ أخيرًا، أن أرى يومًا واحدًا جميلاً! قتلتُها! وبدلاً مِن ذلك لَم أشعُر بالفرَح والراحة بل بعذاب لا نهاية له! قولي لها أن تُسامحني!

 

ـ إنّها ميّتة وليس بمقدوري التكلّم معها ولا هي الإجابة. إسترِح يا أخي فإنّكَ تتصوّر أشياءً لا أساس لها. لقد تعثّرَت أمّنا ووقعَت لوحدها.

 

قلتُ ذلك لأريح باله، إلا أنّني علِمتُ مِن نظرة عَينَيه، أنّه يقول الحقيقة في ما يخصّ ظروف موت أمّنا. يا إلهي... أخي هو الذي قتلها... وتساءَلت عمّا يجدرُ بي أن أفعَل بتلك المعلومات الجديدة؟ أُسلِّمُ أخي للشرطة؟ بالطبع لا، فهو يتعذّب بما فيه الكفاية. هل أدركَت أمّي في اللحظة الأخيرة أنّ إبنها هو الذي يدفعُها إلى الموت؟ هل ندِمَت على تدمير حياته أم لعنَته لعنة أخيرة؟ لن أحصل طبعًا على أيّ جواب، وكان همّي الأوّل هو صحّة أخي النفسيّة والعقليّة.

في اليوم التالي، طلَبَ منّي مُحسن إخبار الشرطة عن جريمته. رفضتُ طبعًا، بل طلبتُ الطبيب النفسانيّ وأخبرتُه كلّ ما علِمتُه. وهو جاءَ بسرعة ليرى أخي. هل كان مُحسن قاتلاً أم مجنونًا؟ وهل تسليم نفسه للعدالة أمرٌ صائب؟ تركتُ الرجلَين لوحدهما، وبدأتُ أُصلّي ليُعطيني الله الحكمة اللازمة لأخذ قرار. وعندما خرَج الطبيب مِن غرفة مُحسن قال لي:

 

ـ هو دفَعَ أمّكِ بالفعل مُسبّبًا لها الموت... لكنّ المحكمة لن تُرسله إلى السجن بل إلى المصحّة العقليّة، فهو يفقدُ عقله شيئًا فشيئًا. إنّ حالتُه النفسيّة هذه ليست وليدة الآن بل تمتدُّ جذورها إلى سنوات طويلة. لا بدّ أنّه عانى كثيرًا مِن أمّه، رحمها الله... فهي كانت، ومِن دون أن تدري، أداة موتها. سأكتبُ تقريري إلا أنّ المحكمة ستُعيّنُ طبيبًّا شرعيًّا بدورها.

 

أُرسِلَ أخي إلى مصحّة عقليّة وهو لا يزال هناك، وكلّما أزورُه يقول لي:

 

ـ أنظري إليّ... أترَين الحروق؟ حروق تلك النيران اللعينة! إنّني أتألّم! أتألّم!

 

مسكين أخي... لا تُسيؤوا فهمي فأنا لا أُدافعُ عن قتله لأمّنا، بل أقولُ إنّه الضحيّة الحقيقيّة في هذه المأساة. كَم مِن الوقت سيطولُ عذابه؟ لا أدري، ولكن في مثل هذه الحالات، يكون الموت أرحَم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button