عدوّ في حرم الجامعة

لن أقدر أن أصِف الفرحة التي شعرتُ بها يوم تلقَّيتُ خبر حصولي على منحة جامعيّة تُخوّلني الدرس في الخارج، وبالتحديد في فرنسا. في غضون لحظات تصوّرتُ نفسي أتسلّقُ أدراج برج ايفل وأتجوّلُ في متحف اللوفر بين أشهر لوحات العالم.

ركضتُ أزفّ الخبر لأهلي، لكنّ وجه أبي لَم يُبشّر بالخَير فلطالما رفَضَ فكرة سفَر أيّ مِن أولاده، خاصّة إن كانت بنتًا. لكنّ والدتي عرِفَت كيف تُقنعه بالقبول، لِذا حزمتُ حقائبي وودّعتُ معارفي وأقربائي الذين حسدوني على هكذا فرصة. بكَت عائلتي في المطار وطرتُ سعيدة إلى باريس، أجمَل عاصمة على الأطلاق.

إستقرَّيتُ في مركز مخصّص للبنات حيث حجزَت الجامعة غرفة لي وتعرّفتُ على القيّمين هناك. كانت لغتي الفرنسيّة مُمتازة لِذا لَم أجِد أيّ صعوبة في التواصل مع الناس. في اليوم نفسه رحتُ أتنزّه في الحَي، وحفظتُ أين تقَع الصيدليّة والسوبر ماركت في حال احتجتُ إلى أيّ شيء. نمتُ والبسمة على وجهي بانتظار قدوم اليوم التالي، حيث كان عليّ التوجّه إلى الجامعة لآخذ برنامج الدروس التي كانت ستبدأ بعد أسبوعَين. عبّأتُ إستمارة وخرجتُ إلى الحديقة الجميلة وجلستُ أتفرّج على الحمام وأتنشّق هواء أوروبا.

قد تتفاجأوا بأنّ صبيّة في الثامنة عشرة هي بهذه الشجاعة والإقدام، إلا أنّني حلِمتُ طوال حياتي بأن تدوس قدمايَ أرض فرنسا التي كنتُ قد قرأتُ كلّ ما كُتِبَ عنها وتخيّلتُ نفسي أعيشُ فيها. وها أنا أحقّقُ حلمًا عنى لي الكثير!

كان أبي قد أعطاني بعض المال حوّلَه إلى يورو وجعلَني أقسمُ له بالتصرّف حسب قيَمنا الشرقيّة، وأن أعودَ إليه، فأنا كنتُ المُفضلّة لدَيه وفكرة فقداني كانت لا تُحتمَل لدَيه. ضحكتُ حين سمعتُه يقول ذلك، وكأنّ كلّ مَن يذهب إلى الخارج يقَع في الرذيلة أو يُصمّم على عدَم العودة!

وقبل بدء الدروس بأيّام، قرأتُ على مدخل الجامعة أنّهم بحاجة إلى مُساعِدة في المكتبة فركضتُ أسجّلُ اسمي. باريس هي مدينة باهظة وكنتُ بحاجة إلى كلّ قرش يمكنُني أن أجنيه.

 


زميلاتي في الفوايي كنّ لطيفات وتأتَينَ مِن بلدان مُختلفة، الأمر الذي ساعدَني على الإختلاط بثقافات عديدة. بإختصار، كنتُ سعيدة للغاية.

في تلك الحقبة، لَم أكن أعلم بعد أنّني سأواجه تحدّيات عديدة وأكبر منّي بكثير. فالمسؤول عن المكتبة، الذي إسمه كال، كان مِن بلد عربيّ مُعادٍ لبلدي، الأمر الذي لَم أكن أعرفُه إذ ظننتُه فرنسيًّا. أمّا هو، فكتَمَ عنّي جنسيّته وعاملَني بلطف شديد، الأمر الذي طمأنَني على مُستقبل عملي معه.

بدأتُ الدروس وتابعتُها بشغف، فلَم يكن مِن المعقول أن أرسِب بعد أن تمكّنتُ مِن تحقيق حلمي! أثنى أساتذتي على اجتهادي، خاصّة بعدما علِموا أنّني آتية مِن الخارج حاملةً منحة وضربوا المثَل بي لدى التلامذة الفرنسيّين. وأنا كنتُ أخبرُ أهلي هاتفيًّا بتقدّمي، لأبرهن لهم أنّهم كانوا على حقّ بالسماح لي بالسفر. بقيَ كال، المسؤول عن المكتبة، يسألُني عن سَير دراستي وأنا أُخبرُه عن إنجازاتي حتى قرَّرَ أنّ عليه ضرب ضربته. ما الذي فعلتُه له كي أستحقّ ذلك؟ بالطبع لا شيء سوى أنّه إنسان سخيف ومُتشدّد يكره أبناء بلدي وخاصّة النساء منّا. أي أنّني وقعتُ على مَن اجتمعَت فيه كلّ السمات البشعة والخطرة.

بدأَت الكتب تختفي مِن المكتبة الواحد تلو الآخر، ولَم يجِد كال تفسيرًا لِما كان يجري وكذلك أنا، فكلّ شيء كان موثّقًا كما يجب. حسبتُ أنّ أحد الطلاب كان يسرقها، لِذا اقترحتُ على كال أن نمنع أيًّا مِن الذين يحملون حقائب مِن دخول المكتبة حرصًا على كتبنا، فالبعض منها كان نادرًا أو ثمينًا. وهكذا حصَل، لكنّ الأمر لفَتَ إنتباه إدراة الجامعة، الأمر الذي انقلَب ضدّي فكنتُ العنصر الجديد الذي دخلَت معه المشاكل. في ذلك الحين، لَم أكن أعلَم أنّني كنتُ المُشتبهة الأولى وأنّ الكلّ يُراقبُني.

وفي إحدى الأمسيات، وقبل إقفال المكتبة بقليل، طلبَني كال وقال لي:

 

ـ إسمعي، باتَ أمر السرقة جدّيًّا للغاية وقد نخسرُ كلانا عملَنا... خُذي معكِ هذه الكتب المهمّة وضعيها في غرفتكِ.

 

ـ لماذا لا تأخذُها أنتَ؟

 

ـ أنا أيضًا سأختار البعض منها وأحملُها معي لكنّ الكتب، كما تعلمين، هي ثقيلة الوزن.

 

ـ حسنًا.

 

ـ عليكِ أن توقّعي على استلامها.

 

وقّعتُ قرب إسم كلّ كتاب وضعَه كال في الشنطة. لَم أكن مُرتاحةً للوضع لكنّني كنتُ بحاجة إلى عمَلي في المكتبة. بعد دقائق، طلَبَ منّي كال التأكّد مِن أنّ جميع النوافذ الخلفيّة مُغلقة. للحقيقة، هو أرسلَني بعيدًا ليُبدّل الكتب الذي وضعَها في الشنطة بأخرى لا قيمة لها. وهكذا غادرَتُ مِن دون أن أنتبه إلى شيء.

حين وصلتُ غرفتي وضعتُ الشنطة في الخزانة، أخذتُ حمّامًا ساخنًا وغرقتُ في النوم.

في الصباح الباكر إستفقتُ على قرع قويّ على بابي وعندما فتحتُ الباب، دخَلَ رجل أمن الجامعة طالبًا منّي الخروج إلى الرواق لأنّه يُريد تفتيش غرفتي. وضعتُ سترة عليّ ونفذّتُ ما أمرَني به والأسئلة تتخبّطُ في رأسي. بعد دقائق، سمعتُه يقولُ على جهازه: "وجدتُ كتبًا. أنا بانتظاركم".

قادوني إلى مكتب مدير الجامعة بعد أن سمحوا لي بارتداء ملابسي. دخلتُ المكان ووضَعَ رجل الأمن الشنطة على الطاولة أمام المدير الذي فتحَها ووجَدَ كتبًا عاديّة ليست أبدًا التي اتّفقتُ مع كال على أخذها. قال لي الرجل بعد أن أخرجَ الورقة التي وقّعتُ عليها في المكتبة:

 


ـ أين الكتب التي استلمتِها مِن كال؟ هل بعتِها كالتي سبَقَ لكِ أن سرقتِها؟

 

ـ لَم أبِع شيئًا ولَم أسرق شيئًا! أنا فتاة جدّيّة ونزيهة! وتلك الكتب ليست التي كانت في الشنطة!

 

وأخبرتُه عن خطّة كال بأن نُبعدِ الكتب الثمينة مِن درب السارق للحفاظ عليها. إلا أنّه أجابَني:

 

ـ يا آنسة... لدَيّ توقيعكِ الذي يُثبت أنّكِ أخرجتِ كتبًا نادرة مِن المكتبة... أين هي؟

 

ـ لستُ أدري! لكنّها كانت في الشنطة! لَم أرَ هذه الكتب بحياتي!

 

ـ سنُحيلكِ إلى المجلس التأديبيّ وقد تدخلين السجن... بعد أن يتمّ طردكِ طبعًا. ستُلازمين غرفتكِ إلى حين نعرف تمامًا ما يجب فعله بكِ. لقد خذلتِنا يا آنسة!

 

علِمتُ على الفور أنّ كال هو الذي استبدلَ الكتب حين بعثَني للتأكّد مِن النوافذ وبكيتُ على نفسي. كانت أحلامي قد تبخّرَت على الفور وجلبتُ العار على نفسي وعلى عائلتي! لكن لِما يفعل كال بي ذلك؟ هل لبَيع الكتب وجني المال؟ قرّرتُ دخول صفحته على موقع تواصل الجامعة، وتفاجأتُ بمنشوراته التي هي مُعادية لبلدي وتفاجأتُ أكثر بأنّه ليس فرنسيًّا بل هو عربيّ مثلي. هل يعقَل أن يكون دافعه هو الكره؟

بقيتُ سجينة غرفتي ليومَين. كانوا يأتوا لي بالأكل والشرب بواسطة زميلة لي. أخبرتُها في بضع كلمات عن شكوكي بكال، الذي كان إسمه الحقيقيّ خليل، وهي أسِفَت كثيرًا لي بعدما رأَت بي مثالاً للإجتهاد والتفوّق. فهي كانت آتية مِن شرقي أوروبا ومصمّمةً على تأمين مُستقبل أفضل لنفسها ولعائلتها، وأدركَت مِن جرّاء ما حصل لي كَم مِن السهل أن يفقدَ المرء كلّ ما عمِلَ مِن أجله. وهذا ما اقترحَته أولغا عليّ:

 

ـ إسمعي... إن كان ما تقولينَه عن كال صحيحًا فلا بدّ أنّ الكتب المسروقة موجودة في غرفته.

 

ـ لا أظنّه غبيًّا لدرجة إخفائها عنده.

 

ـ بل هو مطمئنّ أنّكِ وقعتِ في فخّه. المسروقات هي إمّا في غرفته أو في المكتبة في زاوية ما. أتعرفين زميلتنا الصينيّة؟

 

ـ أجل، أعرفُ لين جيّدًا، هي فتاة لطيفة للغاية ولقد ساعدتُها في إتمام أحد فروضها.

 

ـ تمامًا... هي تواعد أحد شبّان الأمن. سأتكلّم معها، لا عليكِ.

 

ـ لا أُريدُ زجّكما في أيّة مشكلة.

 

ـ دعي الأمر لنا.

 

دخَلَ صديق لين غرفة كال بغيابه بحجّة أنّ هناك مشكلة في قساطل المياه لكنّه لَم يجِد شيئًا. عندها توجَّه إلى المكتبة بالحجّة نفسها وفتّشَ المكان جيّدًا، ووجَد أخيرًا جميع الكتب التي سُرِقَت في القسم المُخصّص للتلَف. كان كال يحضرُ احدى حصصه ولَم يصدّق عينَيه عندما دخَلَ المكتبة ووجَدَ حشدًا مِن رجال الأمن في المكان. كان المدير قد حضَرَ بنفسه وينتظره لاستجوابه. أنَكَرَ خليل طبعًا كلّ شيء، إلا أنّ مدير الجامعة ضغَطَ عليه كثيرًا حتى انهار السارق الماكر. فهو اعترَفَ بأنّه لَم يرِد بَيع الكتب بل فقط التسبّب بطردي، فبنظره أنّ إنسانة مِن جنسيّتي لا يحقُّ لها التعلّم ونَيل الشهادات.

طُرِدَ خليل لكنّني أسقطُّ حقّي ليعرف كيف يتصرّفُ الناس المُتحضّرين. أسِفتُ كثيرًا لأنّ شخصًا مِن ثقافتي حاوَلَ الإيقاع بي وتلطيخ سمعتي ومَنعي مِن التعلّم، بينما ساعدَني مَن لا يمتُّ لي بصلة.

لماذا لا نتكاتف لنقوى ونستعيد أمجاد شرقنا الحبيب؟ لماذا بلداننا هي في صراع دائم إمّا عسكريًّا أو سياسيًّا؟ بلاد الغرب مُتحدّة ولدَيها إقتصاد قويّ وصناعات عديدة، ناهيكَ عن تقدّمها في مجالات الطبّ والتكنولوجيا. كفاءاتنا توازي كفاءاتهم وقد تفوقها لكنّها ذاهبة سدىً، للأسف.

اليوم أنا صاحبة شركة ناجحة وعلّمتُ أولادي على الإجتهاد وحبّ الآخر مِن أيّ جنسيّة كان. وما هو أهمّ، لقّنتُهم حبّ الوطن العربيّ والعمَل على التفوّق مِن أجل رفع شأنه ليعترفَ بنا الغرب وبقدراتنا العالية. ومَن يدري، لو فعَلَ الكلّ ذلك، قد يصل وطننا العربيّ إلى مكانته الحقيقيّة... ويأتون همّ للتعلّم عندنا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button