عائلة أبي الأخرى

كيف علِمتُ أنّ لأبي عائلة أخرى؟ بالصّدفة البحتة. تخيّلوا مدى مُفاجأتي وعدَم تصديقي للأمر، ومِن ثمّ إستنكاري خاصّة أنّ ذلك الرجُل بنى حياته على حمَل راية الصّدق والوفاء عاليًا. أجل، فلقد ربّاني والدي على قول الحقيقة والإعتراف بأخطائي مهما كانت بليغة. هو خذَلَني، وبالأخصّ خذَلَ أمّي التي قدّمَت حياتها له منذ أوّل زواجها منه وأعطَته إبنة إفتخَرَ بها. ما الذي كان ينقصُه معنا ليبني لنفسه نسخة ثانية منّا في مكان آخَر؟ أسئلة كثيرة كان عليّ إيجاد أجوبتها وإلا فقدتُ صوابي وتأثّرَت حياتي إلى الأبد.

فحين قال لي جابي الكهرباء بأنّ والدي لَم يدفَع فاتورته الثانية، سألتُه عمّا يتحدّث. عندها أخرَجَ رزمة وصولات، وأراني إحداها تحملُ إسم والدي لكن مع عنوان آخر. شرحتُ له أنّ هناك حتمًا تشابهًا بالأسماء، فهذا هو عنوانه الوحيد لأنّنا نسكنُ جميعًا فيه. لكنّه أجابَني:

 

ـ لا يا آنسة، هي ليست مسألة تشابه أسماء، فأنا أُحصِّلُ مِن أبيكِ ثمَن الفاتورة هنا وهناك، وقد حصَلَ مرارًا أن يكون هو موجودًا في العنوان الآخر ويدفَعُ لي شخصيًّا. إلا أنّني في هذه المرّة لَم أجِده أو أحدًا غيره... أقصدُ زوجته وأولاده.

 

ـ ماذا؟!؟ أنتَ حتمًا مُخطئ أو أنّني أحلمُ!

 

ـ هل كان عليّ عدَم التكلّم؟ أنا آسف للغاية لكنّني حسبتُ أنّه... أقصدُ أنّه على الأقلّ أطلعَكم على عائلته ومسكنه. ماذا تُريدين أن أفعل بالفاتورة؟

 

ـ هاتها... سأهتمّ بالأمر بنفسي.

 

قلتُ ذلك بغضب شديد، إلا أنّني بكيتُ بحرارة بعد رحيل الجابي. كان أبي قد غشّنا لسنوات طويلة، فلدَيه أولاد، ممّا يعني أنّ الخدعة بدأَت منذ وقت لا بأس به. وماذا عن أمّي؟ هي إعتقدَت بالفعل أنّ زوجها يُحبُّها ويحترمُها ولا يريدُ سواها. ما كان عليّ فعله بما عرفتُه؟ هل أتكلّم أم أسكُت؟ حِمل كبير لفتاة في الثالثة عشرة مِن عمرها. قرّرتُ التقصّي عن الأمر قبل اتّخاذ أي قرار، لأنّني كنتُ أعلَم أنّ الخبَر سيكون له تداعيات قاسية على عائلتنا.

 


وهكذا رحتُ إلى ذلك العنوان المُدوّن على الفاتورة، وتفاجأتُ بفخامة الحَي. غضبتُ كثيرًا لأنّنا كنّا نعيشُ في منطقة شعبيّة، وها أبي يُدلّلُ أسرته الثانية أكثر منّا. مهلاً... مِن أين أتى بالمال اللازم للعَيش في مبنى جميل وحديث؟ وكثُرَت الأسئلة فجأة!

لَم أكن أعلَم ما الذي أنتظرُه فعلاً وأنا واقفة أمام مدخل ذلك المبنى، عدا إشعال نار نقمتي. عدتُ إلى البيت وعملتُ جهدي للتصرّف بشكل طبيعيّ حين يعود أبي مِن عمله. وفي المساء، جاء يُخبرَنا أنّه ذاهب إلى ما وراء الحدود كعادته كلّ أسبوعَين أو أكثر بسبب عمَله. إلا أنّني في تلك المرّة أدركتُ أنّه لَم ولن يُسافر، بل هو ذاهب لعائلته الأخرى. حبستُ دموعي ونظرتُ إلى والدتي بِحزن عميق، فكنتُ الوحيدة التي كشفَت حقيقة والدي السّوداء.

بعد ذلك، أهمَلتُ درسي وكرهتُ التواجد في البيت، فصرتُ أقضي وقتي مع صديقاتي. على كلّ الأحوال، كان تواصلي مع والدَيّ صعبًا مِن البداية بسبب فارق السنّ بيني وبينهما، فهما كانا قد أنجباني في سن مُتأخّر، بسبب مشاكل صحّيّة واجهاها منعتهما مِن تأليف عائلة بسرعة.

ثمّ عادَت إليّ هواجسي: ماذا لو علِمَت أمّي صدفة بالحقيقة؟ ماذا لو تركَنا أبي ليكون مع عائلته الأخرى بصورة مُستمرّة؟ فكّرتُ كثيرًا بما إمكاني فعله لتجنّب مصيبة قد تحصل في أيّ لحظة، ولَم يتبقَّ لي سوى حلّ واحد: التكلّم مع زوجة والدي الأخرى، وشرح لها عن أهمّيّة ربّ عائلتنا بالنسبة لنا. تمنَّيتُ أن تكون تلك المرأة إنسانة عاقلة ومُتفهّمة. على كلّ الأحوال، كان مِن الواضح أنّ أبي يهتمّ بها جيّدًا، فهو أسكنَها في منطقة عريقة ومبنى جديد، ولا بدّ أنّه يصرفُ عليها وأولادهما بشكل مُنتظم.

إنتظرتُ "سفرة" والدي التالية لأتأكّد مِن أنّه مع عائلته الثانية، وأستطيع مراقبة تحرّكاتهم جميعًا، واستغلَّيتُ فترة ما بعد الظهر لقصد مسكنه الآخر. رأيتُه يدخُل ويخرج مع إمرأة أصفُها بالعاديّة، وسالتُ نفسي كيف له أن يُفضّلها على أمّي التي هي أجمَل وأصغَر سنًّا منها. لكنّني لَم أكن أعرفُ ما يدورُ في رأسه أو أيّ نوع علاقة لدَيهما لأفهَم دوافعه. لَم أرَ أيًّا مِن أولادهما برفقتهما، الأمر الذي أحبطَني قليلاً، فكنتُ أنتظرُ بشغف رؤية إبنته، هذا إن وجِدَت، لأُقارِن بيني وبينها. حماسي خلال المُراقبة، شجَبَ عنّي الحزن الذي سكَنَ قلبي مذ علِمتُ الحقيقة لكنّه زادَ مِن غضبي. صبرتُ رغمًا عنّي، فكان بودّي أن أوقفَ أبي وزوجته في الشارع وأصرخَ بهما وأنعتهما بشتّى النعوت البشعة. لا، كان عليّ تمالك أعصابي والمضيّ في ما كان يدورُ في رأسي.

جاءَت فترة إمتحانات آخِر السنة الدراسيّة ولَم يعُد لدَيّ الوقت لأيّ شيء عدا الدرس، خاصّة بعدما أدركتُ أنّ العِلم هو خلاصي الوحيد في حال تركَنا أبي. تبًّا له! وتبًّا لِجابي الكهرباء الذي، بكلمات قليلة، غيّرَ مجرى حياتي إلى الأبد!

حلَّت الفرصة الصيفيّة، وصارَ لدَيّ مُتّسَع الوقت لأتمرّن على الذي أنوي قوله لزوجة أبي ودرس جميع الإحتمالات. كنتُ قد أخبرتُ صديقتي الحميمة قصّتي، وهي ساعدَتني في تمثيل دور المرأة الأخرى في الحوار الذي كان سيُغيّر مصيري وأمّي. كنتُ خائفة للغاية، فهفوة واحدة منّي كانت كافية لتدمير كلّ شيء.

وحين أتذكّر اليوم تلك الفترة، أجِدُ أنّني كان لدَي جرأة لَم أعُد أملكها في سنّي هذا.

 

أصبحتُ أخيرًا جاهزة، وطلبتُ مِن صديقتي مُرافقتي والبقاء أمام المبنى بينما أصعدُ إلى شقة "سارقة الرجال"، والتأهّب إن حصَلَ لي شيء ما. فالحقيقة أنّني توقّعتُ أسواء الإحتمالات ولَم أكن أبدًا مُطمئنّة. قصَدنا ذلك الحَي، وهي دعَت لي بالتوفيق لحظة دخلتُ ردهة المبنى الفخم.

دقَّيتُ الباب ففتحَت لي زوجته وقلتُ لها على الفور:

 

ـ مرحبًا... أنا إبنة زوجكِ... أعني مِن المرأة الأخرى... أوّدُ التكلّم معكِ وأرجو ألا ترفضي إستقبالي، فالأمر في غاية الأهمّيّة.

 


رأيتُ المُفاجأة على وجهها، إلا أنّها دعَتني للدخول بحركة مِن يدها وبالجلوس على أريكة في الصالون. سادَ سكوتٌ مُزعج إلى أن أخذتُ نفَسًا عميقًا وأخبرتُها كيف علِمتُ بأمرها، وعن مخاوفي بأن أفقدَ أبي ويُسبّب رحيله عنّا مأساة لي ولأمّي. طلبتُ منها أن تدعَه يعيش معنا كما يفعلُ الآن، ووعدتُها بالمُقابل ألا أخبرَ أمّي الحقيقة.

نظرَت المرأة إليّ بتعجّب، ورأيتُها تبتسم لي بشيء مِن الرّفق، الأمر الذي أراحَني بعض الشيء، ثمّ قامَت مِن مكانها إلى المطبخ وعادَت وبِيَدها كوبًا مِن العصير قدّمَته لي. شربتُ منه على الفور مِن كثرة ظمَئي الذي ولّده الخوف والإرباك. قالَت لي:

 

ـ أنتِ فتاة شجاعة... وأظنّ أنّكِ أخذتِ هذه الصّفة مِن أمّكِ، فأبوكِ هو... لِنقُل قليل المروءة.

 

ـ أبي؟!؟ أنتِ مُخطئة!

 

ـ حبيبتي... لقد فهمتِ المسألة بأسرها خطأً... لستُ سارقة رجال... فأنا زوجته الأولى.

 

ـ ماذا؟!؟ إن كنتِ تظنّين أنّني سأُصدّق هذه القصّة فـَ...

 

ـ هو تركَني مِن أجل أمّكِ التي كان يُقيمُ معها علاقة خلال زواجنا.

 

ـ أنتِ تكذبين!

 

قامَت المرأة مِن مكانها، وتناولَت مِن خزانة ألبومًا للصوَر وجلسَت بالقرب منّي، وبدأَت تدلُّني على الصّوَر التي تظهرُ فيها مع أبي وهو شاب، منذ زواجهما مرورًا بولادة أولادهما وحتى يومنا هذا. كان مِن الواضح أنّ أولادهما أكبر منّي سنًّا بكثير وهم مُتزوّجون، الأمر الذي يُفسِّر فارق السنّ بين والدَيّ وبيني. سكتُّ، فما عساني أقولُ لتلك المسكينة التي تابعَت:

 

ـ هذا البيت هو لي، فلقد ورثتُ مبلغًا كبيرًا لدى وفاة والدَيّ، وإلا لا أعلَم كيف كنتُ سأتدبّر أمري وأمر أولادي. أبوكِ لا يملكُ سوى القليل الذي بالكاد يكفي لكِ ولأمّكِ. غضبَتُ منه لأقصى درجة، لكنّني قبِلتُ بأن يعيشَ معنا بصورة غير دائمة مِن أجل الأولاد، فهم حتى اليوم لا يعرفون أنّ أباهم تزوّجَ وأنجَبَ.

 

ـ ويقولُ لهم إنّه يُسافر بداعي العمَل، أليس كذلك؟

 

ـ أجل. وبالرّغم مِن انّهم صاروا بالغين وتركوا المنزل، فأنا أردتُهم أن يُبقوا في ذهنهم صورة العائلة المُتماسكة. هم يأتون بين الحين والآخر لرؤية والدهم وهو هنا، ونجلسُ سويًّا وكأنّ شيئًا لَم يكن. لكن علاقتي معه هي شبيهة بصداقة قديمة، فلقد توقّفتُ عن حبّه لحظة هو تركَني.

 

ـ هل تشعرين بالكره تجاة أمّي وتجاهي؟

 

ـ في البدء كرهتُكما بالفعل، لكن مع الوقت نسيتُ إمتعاضي منكما وركّزتُ على أولادي. لا دخلَ لكِ بما حصل، بل أجدُكِ فتاة مُثيرة للإهتمام. أنا مُتاكّدة مِن أنّكِ ستصبحين لاحقًا إمرأة قويّة وعادلة.

 

ـ أنا آسفة يا سيّدتي... فلقد ظلمتُكِ. لكن كيف عساني أن أعلَم بما يجري حقًّا وسط هذا الكمّ مِن الكذب والمُراوغة؟ هل كلّ الراشدين يكذبون هكذا؟

 

ـ فقط حين يودّون تغطية ما يرَونه مُشينًا. عودي وزوريني حين تشائين.

 

وجدتُ صديقتي بإنتظاري والهمّ يملأ عَينَيها. لَم أقل لها ما اكتشفتُه كي لا أُسيء لِسُمعة والدتي، وقلتُ لها إنّ زوجة أبي وعدَتني بعدَم تدمير عائلتنا.

وحين عدتُ إلى البيت، نظرتُ إلى والدَيّ نظرة جديدة ومُختلفة لَم أستطِع تحديدها. هل أكشِفُ لهما معرفتي بأمرهما أم أسكُت؟ يا للمعضلة!

قرَّرتُ أخيرًا عدَم زعزعة توازن عائلتي، بعد أن ارتاحَ بالي مِن ناحية رحيل أبي عنّا. لكنّني شعرتُ أنّ فجوة وُلِدَت بيننا، على الأقلّ مِن ناحيتي. كنتُ أعيشُ مع شخصَين كذبا عليّ طوال حياتي، بعد أن أقاما علاقة غير شرعيّة وفكّكا أسرة بكاملها تعيشُ أيضًا بالكذب.

زرتُ زوجة أبي سرًّا مرّات عديدة، لكنّني لَم أُقابِل اخوَتي مِن أبي كَي لا يعرفوا الحقيقة.

بعد سنوات، توفّيَ والدي وبكَته أمّي كثيرًا. فكّرتُ بمواجهتها بالذي أعرفُه، إلا أنّني عدَلتُ عن ذلك كي لا أزيد مِن حزنها. فأحيانًا يكون السكوت أفضل الخيارات.

ثمّ توفّيَت زوجة أبي بعده بِخمس سنوات، وشعرتُ بأنّ "بطلَي" القصّة أخذا بموتهما كلّ تداعيات ما حصل، وأنّ الوقت حانَ لأن أنَزع عنّي كلّ ما منعَني مِن أن أعيشَ بسلام.

أنا اليوم سيّدة مُتزوّجة ولدَي ولد جميل. أمّي تعيشُ معنا وتجهل ما مرَرتُ به وما فعلتُه وما عرفتُه. أليس ذلك الأفضل للجميع؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button