ظُلِمَ أخي

وُلِدَ أخي كمال صحيح البنية والعقل، لكن بعدما أُصيبَ بالتهاب السحايا إنقلَبَت حياته وحياتنا رأسًا على عقب. فمِن جرَّاء ما أصابَه، تأخّر نموّ كمال العقليّ بشكل فادح. وبما أنّني أخته الكبرى، أخذتُ أعيرُه اهتمامًا خاصًا، وتعودّتُ أن أقضي معه الوقت الكافي ليشعر بالأمان.

أحَطنا كلّنا كمال وكيَّفنا حياتنا لتناسبه وحاجاته، وحين أصبَحَ بعمر يسمحُ له بذلك، أرسلناه إلى مدرسة خاصّة ليحصل على التأهيل اللازم ليندمج، ولو قليلاً، بمجتمع متطلّبٍ وقاسٍ. كان كمال يقضي الأسبوع هناك ليعود إلى البيت في نهايته.

ومرَّت السنوات، وكبر كمال مِن دون مشاكل إلى أن جاءَنا طلب مِن إدارة المؤسّسة لمقابلة مديرها الذي كان ينوي طرد أخي. رافقتُ والدَيَّ، وتفاجأنا بسبب طرده: كان كمال قد تحرَّشَ جنسيًّا بإحدى الطالبات المعوّقات.

ما أذهَلَنا الأكثر هو أنّنا لم نتصوّر أبدًا أنّ كمال قادر على فعل عمل كهذا، لأنّه كان وديعًا كالحمل، ولَم نفكّر أنّه صارَ مراهقًا لدَيه حاجات جنسيّة لا يستطيع استيعابها أو تفسيرها أو حتى السيطرة عليها بسبب تأخّره العقليّ.

حاولنا إقناع المدير بالرّجوع عن قراره، خاصّة أن الصبيّة لَم تفقد بكارتها، إلا أنّ القرار كان نهائيًّا.

أخَذنا كمال وعُدنا به إلى البيت، ولَم يفهم المسكين لماذا وضّبنا حقيبته وأبعَدناه عن رفاقه.

في اليوم التالي، جلَسَ أبي مع أخي وشَرَح له بعض مبادئ الإختلاف الجنسيّ بين الرّجل والمرأة، وكيفيّة التعامل مع أحاسيسه في ذلك المجال، لكنّه لم يستوعب لماذا ما فعَلَه مع الصبيّة خطأً. عندها، قرَّرَ والدَيَ أنّ على كمال ملازمة البيت لتجنيبه المزيد مِن المُغريات.

منذ ذلك اليوم، تغيّرت طباع أخي الذي أصبَحَ حزينًا ومُنعزلاً يرفضُ الأكل واللعب. جئنا بالطبيب الذي شخَّصَ أنّه يُعاني مِن اكتئاب بسيط، وأعطانا بعض التعليمات لأنّه لم يكن يُريد وصف الأدوية له.

 


ما لَم نكن نعرفُه هو أنّ كمال كان يجلس ساعات في غرفته وهو يلمس نفسه ليستعيد الأحاسيس التي جلَبَت له شعورًا بالإكتفاء، لِدرجة أنّه لم يعد يُفكّر بشيء آخر.

مِن ناحيتنا، بدأنا نُكمل برنامج المدرسة إلى حين نجد له مكانًا آخر ليحصل على التعلّم اللازم.

مرَّت سنتَان قبل أن يتمكّن أخي مِن دخول مؤسّسة جديدة، ولَم ننسَ ذكر ما حَدَث معه للقيّمين، وهم طمأنونا بأنّهم قادرون على معالجة غرائزه. لا أدري إن كان هؤلاء المسؤولون قد كذبوا علينا أم أنّهم حاولوا جهدهم مع كمال، لكنّ النتيجة لم تكن موفّقة.

فكان أخي يخرج سرًّا مِن المؤسّسة بعد إطفاء الأنوار، ويتمشّى في شوارع المدينة بحثًا عن رفيقة، لأنّ تلك المؤسّسة كانت مخصّصة للذكور فقط. ووقعَت المصيبة: قامَ كمال باغتصاب فتاة وتمّ القبض عليه بالجرم المشهود.

ركضنا كالمجانين إلى قسم الشرطة، حيث اكتشَفنا أنّهم قاموا بضربه لأنّه لم يتجاوب معهم. فهم لَم يعرفوا أنّه معوّق عقليًّا بل ظنّوا أنّه يتغابى لتفادي الإجابة على أسئلتهم.

وكّلنا لأخي محاميًّا سرعان ما حمَلَ السلطات على إخراج كمال مِن السجن وإرساله إلى مكان مخصّص للمجرمين للمختلّين. والمُحزن هو أنّ أخي لم يكن يعلم لماذا كان الجميع يُعاملُه بهذه الطريقة العدائيّة. فبالنسبة إليه، فعَلَ ما أملى عليه جسده، أي انّه شعَرَ بالحاجة إلى ممارسة الجنس فنفَّذَ رغبته مع الفتاة المسكينة التي صادفَها.

أثناء المحاكمة، جاء خبراء ليُدلوا بشهاداتهم بما يخصّ حالة أخي العقليّة، وتمّ التوافق على أنّه لم يكن مسؤولاً عن جرمه وزجّوه في مؤسّسة يُقال عنها إنّها ستساعدُه، لكنّها كانت بالفعل مُخصّصة للذين مِن الأفضل نسيانهم.

مَن المذنب الحقيقيّ بما حصل؟ أنحن أم المؤسّسة الأولى أم الثانية أم المُجتمع الذي يعتبرُ المتأخّرين عقليًّا أطفالاً دائمين، وينسى أنّ جسدهم لم يُصِبه هذا التأخّر بل أكمَلَ نموّه طبيعيًّا؟

بعد ذلك، حارَبنا الناس وألسنتهم، فبتنا أهل "الوحش"، وامتدّ العار إلينا وكأنّنا كنّا عائلة مُنحلّة أخلاقيًّا... ولهذا السّبب كان كمال مهووسًا جنسيًّا. تعِبنا كثيرًا وأنا أكثر مِن غيري، لأنّني كنتُ، إلى جانب عملي، أزورُ أخي باستمرار وأجلسُ معه قدر المستطاع، لأعود إلى البيت وأقومُ بكامل الأعمال المنزليّة بعد أن أُصيَبت أمّي بانهيار عصبيّ. فالناس لا تقدّر التداعيات التي يتأثّر بها الأهل عندما يقوم أبناؤهم بأي جرم كان، حتى لو كانوا أصحّاء، فهم يدفعون ثمن تصرّفات غيرهم.

وتدهورَت حالة كمال، وكما حدَثَ له سابقًا، توقّف عن الطعام ولَم يعُد يكلّم أحدًا. وحدي كنتُ قادرة على حمله على مشاركة مكنونات قلبه. وهذا ما قالَه لي خلال إحدى زياراتي له:

 

ـ لماذا الكلّ غاضب منّي يا أختي؟

 

ـ لأنّكَ فعلتَ شيئًا أضّر بشخص آخر.

 

ـ لم أكن أريد أذيّة أحد... أردتُ التعبير عن حبّي لتلك الفتاة. كَم كانت جميلة! هي أيضًا أحبَّتني.

 

ـ لا، هي لم تحبُّكَ، بل أنتَ تصوّرتَ ذلك. هي لا تعرفُكَ، يا كمال.

 


ـ بلى، بلى... كنتُ ألتقي بها كلّ ليلة ونجلس لنلعب سويًّا.

 

ـ ماذا تقول؟!؟

 

ـ وأعطَتني رسالة حبّ أيضًا.

 

ـ أين هي الرسالة؟ أين هي الرسالة؟ أجِب!

 

ـ في جيب سترتي الزرقاء.

 

تركتُ أخي وركضتُ إلى البيت لأبحث عن السترة. وتذكّرتُ أنّني كنتُ قد غسلَتُها، وعندما أدخلتُ يدي في إحدى جيوبها، وجدتُ ورقة مطويّة وعليها بضع كلمات ولكن شبه ممحوّة بفعل الغسيل. لم يكن أخي يكذب، فهو لا يُجيد الكتابة.

هكذا إذًا... أخي لم يتهجّم على فتاة مارّة في الطريق بل كان يلتقيها باستمرار. هل هي التي استدرجَته لممارسة الجنس ومِن ثمّ ندِمَت وبدأَت بالصّراخ، أم أنّ كمال أساءَ فهم نواياها؟ الدليل الذي كان بين يدَيَّ لم يكن كافيًّا لإعادة فتح ملفّ أخي، ولَم أكن متأكّدة مِن أنّني أريدُ جرّ تلك الصبيّة إلى فضيحة هي بِغنى عنها. لكن كان مِن واجبي تبييض صفحة كمال وإخراجه مِن ذلك السجن البغيض ليُرسَل إلى مؤسّسة أخرى تُفيدُه أكثر.

لِذا انتظرتُ الضحيّة خارج منزلها، وتبعتُها حتى وصَلت إلى إحدى المحلات. إقترَبتُ منها قائلة:

 

ـ لقد أخبرَني أخي كمال بلقاءاتكما... أريدُ التكلّم معكِ... إتبعيني وإلا...

 

إحمرّ وجه الصبيّة، وتبعَتني إلى مقهى حيث جلَسنا بصمت. قلتُ لها:

 

ـ أريد معرفة الحقيقة، فأخي ليس مُجرمًا. لن أفضَحَ أمركِ، ولكن أريد منكِ أن تُرافقيني إلى القاضي ليتسنّى لنا نقل كمال مِن المكان الذي زجّوه به.

 

ـ لستُ أدري...

 

ـ فكّري بالأمر فهذا أقل ما يُمكنكِ فعله مِن أجل أخي.

 

ـ للحقيقة، حصَلَ ذلك بصورة مفاجئة... أعني ما فعَلَه كمال. رآني مرّة أو اثنتَين على الشرفة وباتَ ينتظرني قبالة المبنى. لم أكن أعلم أنّه... مختلف. حين رأيتُه عن قرب، شعرتُ بلطفه وبساطته وأحبَبتُ رفقته. صحيح أنّني قبّلتُه، لكنّني لم أكن أريد أن يحصل بيننا أكثر مِن ذلك. أمّا هو، فلَم يفهم أنّ عليه التوقّف و... أقسمُ لكِ أنّني بالفعل ضحيّة!

 

ـ بل أنتما الاثنَان ضحيّة.

 

لَم تقبل الفتاة مرافقتي عند القاضي ولَم أعد بعد ذلك قادرة على التواصل معها. حزنتُ كثيرًا على كمال الذي، لولا تشجيع الصبيّة له، لَما تحوّل إلى مغتصب، على الأقل ليس في ذلك الوقت.

بعد سنوات قليلة، ماتَ كمال أثناء نومه بعد أن توقّف قلبه عن الخفقان. هل ماتَ مِن الحزن واليأس والإرباك أم أنّ حياته انتهَت مِن دون سبب؟ لن أعرف الجواب ولا أريدُ التفكير به. كل ما أريدُه مِن خلال سردي لقصّة كمال، هو أن تقوم المؤسّسات المختصّة باستيعاب المعوّق عقليًّا مِن جميع النواحي، لمواكبته بلطف وتفهّم خلال جميع مراحل حياته، وعدَم اعتباره طفلاً دائمًا بل إنسان يكبرُ، وتكبرُ معه أحاسيسه وغرائزه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button