طَردتُ أمي خوفاً على أبي

لن أنسى يوم تركَتنا أمّي واليوم الذي عادَت فيه بعد سنتَين مِن الغياب. كنتُ آنذاك صبيًّا في الثامنة مِن عمري ولَم أجد والدتي عندما استيقظتُ في الصباح. قال لي أبي آنذاك إنّها راحَت تزورُ جدّتي المريضة وإنّ عليّ التحلّي بالصبر حتى ترجع، فالأمر قد يستغرق بعض الوقت. أظنُّ أنّه أرادَ شراء الوقت ليعرف كيف يسترجع زوجته التي رحَلت مع أحد موظّفيه إلى وجهة غير معروفة، أو لإيجاد الطريقة المناسبة ليشرحَ لي ما حدَثَ حقاً.

إلا أنّ أمّي لَم تعُد فاضطّر والدي إلى أن يقول لي إنّ التي أعطَتني الحياة فضّلَت حياة أخرى على التي كانت تعيشُها معنا، وإنّ علينا تدبير أمرنا مِن دونها. كان المسكين مُحبطاً لدرجة أنّني نسيتُ حزني لأواسيه وأخفّف مِن خذلانه. لِذا صرتُ أقومُ بالأعمال المنزليّة قدر المُستطاع وأجتهدُ في المدرسة. لكنّ كلّ ذلك لَم يُحسّن حالته فبدأ بالشرب والنوم لساعات طويلة، الأمر الذي حمَلَ جدّتي، التي لَم تكن مريضة طبعًا، على المجيء والعَيش معنا بصورة مُتقطّعة. فتلك المرأة لَم تتقبّل أبدًا ما فعلَته إبنتها بنا وبنفسها ورأَت بذلك فرصة للتعويض لنا. لَم يرَ أبي مانعًا بأنّ تُساعدنا أمّ زوجته الخائنة التي أحبّها كثيرًا. فالجدير بالذكر أنّ والدي كان مُتيّمًا بأمّي لدرجة الجنون بعد أن أحبَّها مذّ كانا على مقاعد الدّراسة. فقد كانت هي حبّه الأوّل والأخير ولَم يفقد الأمل بأن تعود يومًا إليه، لِذا لَم أسمعه يتكلّم عنها بالسوء أو يسمحَ لأحد بأن ينعتَها بأي كلمة نابية. وهكذا طغى على بيتنا الحزن والبكاء والحفاظ على ذكرى حبيبة لن يأخذ أحد مكانها.

وبعد سنتَين مِن العذاب، دقَّت والدتي بابنا. رأيتُها واقفة أمامي وبسمة عريضة على وجهها وحقيبة إلى جانبها قائلة: "لقد عدتُ!". كان بودّي أن أغلِقُ الباب بوجهها، فلَم أحبّ نبرتها الخفيفة وكأنّها رحلَت قبل يوم واحد فقط. ألَم تحسب حساب عذابنا؟ هل كان مسموحًا لها أن تتلاعب بمشاعرنا هكذا؟ لكنّ أبي ركضَ مِن الصالون وعانقَها باكيًا ومُتمتمًا: "كنتُ واثقًا مِن ذلك!". دخلَت والدتي البيت بعد أن وضعَت قبلة على جبيني وراحَت إلى الغرفة لتُرتّب أمتعتها.

لحِقَ بها أبي وبقيا في الغرفة حوالي الساعة. ركضتُ أتّصل بجدّتي لأخبرها بما حصل وهي صرخَت: "الفاسقة!". بعد ذلك، تصرّفَت أمّي بشكل طبيعيّ، أي وكأنّ شيئًا لَم يحصل. سألَتني إن كنتُ فالحًا في المدرسة كما قد تفعل جارة أو زائرة. نظرتُ إليها بتعجّب ثمّ قلتُ لها:

 

- لقد غبتِ سنتَين وهذا كلّ ما تسألين عنه؟ هل فقدتِ عقلكِ؟!؟

 


عندها صرخَ بي أبي وأمرَني بالصمت وعدم التقليل مِن احترام والدتي. دخلتُ غرفتي لأبكي لوحدي. ما الذي كان يجري؟ كيف يقبل أبي بأن تعود زوجته هكذا؟ لَم أسمعه يصرخ عليها أو يطلبُ منها تفسيرات ومُبرّرات أو شيئًا مِن الندَم. هل فقدَ أبي هو الآخر عقله أو كرامته؟

جاءَت جدّتي بسرعة وأخذَت إبنتها إلى الغرفة لتصرخ بها وتنعتها بألف إسم. أجابَتها أمّي بأنّ هذا ليس مِن شأنّها وأنّ زوجها راضٍ برجوعها. عندها سألَتها جدّتي:

 

ـ لماذا عُدتِ؟ هل سئمَ منكِ عشيقكِ؟

 

ـ لا بل أنا التي سئمَت منه.

 

ـ كيف تركتِ ولدكِ هكذا؟

 

ـ إنّه بألف خير كما ترَين... بكامل صحّته!

 

ـ وصحّته النفسيّة؟ ألَم تفكّري بذلك؟ أمّ أنّ كلّ همّكِ كان تمضية بعض الوقت مع رجل جديد؟

 

ـ إهتمّي بشؤونكِ يا أمّي! ها أنا قد عدتُ!

 

ثمّ أضافَت والدتي ضاحكة:

 

ـ لكنّني أمضَيتُ أوقاتًا ممتعة للغاية!

 

خرجَت جدّتي غاضبة مِن الغرفة، ووجدَتني واقفًا أمامها فحضنَتني باكية. ثمّ قالَت لي:

 

- ليست النساء كلّهنّ مثل أمّكَ، هي فقط أسوأهنّ. عندما تكبر ستعرف ذلك بنفسكَ، وحتى ذلك الحين، لا تحاول فهم والدتكَ فهذه مضيَعة للوقت.

 

وكانت على حقّ، فتصرّف أمّي كان غير معقول لكنّ ردّة فعل أبي كانت أكثر غرابة. فهو لَم يسألها عمّا فعلَته خلال تلك السنتَين، ولَم يُعاقبها أو يغضب منها بل العكس. كان قد استرجَعَ حبّ حياته وكان ذلك كافيًا له.

عامَلتنا أمّي كما كانت تفعل في السابق، أي كزوجة مثاليّة وأمًّا حنونة، واعتقدتُ أحيانًا أنّ رحيلها كان مجرّد حلم مُزعج... إلى أن اختفَت مُجدّدًا. في تلك المرّة، لَم أُفاجأ كثيرًا بل رحتُ أحضّرُ بنفسي الفطور لي ولأبي، الذي جلَسَ في المطبخ صامتًا يحدّقُ في الحائط. كلّ ما قلتُه له كان:

 

- هل صدّقتَ فعلاً أنّها لن تُعيد الكرّة؟ كُل فطوركَ قبل أن يبرد.

 


وعادَ الحزن وعادَت الكآبة، وعادَت جدّتي تُساعدنا كما في المرّة السابقة، إلا أنّني كنتُ أقلّ إحباطًا خلافًا لِما حصَلَ لأبي. فالمسكين عادَ إلى الكحول والبكاء. إستمرَّ الوضع لحوالي السنة حين فوجئتُ، بسرور، بتحسّن لدى أبي. لَم يخطر ببالي أبدًا أنّه سيستعيد بسمته يومًا لكنّ ذلك حصَلَ فعلاً. لَم أجرؤ على سؤاله عن هذا التغيّر إلا أنّ جدّتي قالَت لي مُشيرة إليه:

 

- إنّها إمرأة... لا شيء يحملُ رجلاً على الابتسام هكذا سوى امرأة... أدعو الله أن يكون صهري قد تغلّبَ على حبّه الأعمى لإبنتي... فهو انسان صالح ويستحقّ امرأة أفضل مِن تلك الساقطة.

 

عندها أخذتُ أراقبُ أبي لأتأكّد مِن نظريّة جدّتي، ولاحظتُ كيف يبتسمُ وهو ينظر إلى هاتفه كما يفعل المُراهقون وكيف أنّ "إجتماعاته" في العمل كَثُرَت. أرَدتُ تهنئتَه على إيجاده إمرأة جديدة إلا أنّني لَم أكن مُعتادًا على التدخّل في شؤون والدي فاكتفَيتُ بالمُراقبة.

بعد أشهر قليلة طلَبَ أبي التكلّم معي ليُخبرَني أنّ ضيفةً ستنضمّ إلينا لتناول العشاء، وأنّها صديقة وربمّا أكثر. فرِحتُ لمصارحته لي وأعربتُ له عن شوقي للتعرّف إليها. عندها عانقَني قائلاً:

 

- يحقُّ لنا البدء مِن جديد، أليس كذلك... شكرًا يا بنيَّ.

 

كانت سارة سيّدة لطيفة وجميلة وكان مِن الواضح أنّها تحبّ أبي للغاية. قضَينا وقتًا مُمتعًا، وتمنيّتُ منها أن تزورنا مُجدّدًا، الأمر الذي أفَرَحَ قلب أبي.

حُدِّدَ موعد الزفاف بعد فترة، وبدأنا بالتحضيرات بحماس غير مسبوق، وانضمَّت إلينا جدّتي وكأنّها تزوّج إبنها لا صهرها.

ووسط تلك الفرحة العارمة... عادَت أمّي كما فعلَت في المرّة السّابقة. حبستُ أنفاسي خوفًا مِن أن يستعيد أبي فجأة حبّه وشوقه لها، واغتنمتُ فرصة غيابه عن البيت لأقول لها وهي واقفة عند الباب:

 

ـ عودي أدراجكِ يا أمّي فأنتِ ليس مُرحبًا بكِ هنا.

 

ـ هذا بيتي وأدخلُه حين أشاء!

 

ـ لا! لَم يعد بيتكِ ولَم تعودي سيّدته. ألَم يكفيكِ الأذى الذي سبّبتِه لنا؟ تذهبين وتعودين وكأنّكِ فتاة صغيرة تلعب... ألا تخجلين مِن نفسكِ؟

 

ـ كيف تكلّمُ أمّكَ هكذا؟

 

ـ أمّي؟ لستِ أماً بل إمرأة خفيفة وأنانيّة. الأم ترعى أفراد عائلتها وتُساندُهم وتهتمُّ بهم. أنتِ إنسانة غريبة ولا يجدرُ بي إدخال الغرباء إلى البيت. إضافة إلى ذلك، سيتزوّج أبي قريبًا ولن أسمحَ لكِ بأن تدمّريه ثانية.

 

ـ سيتزوّج؟َ!؟ إذًا عليّ الدخول والمكوث.

 

ـ إن وطأَت قدماكِ هذا البيت، أقسمُ لكِ بأنّني سأحوّلُ حياتكِ إلى جحيم يوميّ! أتركينا بسلام وعودي لِعشّاقكِ! هذا بيت شريف ولا مكان لكِ فيه! هيّا!

 

ـ لَم تكبر كفاية للتصرّف كما تشاء، لا تزال مُراهقًا.

 

ـ بل صرتُ رجلاً بعدما كبرتُ بسرعة بسببكِ. وإن كنتِ تستخفّين بي، ستتفاجئين كثيرًا بالذي بإمكاني فعله!

 

ونظرتُ إليها بقوّة وغضب لِدرجة أنّها تراجعَت إلى الخلف. سكتَت أمّي للحظات ومِن ثمّ غادرَت. لَم أُخبر أبي بمجيء أمّي، إلا أنّني نصحتُه بتطليقها حفاظًا على محبّة عروسه له... وهو سمِعَ منّي. هكذا لَم تعُد تسطيع والدتي المُطالبة بحقّها بالعَيش في البيت.

تزوّجَ أبي وكانت سارة مِن خيرة النساء، الأمر الذي أكّدَ لي كلام جدّتي لي وشجّعَني لاحقًا على الحبّ والزواج، وإلا لأُصِبتُ باضطراب نفسيّ.

لَم نسمَع عن أمّي أبدًا ولا نعرفُ أين هي وما الذي تفعله ومع مَن، وهكذا أفضل.

صارَ لي أخ أحبّه كثيرًا وأرعاه، وحبّي له يفوقُ كلّ شيء، فهو يُمثّلُ بالنسبة لي الأمل بالحياة والناس، ودليل قاطع على أنّ بإمكان المرء أن يمحو أخطاءه ويبدأ مِن جديد... ويجدُ السعادة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button