منذ ما كنتُ صغيرة، كان والدَيّ يؤجرّان غرَفاً في بيتنا لِمَن يرغب بذلك, فكان المكان مؤلّفاً مِن طابقَين ويتّسع لأشخاص كثر. وكانت أمّي قد ورثَت هذا العقار مِن أهلها الذين كانوا أثرياء فيما مضى. وهكذا شاهدتُ أناساً يأتون ويذهبون والبعض كان طيّباً وهادئاً والآخر مزعجاً وفظّاً. ولكن وفي كل الأحوال، بقيَ أبويّ يستقبلان الجميع ببسمة عريضة ويسعان إلى جعل مكوثهم هنيئاً. ولكن كان هناك مستأجر لن ننساه أبداً، لأنّه جعل مِن حياتنا كابوساً.
كنتُ في ذلك الحين في السادسة عشر مِن عمري وأذكر بكل وضوح قدوم جودَت إلى منزلنا. في ذلك اليوم رأينا رجلاً أنيقاً يحمل حقيبة كبيرة يقرع بابنا. وإبتسم لنا وسألَنا إن كان لدينا غرفة شاغرة، فأجابَه أبي:"بيتنا مفتوح لِكل شخص محبّ فأهلاً وسهلاً بكَ". وبعد أن إتفّقا على التفاصيل، قادَته والدتي إلى مكان سكنه الجديد وأعجبَه المكان. وهكذا بدأنا نراه يوميّاً عندما كان يأتي لِتناول العشاء معنا وعلمتُ أنّه تاجر لوازم بناء ينتقّل مِن مدينة إلى أخرى يمكث فيها الوقت اللازم لتوزيع بضاعته على محلاّت المنطقة وأنّه يفضّل إستأجار غرفة في بيت بدلاً مِن الفندق لكي يشعر بالجوّ العائلي ويتذكّر ذويه الذي يشتاق إليهم بإستمرار. وإعتدنا على وجوده ولم يزعجنا بشيء لا بل كان هادئاً ولطيفاً. ولأنّه كان مرتاحاً عندنا، كان يجلب معه مِن حين إلى آخر الهدايا والمطيّبات حتى أن أصبح وكأنّه صديق قديم ولاحقاً فرداً مِن العائلة. لم يكن يأتي أحد لزيارته سوى شقيقته التي كانت تجلب له بعض الأمتعة وتطلعُه على أحوال أهله. ولكن بعد مرور حوالي الستة أشهر على معرفتنا به، إختفى جودَت فجأة. إنتظرناه على العشاء ككل ليلة ولم يأتِ فإعتقدنا أنّه قد إلتقى بإحد معارفه الذي أبقاه على مائدته. وفي الصباح لم يراه أحدنا يمرّ بنا ليتمنىّ لنا يوماً سعيداً كعادته. وبدأ بالنا ينشغل عليه في المساء التالي وقرّرَ والدي أن يذهب إلى الشرطة في الصباح للإبلاغ عن إختفاءه. ولم ينَم أحدنا جيدّاً تلك الليلة وتصوّرتُ أبشع السيناريوهات بما يخصّه، كوقوعه ضحيّة حادث سيّارة أو بين أيادي سارقين أو خاطفين. ولكن في لحظة طلوع الفجر سمعنا صوت محرّك سيّارة وأقدام وعندما نظرنا مِن النافذة رأينا جودَت يدخل المنزل. ركضَ أبي ليسأله أين كان ولكن الرجل لم يجب وقصدَ غرفته بسرعة. وأمام هذا المشهد الغريب وقفنا جميعاً نسأل أنفسنا عن سبب تصرّف صديقنا. طلبَ منّا أبي أن نعطي الرجل بعض الوقت ووعدَنا أنّه سيعرف منه كل التفاصيل قريباً. وعادَت الفرحة إلى قلوبنا بعدما علِمنا أنّه بخير وذهبتُ إلى مدرستي وأنا أغنّي. ولكن عندما عدتُ إلى البيت بعد ساعات، وجدتُ أبي وأمي بحالة يُرثى لها. كانت والدتي تبكي بحرارة وتضرب رأسها وأبي غاضب إلى أقصى درجة يهدّد ويقول لها:"كيف إستطعتِ فعل ذلك؟ كيف؟؟؟". وقفتُ مذعورة أمامهما لأنّني لم أراهما يوماً يتشاجران، فلطالما كانا متحبّان. وحين سألتهما عن الذي يجري، أجابَ أبي:
ـ أمّكِ غبيّة! غبيّة!
ـ لا تقل ذلك عنها يا بابا... ما الأمر؟ ما لذي حصل؟
ـ إسأليها! سأخرج لكي لا أقتلها!
وبعد خروجه إقتربتُ مِن والدتي وقبّلتُها بحنان قائلة:
ـ مهما فعلتِ يا ماما سأظلّ أحبّكِ...
ـ أشكّ بذلك... أظنّ أنّكِ ستكرهينني كما فعلَ أبوكِ... يا لَيتني متُ قبل أن...
ـ قبل ماذا؟ تكلّمي أرجوكِ...
ـ مِن أين أبدأ... هذا الرجل... جودَت... إحتالَ عليّ لكي أعطيه أغلى ما عندي...
ـ أمّي! أتعنين أنّه... عشيقكِ؟؟؟
ـ لا! كيف تظنيّن ذلك؟ أعنّي أنّه جعلَني أتنازل له عن المنزل.
في البدء لم أستوعب جيدّاً ما قالَته وعندما فهمتُ قصدها، صرختُ:
ـ ولماذا تفعلين ذلك؟ كيف أقنعكِ؟ ما الذي قاله لكي تقومي بذلك؟
ـ لم يقل لي أنّني سأفقد البيت، بل أنّه سيقوم بترميم الأقسام القديمة وجَعلَني أوقّع على عقد الأشغال الذي كان بالحقيقة عقد بيع...
ـ الأمر سهل! سنقول أنّه إحتال عليكِ!
ـ جاء مع شاهدَين عندما كنتِ أنتِ في المدرسة وأبوكِ في العمل ووقّعا قرب أسمي...
ـ حسناً... سنقول أنّ الشاهدَين مُتّفقَين معه!
ـ لا... الشاهد الأوّل هو المختار والثاني موظّف البريد... جاء بهما إلى هنا... وسيشهدان أنّني كنتُ موافقة خاصة أنّني قلتُ له: "مبروك عليكَ يا جودَت"... لم أقرأ ما بداخل العقد بل إكتفيتُ بالتوقيع... أردتُها أن تكون مفاجأة لأبيكِ...
ـ وكانت فعلاً مفاجأة... وما الذي قالَه المحتال هذا الصباح عندما رأيتموه؟
ـ أراد أبوكِ أن يعرف سبب إختفاءه فسألَه أين كان وأجابَه جودَت:" كنتُ أستعد لِجلب أمتعتي وعائلتي إلى بيتي الجديد". فسألَه والدكِ متى وأين إشترى منزله فأجابَه:" هذا هو بيتي الجديد". وأخرجَ أوراقاً مِن جيبه وأراه لأبيكِ الذي بدأ يصرخ ويهدّد ومِن ثم ناداني ليسألني عن الأمر، فقلتُ له أنّني لم أوقّع على عقد بيع بل صيانة مبنى. وتركنا جودَت نتشاجر وقال قبل رحيله:"لديكم أسبوعاً لِتخلوا المكان وإلاّ عدتُ مع الشرطة". والباقي تعرفينه".
جلستُ على كرسي لقوّة الصدمة وبدأتُ أبكي لأنّني كنتُ سأُرغَم على ترك المكان الذي ولدتُ فيه. وقصَدَ أبي محامياً ولكن كل تلك المعاملات كانت شرعيّة وكان هناك شهود محطّ ثقة، فلم يبقى لدينا سوى الرحيل. وفي الموعد المذكور، جاءَ جودَت مع زوجته وأولاده وأثاث بيتهم. وفوجئنا بأنّ المرأة التي إدّعَت أنّها شقيقته هي بالحقيقة زوجته وأنّهما كانا يخططاً للأمر منذ البدء. وبينما كنّا نحمّل أمتعتنا في الشاحنة التي جئنا بها لِنقصد منزلاً صغيراً إستأجره أبي، قال لنا جودَت:
ـ هذا ما كان يجب أن يحصل منذ سنين...
ـ ماذا تقصد؟ سأله أبي.
ـ والد زوجتكَ هو أيضاً أبي... عرِفَ أمّي أثناء سفرة له وحمِلَت منه وعندما طلبَت منه أن يتزوّجها ويتعرّف عليّ رفضَ ذلك وإختفى... هذا المنزل مِن حقّي أيضاً... يحقّ لي النصف وأخذتُ النصف الآخر كتعويض لي لكلّ السنوات التي قضيتُها بلا أب وكنتُ محط سخرية الجميع و أُلقّب" اللقيط"...
ـ وما ذنبنا نحن؟
ـ لا ذنب لكم... ولكن على أحد أن يدفع ثمن أغلاط أبي...
ورحلنا والدمع يملأ عيوننا وسكنّا في ذلك المكان البشع الذي كان بالكاد يتسّع لنا بعدما كنّا نعيش في شبه قصر. ولم نوبّخ يوماً أمّي على ما فعلَته، لأنّها كانت أكثرنا حزناً ولأنّ المنزل كان ملكها أصلاً. ومنذ ذلك الحين، أخذتُ قراراً وهو أن أدرس بجهد لأجد وظيفة أو مهنة مُربحة وأجني المال الوفير وأشتري لأهلي منزلاً أكبر وأجمل مِن الذي كان لدينا. وأعرف بقرارة نفسي أنّ ذلك اليوم سيأتي وأعيد البسمة إلى وجه والديّ.
حاورتها بولا جهشان