ضيفتنا ناديا

الحقّ يقَع على والدي في ما حصَلَ، حتى لو كان ذلك بِغير إرادته. لكنّه كان مِن هؤلاء الذين يفون بِوعودهم مهما كلَّفَ الأمر، وحتى لو كان ذلك على حسابهم.

يوم توفّيَ صديق أبي الذي كان أرملاً، وانتهَت مراسم الدفن والعزاء، هو قالَ لأمّنا ولنا:

 

- لقد وعدتُ المرحوم بالاهتمام بإبنته الوحيدة، فالمسكينة باتَت مِن دون أمّ وأب وليس لدَيها سوانا.

 

صرختُ عاليًا:

 

- تقصدُ ناديا؟!؟

 

- أجل، يا حبيبتي... هي ستسكنُ معنا. أعمالي جيّدة للغاية، ولدَينا ما يكفي مِن المال لاستقبال ليس شخصًا واحدًا فحسب بل دزّينة!

 

- سيكون لي أخيرًا مَن ألعبُ معها! فإخوَتي لا يُعيروني أيّ اهتمام.

 

كانت والدتي قد بقيَت صامتة لكنّها أجابَتني:

 

- ناديا تكبرُكِ بِعشر سنوات يا حبيبتي، إنّها في الثامنة عشرة مِن عمرها... ولا أظنُّها ستعيرُكِ أهمّيّة هي الأخرى.

 

ثمّ نظرَت إلى أبي قائلة:

 

- يا لَيتكَ استشَرتَني يا زوجي العزيز قبل أخذ قراركَ... فإنّكَ تعلَم ما يُقال عن ناديا.

 

- كلّها إشاعات! فتلك الصبيّة جميلة وذكيّة والكلّ يغارُ منها. على كلّ الأحوال، لقد أعطَيتُ وعدي لِصديقي وها هو قد مات. فلا داعٍ لهذا الكلام الآن، مِن فضلكِ.

سكتَت أمّي ولَم أجرؤ على سؤالها أو أبي عن تلك الأقاويل، واكتفَيتُ بِخبَر مجيء صبيّة إلى بيتنا بعد أن ملَلتُ مِن كَوني فتاة وحيدة وسط ثلاثة صبيان.

 


وفي الليلة ذاتها، سمِعتُ والدَيّ وهما يتشاجران همسًا حَول ناديا، ورجَوتُ أن تُغيّرَ والدتي رأيها حيال الموضوع. وكَم كانت فرحتي كبيرة حين وصلَت ابنة صديق أبي بيتنا مع أمتعتها التي وضعَتها في غرفتي! بقيَت أمّي حذِرة مِن ناديا إلى أن بدأَت تعتادُ إليها شيئًا فشيئًا، الأمر الذي طمأنَ بال أبي.

أعطَتني ناديا مِن وقتها مع أنّها دخلَت الجامعة. وهي لَم تترُك عمَلَها كي لا يتكبَّد والدي أعباء دراستها، ولَم أجِد مُبرّرًا لأيّ شائعة قد تُطلَق حولها. فقد كانت تلك الصبيّة انسانة رائعة.

إلا أنّ إحدى رفيقاتي في المدرسة قالَت لي ذات يوم:

 

- سمعتُ والدتي تقول لأبي ليلة أمس بشأن ضيفتكم: “لستُ أفهَم كيف أنّهم أدخلوها بيتهم... أخشى عليهم منها".

 

- ما الأمر؟ ما الذي قصدَته والدتكِ؟؟؟ لَم أرَ في ناديا أيّ شيء يدعو للقلَق. لا تنسي أنّها تُشاركني غرفتي منذ قدومها، وهي تُساعدني في دروسي وتلعَب معي بين الحين والآخَر، لقد بِتُّ أعرفُها جيّدًا.

 

- أنقلُ لكِ فقط ما سمعتُه فأنا لا أعرفُها شخصيًّا.

 

- إذًا عليكِ أن تُؤكِّدي لِذويكِ أنّهما على خطأ بشأن ناديا.

 

في اليوم نفسه، أصرَّيتُ أن أعرفَ مِن أمّي ما تعلمُه عن الاشاعات التي تدورُ حول ضيفتنا. وهي قالَت لي بعد أن أدركَت أنًني لن أتركها وشأنها قبل أن تتكلَّم:

 

- يُقال إنّها تُعاشرُ أناسًا ذوي سُمعة سيّئة وسلوك مُنحلّ. فأبوها، رحمه الله، لَم يُحسِن الاهتمام بها بعد موت زوجته بِسبب انشغاله بِعمَله.

 

- لكنّ ناديا، كما رأيناها، إنسانة جيّدة وهادئة وخلوقة، تذهبُ إلى عملها وجامعتها لِتعود إلى البيت.

 

- صحيحٌ ذلك يا صغيرتي.... قد يكون الناس على خطأ في ما يخصّها. لا تشغلي بالكِ بهذه الأمور.

 

- لن أقبَلَ بأن يتكلّم أحدٌ بالسوء عن صديقتي! إنّها الآن بِمثابة أختي الكبرى!

 

- أجل... أجل.

 

شعرتُ مِن نبرة صوت أمّي أنّها كانت، وبالرغم مِن قبولها وجود ناديا، لا تزال تُصدّق تلك الأقاويل، وحزِنتُ للغاية. ولَم أكن مُخطئة فوالدتي كانت، على خلاف أبي، تحبُّ أن تتأكّد مِن كلّ شيء وتستقصي عن أيّ صغيرة وكبيرة. ولهذا قرّرَت أن تُراقب ضيفتنا وأظنّ أنّ حديثنا هو الذي دفعَها لذلك، لأنّه ذكَّرَها بأنّها هي الأخرى كان لدَيها امتعاض مِن ناديا.

 


علِمَت أمّي أنّ ابنة صديق والدي لَم تكن مُسجّلة بتلك الجامعة أو أيّ جامعة أخرى، الأمر الذي أثارَ استغرابها ورَيبَتها... فلأيّ سبب تكذبُ ناديا؟ وما هو أهمّ: إلى أين كانت تذهب بعد انتهائها مِن عمَلها؟ كان بإمكانها سؤالها عن الموضوع، لكنّ أمّي فضَّلت إبقاء معلوماتها لِنفسها ومُتابعة بَحثها على سجيّتها. وهي استغنمَت غياب ناديا عن البيت خلال فرصة نهاية الأسبوع، لِتفتيش خزانتها حتى تعرف المزيد.

كنتُ في الحمّام أستحمّ حين دخلتُ غرفتي ورأيتُ ما تفعله والدتي. صرختُ بها عاليًا أن تبتعِد عن خزانة ناديا لأنّ ذلك لا يجوز، إلا أنّها لَم تردّ عليّ. أمسَكتُها مِن ذراعها وبدأتُ أسحبُ بها إلى الوراء، حين وجدَت أمّي شيئًا ملفوفًا بِكيس ووضعَته في جَيبها قائلة:

 

- حسنًا سأخرجُ مِن الغرفة... لكن إيّاكِ أن تقولي شيئًا لِناديا! لا تنسي أنّني أمّكِ وهي مُجرّد انسانة غريبة لَم تعلَمي بِوجودها سوى منذ أشهر قليلة. ثقي بي يا صغيرتي، فأنا وأبوكِ الوحيدان اللذان لن نغشّكِ يومًا. وكي لا تشكّ بكِ ناديا، سأُعيدُ إلى الخزانة ما وجدتُه للتوّ بعد تفحّصه، مع أنّني أعرفُ مُسبقًا ماهيّته.

 

لَم أعلَم ما في الكيس لأنّني لَم أرَ يومًا كيف يكون شكل المُخدّرات. إنتظرَت والدتي عودة أبي لِتُطلِعه على ما وجدَته في خزانة ناديا، وسمعتُهما يتشاجران مُجدَّدًا. قالَ لها والدي:

 

- إن كنتِ تظنّين أنّني سأطردُ ناديا مِن بيتي فأنتِ مُخطئة! وعدتُ أباها أن...

 

- نعرفُ جميعًا تلك القصّة، فاعفِنا منها! إنّ تلك الصبيّة تُشاطرُ غرفة إبنتنا الوحيدة التي عمرها ثماني سنوات! ما بكَ؟؟؟ هل برأيكَ هي مثال لابنتنا؟

 

- بالطبع لا... لكن بإمكاننا التكلّم معها وإقناعها التخلّي عن المُخدّرات... المسكينة صارَت يتيمة الأبَوين...

 

- لِنعرضها على أخصّائيّ... وإلا سأُخيّرُكَ بيني وبينها!

 

عادَت ناديا مِن عند زميلة لها، وطلَبَ أبي التكلّم معها على حِدة. لَم أتمكّن مِن معرفة ما دارَ مِن حديث بينهما، إلا أنّني رأيتُها تركضُ باكيةً إلى خارج البيت. ثمّ نادى والدي أمّي وقالَ لها إنّ الأمور جرَت كما يجِب، وإنّ ناديا قبِلَت أن تتعالَج للإقلاع عن تعاطي الممنوعات. دخلتُ الغرفة لأنام وعادَت ناديا بعد ساعة في حالة جيّدة. لَم أسألها أيّ سؤال، بل اكتفَيتُ بالابتسامة لها ثمّ أطفأنا الأنوار وغرِقنا في النوم.

بعد ذلك تتالَت الأحداث بِسرعة. أنا لا أذكرُها تمامًا، إلا أنّني استَيقظتُ على صوت أبي يصرخُ لأمّي:"خذي الأولاد واهربي!". لَم أتمكّن من استيعاب ما يحصل، فقد نظرتُ مِن حولي ولَم أجِد ناديا بل سمعتُ باب غرفتي يُقفَل مِن الخارج. نادَيتُ أخوَتي وهم صرخوا لي أنّهم أيضًا محجوزون في غُرَفهم. تسارعَت دقّات قلبي، فكان مِن الواضح أنّ أمرًا رهيبًا يحصل، خاصّة أنّني لَم أعُد أسمَع شيئًا مِن جانب والدَيّ.

عندها فتحتُ شبّاك الغرفة ونظرتُ إلى الأسفل، فرأيتُ سيّارة جارنا مركونة، وكنتُ أعلم أنّه وضَعَ فيها نظام انذار كان ينطلِق كلّما قفزَت عليها إحدى هِرَر الحَيّ. كان حينها يُسرِعُ إلى نافذته لإطفائه. لِذا، أمسكتُ أوّل غرَض وجدتُه في الغرفة ورمَيتُه بقوّة على السيّارة فانطلقَت الصفّارة. بعد ثوانِ، أطلَّ الجار برأسه لِتوقيف نظام الإنذار، فقلتُ له بِصوت أردتُه خافتًا: "النجدة! أُطلُب الشرطة بِسرعة! هيّا!". هو لَم يكتفِ بذلك، بل صعِدَ إلى شقّتنا كالمجنون بِرفقة جار آخر وفتَحا باب غرفتي وغرفة أخوَتي. ركَضنا جميعًا إلى الصالون فوجدنا والدَيَّ مربوطَي اليدَين على الأرض والدمّ يخرجُ مِن رأس أبي. ثمّ دخلَت الشرطة وسمعتُ أمّي تصرخُ لهم: "إنّها ناديا! لقد سرقتنا الفاسقة بِمُساعدة شريك!". أُخِذَ والدي إلى المشفى بينما إلتفَفنا حَول والدتي التي كان سيُغمى عليها.

علِمتُ لاحقًا، وبعد أن تمَّ القبض على ناديا واعترفَت بكلّ شيء، أنّها حين خرجَت مِن بيتنا بعد حديثها مع أبي، قصدَت على الفور أحد هؤلاء الفاسدين الذين تعرفهُم، وخطَّطتَ معه لِسرقة بيتنا و"تلقين ذلك الأحمَق درسًا لن ينساه". كانت تقصدَ أبي، هو نفسه الذي استقبلَها في بيته وعاملَها كإبنته! بالفعل إنّها إنسانة ناكرة للجميل!

عادَ والدي إلى البيت مُتعافيًا تمامًا، ولَم نفتح أمامه سيرة تلك المخلوقة، لكنّه اعترَفَ لأمّي بِندَمه لأنّه لَم يسمَع تنبيهاتها. صُدِمتُ لِما فعلَته ناديا إذ كانت لي آمال كبيرة بشأنها.

إختفَت ناديا كلّيًّا بعد خروجها مِن السجن، ولَم يُحاول أيّ منّا معرفة شيء عنها، لِكثرة الأذى المعنويّ والمادّيّ الذي سبَّبَته لنا.

كنتُ قد فقدتُ "أختي الكبيرة" وثقتي بالناس في آن واحد. ومع أنّني صرتُ اليوم إمرأة ناجحة وزوجة وأمًّا، إلا أنّني لا ازالُ أجدُ صعوبة بِبناء الصداقات. تبًّا لكِ يا ناديا!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button