ضحّيت بحريّتي...

كان لا بدَّ لي مِن أن أنقذَ سمَر مِن زوجها، ففي آخر المطاف أنا ابن خالتها في حين هي وحيدة لأهلها. للحقيقة، حسّي بالرّجولة والواجب لَم يكونا السّببَين الوحيدَين لإندفاعي هذا، بل أيضًا حبّي المُستَتِر لِسمَر. لماذا لَم أُفصِح لها عن حقيقة مشاعري قَبل أن تربطَ حياتها بذلك النذل؟ لأنّنا كنّا كالأخوة، على الأقلّ في نظَرها ونظَر باقي العائلة، فخجلتُ مِن ردّة فعل الجميع حيالَ حبّي لإبنة خالتي. صحيح أنّني كنتُ حتى ذلك الحين قد واعدتُ فتيات أخريات، لكنّ علاقتي بهنّ كانت سطحيّة لا غير. قلبي كان مُلك سمَر وذلك مذ كنتُ في التاسعة مِن عمري. دعوني أشرَحُ لكم سبب عزمي على إنقاذ سمَر مِن زوجها، وأقصُّ عليكم ما حصَلَ لاحقًا بالتفصيل:

إرتبطَت ابنة خالتي بِعريسها بعدما زارَ أهلها أناسٌ سمِعوا بجمال ورقّة سمَر. وإتّفقَ الجميع على وجوب الرّبط بين العائلتَين بسبب المصالح المُشتركة، والفُرَص التي ستولَد مِن تلك الزيجة. ولَم ترَ العروس عريسها شخصيًّا إلا قَبل موعد الزفاف بأسبوع واحد. طريقة بالفعل غريبة عجيبة لمَن يعيشُ في القرن الواحد والعشرين ووسط عاصمة بلد مُتحضِّر! فالأهل، ومِن الجهتَين، خافوا ألا تقبَل به سمَر لأنّه كان قبيحًا وصعب المزاج. وعلِموا أنّها لن تتمكّن مِن إلغاء ما كان مُقرّرًا، بعد أن يتمّ إرسال الدعوات للمعازيم وتحضير كل ما يلزم للعروس. أمّا هي، فصدّقَت كلّ ما قالوه لها عن العريس، أي عن وسامته الفائقة ولياقته وثقافته، وعن كَونه يعمل بعيدًا ولا يستطيع ترك أعماله في المهجَر، وهو أمر لَم يكن صحيحًا. أروها صورة لِرجُل وسيم وقالوا لها إنّه عريسها. غشوّها وهي وقعَت في الفخ.

لَم أكن أبدًا موافقًا على الذي يحصل، ليس فقط بسبب حبّي لها، بل لأنّ المكيدة كانت واضحة. وحدها ابنة خالتي كانت تؤمِن بكّل الذي صوّروه لها. وكي لا أخسِر ثقتها بي، كفَّيتُ عن إقناعها بالرفض، لكنّني وعدتُها بأنّني موجودٌ في حال هي احتاجَت لأيّ شيء.

يوم تعرّفَت سمَر أخيرًا إلى خليل، كادَت المسكينة أن تسقطَ أرضًا مِن كثرة خَيبتها. فذلك الرّجل كان عكس كلّ تصوّراتها، وراحَت تختبئ في غرفتها لِتبكي وتتحسَّر على حظّها. حاوَلت المسكينة إلغاء الزواج، لكنّ الأهل رفضوا وقوع ما أسموه "فضيحة العصر". عرضتُ عليها حينها أن نهربَ سويًّا، إلا أنّها نظرَت إليّ بِتعجّب قائلة: "أهربُ معكَ؟ ولماذا؟". سكتُّ طبعًا، فكان مِن الواضح أنّني لستُ ولن أكون يومًا حبيب سمَر.

لكن مَن يُحبّ يُبقي في نفسه دائمَا بعض الأمل، فربّما قد تتغيّر مشاعر ابنة خالتي حيالي في أحد الأيّام، هذا لو أعربتُ لها عن دَعم قويّ واستعداد دائم لانتشالها مِن أيّ مأزق. كرَّستُ حياتي لِسمَر، خاصّة بعدما تزوّجَت رغمًا عنها. فكنتُ مُتأكّدًا مِن أنّ الأمور ستسوء في المُستقبل وألعبُ دورًا شهمًا في حياة قريبتي.

 


لَم أكن مُخطئًا، فلَم تستوعِب سمَر ما حصَلَ لها. خليل، مِن جانبه، لَم يتقبَّل رفضها له، فهو كان ميسورًا وذا شأن كبير. كان يعرفُ أنّه ليس وسيمًا، ولكنّ القباحة لَم تكن يومًا عيبًا لِمَن يملكُ المال والنفوذ.

رفضَت سمَر أن يلمسها زوجها، فاستعمَلَ القوّة، ما يُعدّ نوعًا مِن الاغتصاب، على الأقلّ في البلدان المُتحضِّرة، الأمر الذي زادَ مِن امتعاضها منه. فنما في قلبها كره لا مثيل له حيال ذلك الرجُل. للأسف، كانا تعيسَين للغاية، إلا أنّ زواجهما استمَّر بدلاً مِن أن يذهبَ كلّ منهما في طريقه.

كنتُ الوحيد المسموح له أن يعرفَ كلّ ما يدورُ في ذلك البيت، فسمَر وخليل شكَيا لي امتعاضهما مِن بعضهما وأظنُّ، أنّ الزوج خالَ أنّني لا أهوى النساء. هل ذلك بسبب رفقي ومحّبتي الزائدة لابنة خالتي؟ علِمتُ لاحقًّا أنّ سمَر هي التي أخبرَته بذلك كي تُبقيني إلى جانبها ولا تصير وحيدة في مُصيبتها. إلا أنّ الأمر لَم يُزعجني طالما كنتُ موجودًا حيث هو قلبي، فليظنّ خليل ما يُريدُه، فسيرتي مع الفتيات كانت كافية لِتعزيز رجولتي!

لكنّ زوج سمَر صارَ عنيفًا معها، فهو لَم يعُد يتحمّل حياته الزوجيّة الفاشلة، وكانت له مغامرات عاطفيّة جانبيّة. كلّ ما كان يُريدُه في تلك المرحلة، هو أن تُنجِبَ سمَر ولو مرّة واحدة كي يُحافظ على ماء الوجه أمام الناس. فالأقاويل بدأَت تصدر مِن هنا وهناك حولهما. ومع أنّه كان يُجبِرُ ابنة خالتي على الانصياع له جنسيًّا، إلا أنّها لَم تحمَل. تفاقمَت الأمور بينهما لِدرجة لا تُحتمَل، وبدأتُ أحلمُ بأن يختفي ذلك الرجُل مِن الوجود، فهو كان يتسبَّب لحبيبة قلبي بألم نفسيّ وجسديّ ولَم أعُد أحتمِل لَعِب دور الصديق المُشترَك.

سكَنَ الخوف قلب سمَر بعد أن هدّدَها خليل بقتلها لو أنّها لَم تُنجِب، فاشترَيتُ لها مُسدّسًا لِتُدافع عن نفسها إن قرَّرَ تنفيذ تهديده. فلَم يكن يسعُني التواجد معهما طوال الوقت بسبب عمَلي وأهلي والناس. خافَت ابنة خالتي لدى رؤيتها السلاح الذي جلَبتُه لها، فذلك كان يعني أنّ الخطر حقيقيّ، وبدأَت بالبكاء على كتفي. داعبتُ شعرها بحنان وطمأنتُها بأنّ لا مكروه سيحصلُ لها طالما أنا على قَيد الحياة.

مِن جانبهم، خالتي والباقون أداروا آذانهم الصمّاء لِنداءات سمَر بالإغاثة، وطلبَت منّي والدتي عدَم التدخّل في حياة الزوجَين. كيف لهم أن يتركوا تلك المخلوقة الضعيفة والرقيقة لوحدها مع ذلك الوحش؟ هل خالوني مثلهم بلا قلب أو ضمير؟!؟

حين اتّصلَت بي سمَر ليلاً باكيةً وصارخةً، علِمتُ أنّ مُصيبة ستحصل. إلا أنّني لَم أتصوّر أبدًا كيف كانت ستجري الأمور بالفعل. ركضتُ على الفور، بالرّغم مِن توسّلات أمّي بالبقاء في البيت. قرعتُ الباب كالمجنون، ففتَحَ لي خليل سائلاً عمّا اُريدُه في هكذا وقت مُتأخّر. أزحتُه جانبًا وركضتُ إلى غرفة سمَر، فوجدتُها باكية وجسدها مُغطىً بالكدمات.

 


بلحظة، فتحتُ درج خزانتها حيث رأيتُها تضع المسدّس، وحملتُه راكضًا إلى الصالون حيث كان زوجها جالسًا يشربُ كأسًا مِن الكحول وكأنّ شيئًا لَم يكن. صرختُ به بأنّ يكفّ عن تعذيب سمَر وتطليقها على الفور، لكنّه ضحِكَ عاليًا ونعتَني بالمخنّث الأبلَه. كنتُ أحملُ السلاح خلف ظهري، لِذا هو لَم يعتبِر كلامي جدّيًّا بل طلَبَ منّي الرحيل "لأنّه يُريدُ تأديب زوجته."

أطلقتُ عليه النار مُتأكّدًا مِن أنّ ذلك هو الحلّ الوحيد لإنقاذ ابنة خالتي منه، فكان مِن الواضح أنّه لن يكفّ عن تعنيفها بل سيزيدُ شراسة تجاهها. ركضَت سمَر إلى الصالون لدى سماعها طلقة النار وبدأَت تصرخ كالمجنونة، فالدّماء خرجَت بغزارة مِن صدر خليل وتسرَّبَت حوله كالموجة الحمراء.

لَم تكن سمَر الوحيدة التي سمِعَت دويّ السّلاح، فقد أسرعَ الجيران يطرقون الباب بِعنف. فتحتُ لهم وكأنّني لَم أفعَل شيئًا، فكنتُ لا أزال تحت وطأة الصدمة. إتّصَلَ أحدهم بالشرطة، واعترفتُ على الفور بمسؤوليّتي عن قتل خليل. أخذوني للاستجواب وشرحتُ لهم دوافعي التي أكدَّها الطبيب الشرعيّ الذي فحَصَ سمَر وكدماتها الجديدة والقديمة. إلا أنّ خليل لَم يكن مُسلّحًا بل جالسًا على كرسيّه في الصالون، الأمر الذي لَم يُبرِّر قتلي له. فكان بإمكان سمَر الاشتكاء عليه أو تركه.

وهكذا، وبالرّغم مِن كلّ الدلائل والشهادات التي تؤكّد عمليّة التعنيف، وجدتُ نفسي في السجن لمدّة خمس عشرة سنة. للحقيقة، لدى سماعي الحكم، لَم آسف على فعلتي، فكنتُ قد أنقذتُ حبيبة قلبي مِن العنف وربّما مِن الموت... أبلَه بالفعل.

زارتَني سمَر بضع مرّات في سجني ومِن ثمّ اختفَت. علِمتُ لاحقًا أنّها تعرّفَت إلى رجُل وتزوّجَته وسافرَت معه إلى بلد بعيد. هي لَم تُقدِّر حتى ما فعلتُه لأجلها، فكان بإمكانها ولو إخباري بأمر رحيلها. لكنّها كانت تعلَم حتمًا ما أكنُّه مِن مشاعر تجاهها، وخجِلَت منّي بعد أن ضحَّيتُ بحرّيّتي. أو بكلّ بساطة، هي لَم تأبَه لأمري بل اعتبرَتني أداة وحسب.

كان لدَيّ الوقت الكافي للتفكير بكلّ هذه الأمور وأنا في الحبس، وشفيتُ مِن حبّ سمَر أخيرًا. وقَفَ أهلي إلى جانبي بعد أن تخطّوا مرحلة العار الذي جلبتُه لهم بِفعلتي.

فكّرتُ أيضًا بالذي فعلتُه، فلقد قتلتُ شخصًا، أيّ أنهَيتُ حياته، الأمر الذي لا يحقّ لي فعله مهما كانت الظروف. فكانت هناك طرق أخرى لحلّ المُشكلة، إلا أنّ عواطفي كانت قوّية بشكل أعماني كليًّا. صلّيتُ كثيرًا لراحة نفس خليل، وطلبتُ الغفران مِن ربّي وتحمّلتُ مُدّة سجني بطيبة خاطر، فكنتُ أستحقُّ ذلك الحكم، الذي مهما كان طويلاً وقاسيًا، لن يكون بقساوة حكم الله عليّ.

خرجتُ باكرًا مِن السجن بسبب حسن تصرّفي، واستقبلَني ذويّ بِفرَح عند باب السجن. لَم أكن سعيدًا في ذلك اليوم، فإلى ماذا أنا خارج؟ إلى عالم حيث لا وجود لِحبيبة؟ إلى عالم حيث الناس يعتبروني قاتلاً؟

لزِمَتني فترة طويلة، لا بَل سنوات لأستعيد نفسي. ووجدتُ بصعوبة عمَلاً لكنّ حياتي اليوم فارغة. فلَم أستطِع إيجاد مَن أُحبّ لأنّ قلبي باتَ قاسيًا تجاه النساء بعد أن هجرَتني سمَر.

هناك امرأة تعمَل معي اسمها هند، ومِن الواضح أنّها مُعجبة بي. هي تعرفُ قصّتي، وبالرّغم مِن ذلك هي تُريدُني. هل سأستطيع أن أحبّ مُجدّدًا، أم أنّني لا أزالُ في سجن مِن نوع آخر؟ وحده الوقت كفيل بالإجابة على هذا السؤال.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button