ضحيّة بريئة...

حين نتكلّم عن الخيانة بشكل عام، يخطرُ ببالنا كلمات "غشّ وكذِب ومِكر". لكن نادرًا ما ننتبِه إلى أنّ لهذا العمَل الشنيع تداعيات تكون أحيانًا خطيرة للغاية.

وقصّتي هي قصّة أمّي التي كانت ضحيّة خيانة أبي لها بكلّ ما للكلمة مِن معنى. فهي أحبَّته كثيرًا، خاصّة بسبب وسامته وشعبيّته لدى الفتيات الأخريات، وشعَرَت بفخر عظيم بأن يكون هو لها وحدها. يا للمسكينة، فبسبب سنّها اليافع وقلّة خبرتها بالحياة، لَم تعلَم أنّ ما مِن أحَد يتغيّرُ إلا إذا هو أرادَ ذلك. وأبي لَم يرِد على الإطلاق التخلّي عن حياته كعازب... حتّى بعد زواجه.

في البدء، أعارَ والدي اهتمامًا واضحًا لأمّي، فكانت بالنسبة له فريسة جديدة ومُثيرة. لكن سرعان ما سئِمَ منها ورجعَ إلى مكان كان يلجأ إليه كلّما شعَرَ بحاجة غريزيّة: بيت للدعارة. وهو لَم يكن مقرًّا رسميًّا تعلَم به الدولة وتجري فيه فحوصات صحّيّة دوريّة، بل هو مكان مُظلم ووسخ كنفوس زبائنه. هناك أحبّ أبي أن يقضي لياليه تاركًا زوجته، ولاحقًا إبنته، لوحدهما.

لَم أفهَم بسبب سنّي الصغير لماذا كانت أمّي تقضي وقتها بالبكاء، وصارَت مُكتئبة لا تهوى شيئًا سوايَ، ولماذا كان والدي دائم الغياب. لكنّي سمعتُهما مرارًا يتشاجران بعنف شديد حول أمور لَم أستوعبها آنذاك.

 

بعد سنوات، شُخِّصَ لأمّي داء خبيث في رحمها، لكن ما مِن علاج استطاعَ إنقاذها. فكان المرض قد انتشَرَ في أنحاء جسدها الحزين والمُهمَل، وهي ودّعَتني مِن على فراشها في المشفى قائلة:

 

ـ أنا آسفة يا حبيبتي لترككِ هكذا، لكنّ الأمر ليس بيَدي. ستعيشين عند خالتكِ وهي ستهتمّ بكِ جيّدًا، أنا واثقة مِن ذلك.

 

ـ أُريدُ العَيش مع أبي!

 

ـ أبدًا! إسمعي، سأموتُ قريبًا وهذه إرادتي الأخيرة التي إن لَم تفعلي بها، فسأغضبُ منكِ مِن حيث أنا.

 

وحين رأَت دموعي، أضافَت بصوت ناعم:

 

ـ ما أفعله يا حبيبتي هو لمصلحتكِ، صدّقيني. أبوكِ ليس رجُلاً مؤهّلاً لتربية فتاة في سنّكِ، خاصّة أنّكِ صرتِ مُراهقة. سترَينه ساعة تشائين وساعة تسمحُ لكِ خالتكِ بذلك.

 

ـ لا أُريدُكِ أن تموتي يا ماما!

 

ـ لا أحد يُحبّ ترك هذه الدنيا، مع أنّني كرهتُها مرارًا. لكنّ لحظة الرحيل صعبة دائمة.

 

غادرَت أمّي الحبيبة الحياة بعد يوم واحد مِن حديثنا وبكيتُ عليها كلّ دموعي. أبي هو الآخر حزِنَ عليها، ورأيتُه راكعًا أمام قبرها يُتمتمُ كلمات لَم أعرف ماهيتها. أخذتُ أمتعتي ورافقتُ خالتي إلى بيتها وقلبي حزين. فكنتُ قد فقدتُ والدَيّ في آن واحد.

خالتي كانت عزباء وتسكنُ في شقّة صغيرة ولطيفة وأنا شعرتُ بالراحة عندها. كانت أخيرًا قد توقّفَت الشجارات وأصداء البكاء، وأدركتُ أنّني كنتُ حتى ذلك الحين قد نسيتُ أن أعيشَ سنّي حقًّا. إلتقَيتُ بأبي بوتيرة مرّة في الأسبوع، لكن بعد فترة لَم أعد أحبّ أن أراه كثيرًا بسبب التغيّر الذي حدَثَ في طباعه. فهو أصبَحَ دائم الكآبة وعَيناه غارقتان في الفراغ وصوته خافِت للغاية. سألتُه عمّا يُزعجُه لكنّه كان يهزّ في كلّ مرّة رأسه بصمت. تكلّمتُ وخالتي عنه في إحدى المرّات وهي أجابَت: "إنّها صحوة ضمير". علِمتُ أنّها تقصدُ سوء مُعاملته لزوجته وحزنتُ له ولها... ولي. فتمنَّيتُ لو أنّني ولدتُ بين والدَين يُحبّان بعضهما، وهدفهما هو تربية ابنتهما الوحيدة. لكنّ ذلك كان قدَري وعليّ قبوله.

عاشَ والدي لوحده في بيته، ولَم أرَ يومًا، خلال زياراتي له، أيّ شخص عنده أكان رجلاً أم امرأة. عرضتُ عليه فكرة الزواج مُجّدّدًا لكنّه قال:

 

ـ أتزوّج مُجدّدًا؟!؟ لا! دعيني أبقى لوحدي، فهكذا أفضل.

 

ـ أفضل لمَن؟

 

ـ لي ولغيري؟

 

ـ أعلَم أنّ مشاكل كانت لدَيكَ مع والدتي، لكن ربمّا مع سيّدة أخرى...

 

ـ أمّكِ كانت ملاكًا، ملاكًا... وأنا شيطان! لذلك كنّا نتشاجر. وهل أنّ الشيطان يتغيّر يومًا؟ مكتوبٌ لي أن أعيشَ في نار دائمة، ولن أُقاوِم بل سأستسلِم إلى حين يأتي عقابي الفعليّ في الحياة الأخرى.

 

ـ ما هذا الكلام الخطير يا بابا؟ ربمّا عليكَ أن تستشير طبيبًا نفسيًّا فموت الماما أثّرَ بكَ كثيرًا.

 

ـ أكثر مِمّا تتصوّرين.

 

لَم تتأثّر خالتي حين أطلعتُها على تفاصيل حواري مع أبي، بل ظهَرت على وجهها بسمة لَم أفهمها. لاحقًا، فهمتُ أنّها بسمة تشفٍّ وانتصار. ثمّ نُقِلَ أبي إلى المشفى بعد عارض صحّيّ شفيَ منه سريعًا، وقضَيتُ معه بضع أيّام لأطمئنّ عليه. للحقيقة، لَم تُقلِقني صحّته الجسديّة بقدر حالته النفسيّة، فعرضتُ عليه أن أتركَ بيت خالتي لأعيشَ معه بصورة دائمة. إلا أنّه رفَضَ رفضًا قاطعًا:

 

- لستُ مؤهّلًا لأكون أبًا لكِ أو لأيّ أحد. إذهبي الآن ودعيني لوحدي، فبعض الناس لا يستحقّون أن تكون لهم عائلة.

 

عندها أجبرتُ خالتي على التكلّم، فكنتُ مُتأكّدة مِن أنّها تعرفُ أكثر ممّا تُريدُ الاعتراف به. وبعد دقائق طويلة مِن الصمت، أخذَت نفَسًا طويلاً وقالَت:

 

ـ أبوكِ يستوعِب الآن أنّه يستحقّ بالفعل العقاب. فلو أنّ هناك قانونًا يُعاقبُ على ما فعلَه، لكان الآن في السجن.

 

ـ في السجن؟!؟

 

ـ أجل، حيثُ يُلقى بالمُجرمين والقتلى.

 

ـ أبي قاتل؟!؟

 

ـ ألَم يقتُل أمّكِ؟

 

ـ بل السّرطان فعلَ.

 

ـ إسمعي... لستِ صغيرة بل صبيّة عصريّة ومُتعلّمة، لِذا سأكون بمنتهى الصراحة معكِ. أمّكِ، رحمها الله، لَم تكن تُريدُ أن تعرفي بشيء لكنّ أسئلتكِ باتَت كثيرة.

 

ـ كلّني آذان صاغية.

 

ـ سرطان أمّكِ سببه أبوكِ.

 

ـ لكنّ هذا الداء ليس مُعديًّا يا خالتي، الكلّ يعلمُ ذلك.

 

ـ صحيح ذلك، لكن بعض الأمراض الجنسيّة... تنقلب إلى سرطان.

 

ـ أمراض جنسيّة؟ أمّي كانت أشرَف النساء!

 

ـ وأبوكِ أسوأ الرجال! فهو جلَبَ لأمّكِ مرضًا جنسيًّا مِن إحدى عشيقاته الفاجرات. المسكينة... ما ذنبها؟ فهي قضَت طيلة فترة زواجها قابعة في البيت تغسل وتطهو وتهتمّ بزوجها ولاحقًا بكِ. زوجة وأمّ مثاليّة! وما كانت مُكافأتها؟ سنوات مِن الألم النفسيّ ولاحقًا الجسديّ، وعلاجات كيميائيّة واستئصال الرحم والإصابة بسرطان شامل ومُدمِّر.

 

ـ يا إلهي...

 

ـ والأبشعَ من ذلك، أنّ أباكِ علِمَ مِن الطبيب سبب مرَض أمّكِ، وهو لَم يتعقَّل بل شمَتَ بها وبحالتها وواصلَ حياتُه المُنحلّة. هل رأيتِه مرّة يهتمّ بأمّكِ أثناء مرضها؟ هل أمسَكَ بِيَدها بحنان وقبّلها بحبّ؟

 

ـ أبدًا... لا بل كان دائم الغياب... كعادته.

 

ـ والآن يشعرُ ذلك الوحش بالذنب؟ الآن؟!؟ ليذهب إلى الجحيم!

 

ـ أظنّ أنّه بالفعل في الجحيم... جحيم صحوة الضمير التي لن يستطيع الهروب منها إلى أيّ مكان مهما حاوَلَ. وأظنّ أيضًا أنّه استوعَبَ أنّ عذابه سيستمرّ لطالما هو حَيّ. يا إلهي... هل تظنّين أنّه قد ينتحِر؟

 

ـ لا يا صغيرتي، فهؤلاء الناس يُحبّون أنفسهم فوق كلّ شيء. أرجو ألا يفعل، فبذلك ينتهي عذابه وأنا أُريدُه أن يتعذّب حتى آخر يوم في حياته البائسة!

 

بعد أن زالَ ذهولي مِن جرّاء معرفتي بمسؤوليّة أبي في موت أمّي، رحتُ إليه وواجهتُه بالحقيقة. هو هزّ برأسه مُطوّلاً ثمّ قال بصوت يرتجِف:

 

ـ لَم أتصوّر أبدًا أنّني صاحب ضمير، فكلّ شيء دلّ على عكس ذلك. كَم كنتُ حقيرًا مع أمّكِ... يا إلهي... خنتُها مع مئة امرأة وأهملتُها وأهنتُها وسحقتُ كرامتها، وبعد كلّ ذلك قتلتُها! وأبشَع ما في الأمر، هو أنّني خلال مرَضها الذي عرفتُ سببه، سخِرتُ منها وألقَيتُ اللوم عليها. وكنتُ حقيرًا معكِ أيضًا يا إبنتي، فأيّ أب كنتُ لكِ؟ كلّ ما فعلتُه مِن أجلكِ كان تأمين الأكل والتعليم. لَم أُعانقكِ يومًا أو أُنشّف دموعكِ إن حزنتِ أو أُطمئنكِ إن خفتِ. لَم أكن درعًا لكِ يُشعرُكِ بالأمان. سامحيني أرجوكِ فأمّكِ غير قادرة على ذلك. سامحيني!

 

عانقتُ أبي وسامحتُه، فتوبته كانت واضحة وصادقة. شعرتُ أنّني، بموت أمّي، ربحتُ أبًا ورجوتُ أن يُسامحه الله أيضًا.

بقيَ أبي مُصرًّا على العَيش لوحده بالرغم مِن صحّته المُتأرجِحة، لكنّه استطاع حضور زفافي. هو لَم يعِش ليرى حفيده، بل ماتَ بهدوء في سريره. بكيتُه كثيرًا بعد أن أصبحتُ يتيمة الأبوَين. لَم تتركني خالتي، بل ساعدَتني بابني كثيرًا، وأرجو أن يطول الله عمرها.

يا لَيت الناس يعون تداعيات تصرّفاتهم، خاصّة إن كانوا خوَنة أو مُعنِّفين أو فقط أنانيّين، فالدمار الذي يُحدثونه لن يكون فقط نفسيًّا بل ينتقلُ أيضًا إلى الجسد، فتصبح ضحّيتهم تتألَّم الضعفَين. حرام عليكم!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button