لم يتكبّد والدايَ عناء تلقيحي وأنا صغيرة ضدّ شلل الأطفال، لأنّهما، وبكلّ بساطة، كانا يجهلان الأمر. إختلَفَ هذا بالنسبة إلى إخوَتي الذين وُلِدوا مِن بعدي، فقط لأنّ الدولة أجبَرَت الأهل على تلقيح أطفالهم، إلا أنّ والدَيَّ بقيا يُردّدان أنّ مسألة التلقيح هذه ليست سوى بدعة لا فائدة منها. لكنّهما اعترفا بخطئهما حين رأيا بعينَيهما التشويه الذي أصابَ رجليَّ والعرجة القويّة التي كانت، وللأسف، ستلازمني مدى حياتي.
في البدء قيل لي إنّ الخطب كان تكوينيًّا، وإنّني منذ ولادتي مُختلفة، وصدّقتُ تلك الكذبة وشعرتُ بالعار، خاصّة عندما بدأ أولاد الحيّ يهزأون منّي ويُضايقوني. لِذا فضَّلتُ عدَم الاختلاط بأحد والمكوث في البيت على خلاف إخوَتي. لكن حين جاء وقت الذهاب إلى المدرسة، وجدتُ نفسي مُجبرة على مجابهة عالم قاسٍ لن يرحَمني طوال سنوات حياتي.
فالناس لا تحبّ مَن هم مُختلفين عنهم، أكان ذلك جسديًّا أم عقليًّا، ربّما لأنّ ذلك يُذكّرهم بأنّ الحياة هشّة وقاسية، وقد تحصل لأيّ منهم ولأفراد عائلتهم وأحبّائهم أمورٌ بشعة. إلا أنّني اكتشفتُ أنّ عليّ أن أعتاد رؤية الخوف أو الإشمئزاز أو الشفقة في نظرات الآخرين.
وفي حين ظننتُ أنّني أحمل التشويه في دمي، قرَّرتُ منذ صغري أن أثبت للعالم بأسره أنّ الإعاقة موجودة فيهم وليس فيّ. لِذا بدأتُ أجتهد لِدرجة لم يعد هناك ما يشغل بالي سوى ذلك.
وهكذا استطعتُ انتزاع نظرة إحترام مِن زملائي الذين كانوا يُنكّدون حياتي، وافتخَرَ بي والدَاي اللذَان كانا يخجلان منّي أمام الناس.
ولم أعرف سبب دائي إلا حين أطلعَتني إحدى مدرّساتي على الحقيقة. رأتني في أحد الأيّام أدرس خلال استراحة الظهيرة، وجاءَت تجلس بالقرب منّي:
ـ لِما لا تلعبين مع رفاقكِ؟ هذا الوقت مخصّص للإستراحة.
ـ أفضّل أن أدرس، يا آنسة، فما عساني أفعل سوى ذلك؟ في كلّ الأحوال، لم يدْعُني أحد يومًا إلى اللعب معه بسبب... أعني...
ـ أعلم ما تعنيه، حبيبتي، ويُمكنني تصوّر ما تمرّين به. أتمنّى فقط ألا تكرّري خطأ أهلكِ مع أولادكِ.
ـ ماذا تعنين؟
ـ أعني أن تلقّحي أولادكِ ضدّ شلل الأطفال. وأنا، حسب ما أراه، شبه متأكّدة مِن أنّكِ ستكبرين لتصبحي امرأة مثقّفة تؤمِن بالعلم وتقدّمه.
ـ أيعني ذلك أنّ حالتي ليست خلقيّة؟ أي أنّني وُلِدتُ طبيعيّة؟
ـ أجل، حبيبتي، الذنب ليس ذنبكِ. إسمعيني جيّدًا... صحيح أنّ مشيتكِ فيها إعاقة، إلا أنّ عقلكِ وقلبكِ بأفضل حال وهذا هو الأهم. آمني بنفسكِ، وتعلّمي كيف تتخطّين مسألة الشلل هذه. لدَيّ إحساس كبير بأنّكِ ستكونين إنسانة مميّزة وناجحة.
كلام المدرّسة أعطاني دفعة لا تقدّر للمضيّ إلى الأمام، لكنّه أوضَحَ لي أنّ والدَيّ هما سبب حالتي الصّعبة. لماذا امتنَعا عن تلقيحي أنا بالذات؟ لماذا جعلا منّي ضحيّة دائمة؟ سألتُهما هذا السؤال لكنّ جوابهما كان واحدًا: "لم نكن نعلم".
عندها قرّرتُ أنّ على العالم بأسره أن يعلم. وفي اليوم التالي، وصلتُ إلى المدرسة حاملة يافطة صغيرة وضعتُها قربي كتبت عليها: "أنا مصابة بشلل الأطفال لأنّ والدَيَّ لم يريا أنّ تلقيحي أمر مهمّ. وهما لو فعلا، لكنتُ مثلكم تمامًا". مفعول اليافطة وقَعَ فورًا، وشعرتُ بأنّ زملائي فهموا فعلاً ما أمرّ به.
وفي ذلك النهار، وبعد أن ركَضَ الجميع إليّ معتذرين ومعانقين، فهمتُ قوّة المعرفة وقدرتها على تحرير العقول والنفوس. وفي ذلك اليوم بالذات أيضًا، وُلِدَت لدَيَّ حاجة لنقل الحقيقة والحقائق إلى الناس، أيّ أن أصبَحَ صحافيّة.
مع السنين، إزدادَت ثقتي بنفسي، لكنّني لم أكن أجرؤ على الإختلاط بالشبّان، لأنّني لم أرَ في أعينُهم نظرة إعجاب تجاهي. كنتُ دائمًا بالنسبة إليهم الصّديقة العزيزة والمثقّفة لا أكثر، لأنّهم كانوا يبحثون عن فتيات صحيحات البنية يفتخرون بهنّ وهم بصحبتهنّ، وكنتُ أفهم ذلك الأمر وأتقبّلُه.
بقيَ قلبي فارغًا واعتَدتُ على ذلك. تزوّجَت أخواتي وأنا بقيتُ عزباء، إلى أن تعرّفتُ إلى وجيه، شاب وسيم وعاقل أحبَّني لشخصي واستطاعَ أن يتخطّى عرجَتي القويّة بكلّ سهولة. وبالرغم مِن خوفي الكبير، بدأتُ أرى نفسي امرأة بإمكانها أن تُحِبّ وأن تُحَبّ.
إستغرَبَ الجميع أن يُحبّني شاب خالٍ مِن الإعاقات، وقالوا عنه إنّه مجنون وكأنّني لا أستحقُّه، إلا أنّني أدرتُ لهم أذنًا صمّاء وعملتُ جهدي لأستمتع بالأيّام الجميلة التي أقضيها مع وجيه.
ثمّ طلَبَ منّي حبيبي أن أتزوّجه، وقبلتُ بسرور وزارَ والدَيَّ لأخذ موافقتهما. وبالطبع وافقا بعد أن فقدا الأمل بأن يقبل بي أحد، وبقيَ أن أتعرّف إلى ذوي وجيه. كنتُ أهاب تلك اللحظة، عالمة تمام العلم أنّني سأواجه نظرات استغراب واستنكار. لكنّ حبيبي طمأنَني إلى أنّه لن يسمح لأحد بأن يُقلّل مِن شأني يومًا.
عندما دخلتُ منزل وجيّه برفقته، إستقبلَتني أخته بابتسامة عريضة، لكنّ أمّه لم تفعل مثلها بل بقيَت صامتة تنظر إلى رجليّ وإلى ابنها وكأنّها تقول له: "أليس لدَيكَ عَينان؟!؟". جلستُ أتحدّث مع الأخت عن مهنتي كصحفيّة، والموضوع هذا أثارَ اهتمامها كثيرًا، خاصّة أنّني أكتبُ لصحيفة مشهورة وأنّ مقالاتي كانت مهمّة على الصعيد الإجتماعيّ. حاوَلَ وجيه كسر الجليد بيني وبين أمّه لكن مِن دون جدوى. وبعد أن غادَرنا، أكَّدَ لي أنّه سيُكلّم والدته ويُغيّر رأيها بي.
بدأنا بالتحضيرات للزفاف، وساعَدَتني أخواتي وأخت وجيه وكنتُ في قمّة الفرح والإعتزاز. وحين كنتُ أسأل خطيبي عن تطوّر الأمور مع أمّه، بقيَ يُردّد لي: "لا تخافي، أنا مسَيطر على الأمر تمامًا". وأنا صدّقتُه إلى حين زارَتني أم وجيه في مقرّ الجريدة. خلتُ طبعًا أنّها قادمة لتُعرب لي عن قبولها بي وربمّا لتعتذر منّي على جفائها. لكنّ الأمر كان مُغايرًا تمامًا، فهي قالَت لي مِن دون مقدّمة:
ـ كيف تقبلين أن تدمّري مستقبل إبني هكذا؟
ـ أدمّر مستقبله؟ كيف؟ لأنّني أحبُّه؟
ـ لو كنتِ تحبّينه لكنتِ خرجتِ مِن حياته ليتسنّى له إيجاد فتاة...
ـ طبيعيّة؟
ـ أجل! فكرّي بأطفالكما!
ـ إنّ مرضي ليس وراثيًّا بل هو نتيجة جهل كجهلكِ تمامًا!
ـ إذًا فكرّي بوجيه... فكّري بموقفه بين الناس حين تكونان سويًّا... يحقّ لإبني أن يرفع رأسه بزوجته.
ـ أنا مصدر افتخار أيضًا، لدَيّ شهادة امتياز بالصحافة وقرّاء بالألوف ينتظرون مقالاتي التي تُلهمهم. لستُ امرأة عاديّة بل مميّزة بتفوّقي لا بإعاقتي. إبنكِ لن يُسدي لي معروفًا بالزواج منّي، بل يعلم أنّه سيقترن بإنسانة خلوقة ومحبّة وذكيّة. يؤسفني أن يكون هناك مَن يُفكّر مثلكِ في أيّام تخطّى الناس فيها التعليق على القشور. أنا آسفة مِن أجلكِ، سيّدتي. فأنتِ المعوّقة وليس أنا.
خَرَجَت أم وجيه مِن مكتبي غاضبة، ربّما لأنّني أرَيتُها قباحة قلبها. لم أخبر وجيه بالذي حصَلَ، بل بقيتُ مهتمَّة بالزفاف الذي كان يعني انتصاري على الجهل والكره. ولكن قبل موعد عقد القران بيومَين، إتصَلَ بي وجيه هاتفيًّا ليقول لي مُحرجًا إنّه لم يعد مستعدًّا للزواج منّي، فالضغوطات عليه صارَت لا تُحتمل ورجاني أن أتفّهم ظروفه. لم أتفوّه بكلمة لأنّني كنتُ أبكي بصمت وهو يقول لي بكلّ صراحة إنّه تخلّى عنّي مِن أجل راحة باله. أين ذهبَت وعوده لي بأن يقف إلى جانبي ضدّ العالم بأسره؟ مجرّد دخان تلاشى عند أوّل هبّة هواء.
غضبتُ كثيرًا لأنّني سمحتُ لنفسي بأن أتأمّل العَيش كسائر الناس، وأسرَعتُ أكتب مقالاً لاذعًا عن وضع الذين يُعانون مِن الإعاقات. فضحتُ فيه ما يجري خلف ادّعاءات مَن يُريدون الظهور بأنّهم أعلى مِن كلّ الإعتبارات، وبإمكانهم اجتياز جدار "المختلِف" وتقبّله لا بل حبّه. لاقى مقالي صدىً فاق تصوّري، خاصة لدى مُعين، شاب محبّ ومتعلّم. فقد انتظرَني يومًا عند باب الجريدة ليُعبّر لي شخصيًّا عن إعجابه بي وبكلماتي. لم أعِره أهميّة كبيرة بل اكتفَيتُ بشكره قبل أن ينصَرف.
إلا أنّ مُعين صار ينتظرني في المكان نفسه يوميًّا، وأصبَحنا نجلس سويًّا ونناقش مواضيع عديدة. وشعرتُ مع الوقت أنّني بدأتُ أتعلّق به، الأمر الذي كنتُ أرفضُه تمامًا، لكثرة خوفي مِن أن يتكرّر السيناريو الذي حصَلَ مع وجيه. لِذا طلبتُ مِن مُعين أن يكفّ عن المجيء، وأعطَيتُه السّبب الحقيقيّ لقراري. لم يتراجع ذلك الشاب بل زادَ اصرارًا إلى درجة أنّني بدأتُ ألين. لكنّني اشترَطتُ عليه أنّني لن أقَبَل به قبل أن أقابل أهله وأصدقاءه وزملاءه. فأنا لم أكن مستعدّة أبدًا أن أُرفَض مجدّدًا مِن قِبَل أيّ كان.
... وتفاجأتُ بعائلة مُعين المحِبّة والمتفهّمة. أصدقاؤه كانوا أيضًا أناسًا رائعين، وشعرتُ بأنّ الجميع قَبِلَ بي منذ اللحظة الأولى. فالمرء إبن بيئته ومحيطه، والذي يربى باحترام أخيه الإنسان وبمحبّته بعيدًا عن شوائبه، يُحيطُ نفسه بمَن هو مثله.
أستطيع القول إنّني اليوم إمرأة سعيدة جدًّا مع زوجي وأولادي، ولم أنسَ طبعًا أن أعطي صغاري كلّ اللقاحات اللازمة ليتمتعّوا بصحّة جيّدة وغد واعد.
حاورتها بولا جهشان