ضحيت بنفسي مِن أجل زوجي

قصّتي هي قصّة امرأة تحمّلَت المرّ لِتصل الى الحلو، بصبر وأحيانًا بالتمرّد ولكنّ دائمًا بحكمة وتروٍّ مِن أجل رجل حياتي الذي أحبَّتُه ولا أزال أحبّه بعد تسع عشرة سنة مِن زواج كان مقدّرًا له أن يصمُد.

وسبب معاناتي كانت حماتي، تلك المرأة الجبّارة التي كرهتُها وأحبَبتُها في آن معًا. كرهتُها لأنّها تجاهلَتني ثم عامَلتني بقساوة وأحبَبتُها لأنّها أحسنَت تربية ابنها حتى يصبح الرجل المسؤول والمحب الذي تعرّفتُ إليه.

منذ البدء كانت تريده أن يتزوّج مِن أخرى، بالأحرى كلّهم أرادوا غيري لأنّهم اعتادوا أن يتدخّلوا بأمور بعضهم. كانوا يشكلّون ما يشبه القبيلة ودخولها كان أمر شبه مستحيل مِن دون موافقة جميع أفرادها. كانت هناك الأخت التي تسكن مع زوجها والأخ وزوجته وحبيبي فارس ومِن ثم الأب، وعلى رأسهم حماتي نهى. والجدير بالذكر أنّ فارس كان يعمل مع أخيه في فترة بعد الظهر ولِذا كان مرتبطًا به مِن الناحية الماديّة الى جانب الرابط العاطفيّ الأسريّ.

 

وسط ذلك المناخ دخلتُ أنا، غير مدركة أنّه كان عليّ اثبات نفسي في كل دقيقة مِن كل يوم ومِن كل سنة.

كنتُ قد التقَيتُ بفارس صدفة مرّة أو اثنَتَين إلا أ نّني لم أفكّر به حتى أن جاء مع أخي الى البيت. كانا صديقَين ومِن نظراتنا ولِدَ حبّ لم ينتهِ حتى اليوم. رأيتُ فيه الرجولة والقوّة وشعرتُ أنّ بإمكانه اراحتي بعد أن قضيتُ سبع سنوات أعمل بجهد لأصرف على أهلي بينما كانت أمّي تعتبر ما أفعله تحصيلاً حاصلاً وأنّ أخي عليه أن يرتاح. هكذا كانت... تفضّل الصبيان على البنات وتتغاضى عن نزواته وكسله.

 

وبدأتُ أواعد فارس ولكنّ مشاويرنا كانت مراقبة مِن أمّي التي لم تكن تقبل أن أتغّيب كثيرًا بالرغم مِن معرفتها بأن فارس يريدني زوجة له. وبعد شهرَين أخذَني حبيبي ليعرّفني الى أهله. وحين وقَعَت عيناي أمّه عليّ رفضَتني تلقائيًّا. كان ابنها قد أعصى ارادتها باختيار زوجته مِن دون استشارتها. والذي زاد مِن امتعاضها هو أنّه كان ينوي في اليوم ذاته أخذي لإنتقاء محابس الخطوبة. حتى أنا لم أكن على علم بذلك.

ولكنّنا لم نذهب لوحدنا بل أخَذَ معه أخاه وزوجته التي كانت تؤثّر عليه كثيرًا. شعرتُ أنّ تلك اللحظة لم تعد لي بل سرقوها منّي.

واخترتُ خاتمًا بسيطًا لأنّني كنتُ أعلم أن فارس لم يكن ثريًّا ولأنّ الحب لا يقاس بوزن الذهب. واستاءَت حماتي مِن ابنها لأنّه لم يخبر اخته لتكون معنا أيضًا وكأنّه يجب أن تكون العائلة موجودة بأسرها بكل ما كان عليه فعله.

 


وأقامَ أهلي حفلة غداء للعريس وعائلته وأهدَتني أمّي ذهبًا أيضًا. واخَذَني فارس لرؤية شقّته ولكنّه طلَبَ رأي اخيه وزوجته في اختيار الأثاث. وجاءا لتنظيفها وترتيبها وحملا معهما أغراضًا مِن بيتهما لفرش ما تبقّى. سكتُ عن الأمر لأنّني لمستُ وجود ذلك الرابط القويّ بينهم ولأنّني، على الأقل في ذلك الوقت، لم أكن أستطيع فرض وجودي. وطلَبَت منّي حماتي أن أقدّم لها "جهازي" الأمر الذي كلّفَني مبلغًا كبيرًا آنذاك وأتعَبَني كثيرًا. وتدخّل الأخ الأكبر وزوجته مرّة أخرى في تفاصيل الزفاف.

 

لم أحظَ بشهر عسل كسائر العرائس بسبب نقص المال ولكنّني كنتُ سعيدة أن أعيش مع رجل حياتي تحت سقف واحد.

إلا أنّ الوضع الماليّ أثّرَ عليّ بشكل كبير فلم يكن لدينا هاتف وكنتُ أرتعب حين أبقى لوحدي في الشقّة ليلاً بانتظار عودة فارس مِن عمله مع أخيه.

وبسبب قلّة المال أيضًا طلَبَ منّي زوجي ارجاء موضوع الانجاب الى وقت لاحق لذا قرّرتُ أن أعاود عملي لتسديد ولو قسم مِن الديون التي تمنعَني مِن العيش كباقي الزوجات. ولكنّ حماتي تدخّلَت وبدأت تضغط عليّ لترك عملي لأنّ "الزوجة يجب أن تبقى في البيت لتهتم برجلها". وقدّمتُ استقالتي ليس بسببها وحسب ولكن لأنّني عانَيتُ مِن وعكة صحيّة طويلة الأمد.

 

وبدأت حماتي تسمعني أمام ضيوفها كلامًا مجرّحًا عن عدم انجابي حتى تدخَّلَ أخيرًا زوجي شارحًا أنّه هو الذي مانَعَ. ولكنّها لم تسكت بل استغنمَت حادث حصَلَ لي عندما حرقتُ رجلي ولم أعد قادرة على المشي، لتقول لابنها أمامي: "محروقة ولا تنجب أيضًا؟ يا ليتكَ سمعتَ منّا وتزوّجتَ غيرَها".

وسكتُ على مضَدَ لأنّني بالفعل شعرتُ أنّني لا ولن أنتمي لتلك العائلة واكتفَيتُ بالتمسّك بزوجي الحبيب.

وشاء القدر أن أحمل. كانت فرحتي لا توصف، أوّلاً لأنّني أعشق الأولاد وثانيًا لأثبت للجميع أنّني لستُ عاقرًا، ولكن بعد أشهر استيقَظتُ في وسط الليل على ألم شديد وفقدتُ جنيني. أرَدتُ الذهاب الى أهلي لأرتاح وأتغلّب على صدمتي وحزني ولكنّ زوجي وأهله أرغموني على البقاء مع حماتي وكأنّ مصيبتي لم تكن كافية!

وحين تعافَيتُ قرّرتُ معاودة العمل ولكنّ الطريق كان طويلاً وعاودَتني وعكاتي الصحيّة. ومِن ثم مرضَ عمّي بالقلب وجلستُ معه بالمشفى لمدّة 20 يوم بشكل متواصل.

ولأنّ حماتي كانت مريضة بداء السكر ولم تكن تنتبه لأكلها، أصيبَت رجلها بالغرغرين ولولايَ لحصَلَ الأعظم. فأنا التي أقنعَت زوجي بأخذها الى المشفى حيث بتروا أصابع رجلها. وتضاعفت حالة عمّي بعد أن شُخّصَ له سرطان البروستات.

وسط هذه المعمعة العظيمة علِمتُ أنّني حامل مِن جديد.

 


ولأنّ المصائب لا تأتي إلا بالجملة، أنجبتُ ابنة معوّقة عقليًّا وجسديًّا بسبب خطأ طبّي. وحين كنتُ بأمس الحاجة الى الدعم اصطدمتُ برفض حماتي لابنتي الحبيبة. كنتُ أضعها معها حين أذهب الى عملي ولكنّها لم تكن تهتم بها ولا تنظر اليها حتى. كان الأمر وكأنّها لا تريد مواجهة هذا الواقع المرير.

 

وقالوا لزوجي إنّ والده في المرحلة الأخيرة مِن حياته فبات يتركني مع ابنتي لوحدنا ليذهب الى ابيه ويبيت عنده. كم عانَيتُ مِن هذا الوضع الأليم وكم بكيتُ! كنتُ أفهم مدى حب فارس لأبيه ولكنّني لم أفهم قدرته على تركنا ليلاً خاصة أنّه كان يعلم أنّ حالة ابنتنا تتطلَّب حملها باستمرار واعطائها شتّى العلاجات. وتحمّلتُ كالعادة الذي يجري لأنّ عمّي كان يحب ابنتي كثيرًا على عكس زوجته ولا يفوّت فرصة لتغنيجها. أمّا حماتي فلم تكن تهتم لا بزوجها ولا بأحد سواها، فعندما أعادوا زوجها الى المشفى كنتُ أتناوب مع سلفتي في البقاء بقربه.

وفي أحد الأيّام ولكثرة تعَبي وقهري على حياتي قلتُ لزوجي امام عمّي: "متى سيموت أبوك؟ لم أعد أحتمل اهمالكَ لنا!" وفي اليوم التالي توفّي عمّي وشعرتُ بذنب لا مثيل له. خفتُ فعلاً أن أكون السبب في رحيله.

وبدأت حماتي بالتنقّل مِن بيت إلى آخر وتمكث شهرًا عند سلفي وآخرًا عندنا وبقيَت تتجاهل ابنتي بالرغم مِن اهتمامي بها الدائم. وكانت صغيرتي تشعر أنّ جدّتها لا تحبّها ولا تقبل أن تقتربَ منها وتبدأ بالصراخ كلّما طلبتُ منها أن تقبّلها. وبالطبع ظنَّت حماتي أنّني السبب في نفور ابنتي منها ولم تستوعب أنّ تصرّفها معها جعلها تهرب منها.

وبعد سنة عادَت الغرغرين الى رجل حماتي وبتروها حتى الركبة. وفي هذا الوقت بالذات وقَعَ انفجار قرب محل سلفي وغرقنا تحت ديون هائلة بسبب مصاريف المشفى. وركضنا الى المؤسّسات الخيريّة والأصدقاء لجمع المال.

واكتشفتُ أنّني حامل مِن جديد وخفتُ على الجنين خاصة أنّ حالتي لم تكن مستقرّة. وفي هذه المرّة ذهبتُ الى أهلي لأنّ الطبيب طلَبَ منّي عدم التحرّك بتاتًا.

واصبتُ بنزلة شعبية جاء ابني الى الدنيا قبل أوانه بعدما ولّدته قيصريًّا.

وعندما عدتُ الى البيت لحقَت حماتي بي لأنّ لا أحد قبِلَ أن يغيّر لها ضمّاداتها. واهتمّمتُ بها حتى قبِلَت سلفتي أخيرًا بأخذها. ولكن في احدى الليالي اتصل زوجها بنا ليخبرنا إنّ حماتي وقعَت وكسَرَت وركها. وبتروا رجلها الثانية. ولم يعد ابنها الأكبر يريدها لأنّها كانت تبول على نفسها وكان جرحها يلتهب ولأنّها تئنّ طوال الليل وعليه وزوجته الذهاب الى أعمالهما في الصباح.

وجئتُ بها الى بيتي فلم أقبل أن أتركها هكذا لأنها لطالما كانت مدلّلة. ولكنّ زوجي قرَّرَ أنّ الاهتمام بأمّه يستلزم أناسًا مختصّين بسبب حالتها الصعبة ووجود ابنتنا المعاقة وابننا الصغير. وبقيتُ أرفض ولكنّ فارس صَرَخَ بي قائلاً:" انتِ امرأة ولا يحق لكِ التدخّل". وبكَت حماتي ولكنّني لم أستطع تغيير رأي زوجي.

وأخذناها الى دار للعجزة وأصبحنا نزورها اسبوعيًّا. ووضعنا ابننا في حضانة وابنتنا في مدرسة خاصة لنتمكّن مِن القيام بالزيارات. وفي أحد الأيّام اشترَينا لها تلفازًا جديدًا لتتسلّى به واصطحبنا معنا ولدَينا ليرا جدّتهما. فقالت لنا حماتي: "لستُ بحاجة الى هذا التلفاز... فلن يطول بقائي في هذه الدنيا". نزلَت دموعي وسألتُها ما الذي تريدني أن أحضّر لها لليوم التالي مِن أكل، قالت لي:

 

- تعالي لأقبّلكِ... سامحيني يا ابنتي... لم أكن يومًا لطيفة معكِ ولكنّكِ سَكَتِّ وتحملتِني واهتمَمتِ بي وكأنّني أمّكِ وكنتِ دائمة الوجود بصمت ولكن بفعاليّة... لم أحب ابنتكِ وبقيتِ بقربي ومانعتِ بقوّة جلبي الى هنا... قرّبي ولَدَيكِ لأقبّلهما.

 

وفي اليوم التالي اتصلوا بنا مِن الدار لنأتي لأخذ حماتي الى المشفى لأنّ حالتها ساءَت كثيرًا، ولكن عند وصول زوجي وأخيه كانت قد فارقَت الحياة. بكيتُ دموعًا حارّة على تلك المرأة القويّة التي طلَبَت منّي السماح في آخر لحظة مِن حياتها مقدِّرة تضحياتي.

ومنذ رحيلها تفكَّكَت العائلة إذ كانت هي عمود البيت ونبضَه. صحيح أنّ زوجي عادَ إليّ ولكن اليوم، وبعد أن أصبحَت كل متاعبي معها ورائي، أشتاق الى تلك السيّدة الجبّارة. هل كنتُ سأتحمّل كل ذلك لولا حبّي العظيم لفارس؟ بالطبع لا. ولكنّه وبسبب مواقفي الشجاعة، يرى فيّ الزوجة العظيمة التي اختارَها مِن بين كل النساء.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button