صهري الجبان

كانت شقيقتي قد أنهَت تحضيرات زفافها، بمساعدتنا كلّنا طبعًا، ولَم يتبقَّ سوى أيّام قليلة على موعد الحفل الذي أرادَته مثاليًّا. فهكذا كانت ناهدة، تهتمُّ بالتفاصيل لبلوغ غايتها وتحقيق أحلامها. وبالفعل هي كانت إنسانة ناجحة وطموحة ومحبوبة مِن الجميع.

وفي اليوم المُنتظَر، لبِسَت ناهدة فُستانها الأبيَض وأنا فُستاني المزيّن برقائق برّاقة كَوني إشبينتها، ونزِلنا سلالم المبنى وسط الزغاريد والفرحة العارمة، للركوب في الليموزين الجميلة التي انتظرَتنا عند المدخل.

وصَلَ وفد السيّارات إلى قاعة العرس حيث كان المدعوّون بانتظار العروس الجميلة، لكنّ العريس كان غائبًا مع أنّ العادة تقضي بأن يصِلَ هو قَبلنا.

أسرَعَت ناهدة بالاتّصال بوليد عريسها، لكنّ هاتفه كان مُقفلاً. إنتابنَا قلقٌ واضحٌ، إلا أنّ أختي بقيَت تقولُ لنا: "سيأتي، سترون، لقد تكلّمنا في الصباح قبل أن يقصُدَ وليد الحلاق". لكنّ شيئًا في صوتها دلَّ على خوف ملحوظ، فأخذتُ بيدَيها لِطمأنتها. بقيتُ معها في السيّارة المُزيّنة بينما دخَلَ الأهل إلى إلى القاعة حيث جلسوا وسط تهامس باقي المدعوّين الذين شعروا بأنّ شيئًا مُريبًا يحصل.

إنتظرنا حوالي الساعة في السيّارة، أيّ إلى حين كان بدء الاحتفال بالزواج مُقرّرًا، فقالَت لي ناهدة بكلّ هدوء:

 

ـ هيّا بنا نعود إلى البيت. فلن يأتي وليد.

 

إتّصلتُ بأبينا الموجود في القاعة وأطلعتُه على الذي يجري، طالبةً منه إرسال المدعوّين إلى بيوتهم. سكَتَ المسكين وسمعتُ غصّة في صوته وهو يسألُني:

 

ـ وكيف هي ناهدة؟

 

ـ كعادتها، قويّة. نراكم جميعًا في البيت.

 

قادَ بنا السائق بِصمت، فهو الآخر تأثَّرَ بالذي يجري، في حين كان مُعتادًا على انتظار انتهاء العروسَين مِن عقد الزواج ليقودهما إلى صالة الاحتفال ومِن ثمّ إلى الفندق. كنتُ أعلَم أنّ أختي في حالة مُزرية للغاية، إلا أنّها تعوّدَت على كَتم مشاعرها في جميع حالاتها. خفتُ أن يُسبّبَ لها ذلك أزمة صحيّة واكتفَيتُ بإمساك يدها طوال طريقنا إلى البيت.

 


هناك، أسرعَت ناهدة بخَلع فستانها الأبيض وارتداء روبها وطلبَت منّي تركها لوحدها. لكنّني رفضتُ ذلك وبقوّة، مِن خوفي أن ترتكِبَ حماقة ما بحقّ نفسها، وأقنعتُها بأخذ حمّام ساخن بينما جلستُ في الحمّام بالقرب منها. ساعدتُها على تنشيف نفسها وألبستُها قميص نومها وأدخلتُها السرير. وبقيتُ معها إلى أن غفَت.

خرجتُ على مهلي مِن الغرفة إلى الصالون حيث كان أبوايَ وأخوَتي، وبعض أفراد العائلة مِن المُقرّبين جالسين بِصمت. سألَني أبي على الفور عن حالة ناهدة فهززتُ برأسي قائلة: "المسكينة... هذا أصعبُ ما يُمكن أن يحصل لفتاة أو سيّدة... أرجو فقط أن تتعلّمَ كيف تتعايَش مع الأمر. لقد غرِقَت في النوم مِن كثرة خَيبتها. لكنّها لَم تذرِف ولو دمعة واحدة، وهذا مُقلقٌ للغاية."

جلَسنا سويًّا نُحاول فَهم ما الذي حمَلَ وليد على التراجع هكذا، مع أنّنا كنّا نحبُّه ونُقدّره كثيرًا، فهو خطَبَ ناهدة لمدّة ثلاث سنوات وصارَ فردًا منّا. عاودتُ الاتّصال به مِن دون نتيجة.

بعد حوالي الساعة، خرجَت أختي مِن غرفتها وسألَتنا إن كان هناك ما تأكلُه لأنّها كانت جائعة، فحضّرَت لها أمّنا سندويشًا على الفور. لَم نسألها شيئًا إذ بدَت في حالة طبيعيّة للغاية. قضَينا الأمسية مُجتمعين نُشاهد التلفاز وكأنّها ليلة عاديّة، ولَم يحصَل شيء آخر على الإطلاق.

في الصباح الباكر، وجَدنا ناهدة ميتة في الحمّام حيث قطعَت عروق معصَميها في المغطس. بكاؤنا عليها كان طبعًا ممزوجًا بِغضب لا يوصَف، بسبب ذلك الوغد الذي أهانَها وحطَّمَ فؤادها مِن دون تفسير أو إنذار مُسبَق. وعدَنا والدُنا بأنّه سيقتلُ وليد بيدَيه وخفتُ أن يُنفّذَ وعده، فقد كانت ناهدة ابنته البكر والمُفضّلة لدَيه. بكَت أمّنا بصمت خطير وأحَطنا بها هي الأخرى.

دفنّا ناهدة وسط الاستنكار العام مِن الذي حصَلَ لها، فكلّ عروس تملكُ في أعماق قلبها خوفَ تراجع عريسها في آخر لحظة، مع أنّ ذلك لا يحصلُ إلا نادرًا. أمّا بالنسبة لوليد، فهو كان قد تبخَّرَ عن سطح الأرض، بعد أن بحثَ عنه والدي وبعض شبّان العائلة في كلّ مكان.

مرَّت السنة ومِن ثمّ سنة أخرى، وبدأنا نعتادُ على غياب ناهدة التي كان حضورها يملأ البيت وحياة كلّ مَن عرفَها.

وفي تلك الفترة بالذات لمحتُه.

كنتُ عائدة مِن عمَلي وكان الظلام قد حلَّ، عندما رأيتُ رجلاً يُشبه وليد تمامًا ماشيًا على الرصيف المُقابل. للحقيقة، حسبتُ نفسي أحلُم، فطردتُ تلك الفكرة مِن رأسي، خاصّة أنّ الظلمة لَم تكن تسمحُ لي بالتأكّد مِن أنّه هو بالفعل. إضافة إلى ذلك، لَم يكن وليد غبيًّا لدرجة الظهور علنًا وسط منطقتنا! لكن مصابيح سيّارة مارّة بجانبه أنارَته وكدتُ أصرخُ حين تأكّدتُ مِن هويّته. السافل! الوقِح! وشعرتُ برغبة ماسّة للركض نحوه وإمساكه بشعره ولَكمه وعضّه! إلا أنّني تمالكتُ نفسي فقط خوفًا مِن أن يختفي مُجدّدًا. بدلاً مِن ذلك، قرّرتُ اللحاق به لأعرفَ أيّ شيء عن مكان تواريه عن الأنظار، فكما ذكرتُ سابقًا كنّا قد بحثنا عنه لوقت طويل إلى حين قيل لنا إنّه غادَرَ إلى خارج البلاد بصورة دائمة. هل سافَرَ وعادَ أم أنّه كان في البلد منذ البدء؟

مشيتُ على مهلي وأنا لا أزال على الرصيف المُقابل، ثمّ قطعتُ الطريق حين هو انعطفَ يسارًا ليدخل حيًّا ضيّقًا. رأيتُه يدخل مبنىً قديمًا فاتّصلتُ بزميل لي طالبةً منه موافاتي. لَم أُرِد إقحام أيّ فرد مِن عائلتي لِتفادي حدوث جريمة قتل.

وصَلَ جوني في غضون دقائق، فهو كان في طريقه هو الآخر إلى البيت ويملكُ سيّارة سريعة. أخبرتُه بالذي رأيتُه وأخَذنا نُراقبُ المكان. وحين صارَ الوقت مُتأخّرًا، عرَضَ عليّ زميلي ما يلي:

 

ـ سأدخلُ المبنى وأدقُّ على أوّل باب أجدُه وأسألُ عن ذلك السافل. إنتظريني هنا. هل أخبرتِ أهلكِ؟

 

ـ لا! قلتُ لهم فقط إنّني عند صديقة لي كَي لا ينشغل بالهم عليّ. هيّا، إذهب واحترِس، فلا ندري ما يُمكنُ لوليد فعله إن رآكَ تسألُ عنه.

 

ـ هو لا يعرفُني. لا عليكِ.

 

بدا لي الوقت طويلاً للغاية مع أنّ جوني لَم يغِبِ سوى دقائق. ورأيتُه يمشي نحوي وبسمة على وجهه. ثمّ قال لي همسًا:

 

ـ هيّا نبتعِد قليلاً... قالَت لي إحدى الجارات إنّ مكرَم، وهو اسم وليد المُستعار، يعيشُ في الطابق الرابع مع زوجته وابنه الصغير.

 

ـ لقد تزوّجَ وليد؟!؟ وله ابنٌ... هذا يعني...

 

ـ أجل، تزوَّجَ. تعالي نرحل، فعلينا أن نُبقي هويّتنا سرّيّة.

 


كان بودّي إخبار العالَم بأسره عن الذي اكتشفناه ليبصقوا جميعًا في وجهه، إلا أنّني خفتُ مرّة أخرى أن يُحاولَ أبي الوفاء بوعده، أي قتل وليد. فكتمتُ السرّ وعدتُ إلى البيت أُفكّرُ بخطّة ما. وتوصّلتُ في الصباح إلى فكرة طبَّقتُها بعد ساعات قليلة. فأخذتُ إجازة مِن عمَلي ورحتُ لوحدي بغرَض التحدّث مع زوجة وليد. دقَّيتُ باب شقّة "مكرَم" ففتحَت لي امرأة حاملة ولدًا صغيرًا. عرّفتُها عن نفسي ولَم أنتظرُ أن تدعوني للدخول بل دخلتُ بنفسي. كنتُ أعلَم أنّ زوجها ليس موجودًا، فقد رأيتُه يخرجُ مِن المبنى قبل حوالي النصف ساعة. بقيتُ واقفة في الصالون أنظرُ إلى المرأة بشيء مِن الاشمئزاز حين سألَتني هي بِغضب عمّا أُريدُه، فأجبتُها:

 

ـ أنا شقيقة خطيبة وليد... هي نفسها التي قتلَت نفسها لأنّه لَم يأتِ للزواج منها.

 

ـ ليس هناك مِن أحد اسمه وليد هنا.

 

ـ كفى كذبًا! أعرفُ أنّه يسكنُ هنا وأنّه غيّر اسمه إلى مكرَم! وأعرفُ أنّكِ زوجته وهذا ابنه!

 

ـ ماذا تُريدين؟!؟ هذا بيتي وقد...

 

ـ إخرسي يا سارقة الرجال! فمِن الواضح أنّكِ تعرفين وليد منذ زمَن طويل، وإلا كيف يتزوّجُكِ بهذه السرعة ويُنجِبُ معكِ هذا الولد؟ مهلاً... كَم عمر ابنكِ؟

 

ـ هذا لا يعنيكِ! أخرجي مِن بيتي!

 

ـ لن أفعل! هل كنتِ حاملاً حين جاء موعد زفاف أختي؟ تكلّمي وإلا أبرحتُكِ ضربًا! ليس لدَي ما أخسرُه بعد أن انتحرَت ناهدة، فإيّاكِ أن تغضبيني! قولي لي الحقيقة وسأرحل! هيّا!

 

ـ أجل، كنتُ حاملاً فتزوّجَني وليد. رجلٌ شهم، فهو لَم يشأ تشويه سمعتي.

 

ـ الرجل الشهم لا يخونُ خطيبته... الرجل الشهم لا يُحبِّلُ الصبايا... بل الرجل الشهم يُصارحُ التي سيتزوّجُها ليُجنِّبها الإذلال. وليد رجلٌ حقيرٌ وليس شهمًا. قولي لي... كنتِ تعلمين أنّه مخطوب؟

 

ـ أجل!

 

ـ وحمِلتِ منه... ربمّا عن قصد ليتزوّجكِ أنتِ؟ فالتي تُمارسُ الجنس بهذه السهولة ومع رجل مخطوب لا تتأخّر عن إيجاد أيّة طريقة لِربطه بها. ما بكِ خرستِ؟ ألأنّني على حقّ؟ إذًا أنتِ أيضًا قتلتِ ناهدة. أجل، أنتِ شريكة وليد في الجريمة.

 

خافَت المرأة كثيرًا مِن نظراتي الغاضبة وخافَت أن أؤذيها وأؤذي ولدها. إلا أنّني قلتُ لها:

 

ـ إسمعي... لولا وجود هذا الطفل البريء، لشربتُ مِن دمكِ أيتّها الساقطة! لكن لا ذنب له إن كانت أمّه بلا أخلاق أو ضمير وأبوه جبانًا وخائنًا. سأعودُ غدًا في الموعد نفسه، لكن ليس لوحدي بل مع رجال عائلتي، وإن وجدناكم هنا، فسيكون ذلك يومكم الأخير! هل فهمتِ جيدًّا ما أقولُ؟!؟ يومكم الأخير!

 

لَم أعنِ ما قلتُه طبعًا، لكنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّ المرأة صدّقَتني. واضفتُ قبل المُغادرة:

 

ـ أنصحُكم بالابتعاد قدر الإمكان، وربمّا السفَر بعيدًا جدًّا، فكما وجدتُكم فبإمكاني إيجادكم مرّة أخرى!

 

إتّصلتُ بِزميلي جوني وأخبرتُه بما فعلتُه وهو أنّبَني للمُخاطرة، ومِن ثمّ وفاني مساءً أمام المبنى الذي تسكنُه تلك العائلة الفاسدة ورأينا وليد وزوجته ينقلان أمتعتهما بسرعة فائقة. ضحكتُ في سرّي، فكنتُ قد أرعبتُهما كثيرًا وأبعَدتُهما عن طريق أبي، حتى لا يُرمى والدي في السجن بسببهما.

أجل، وكما توقّعتم، تزوّجتُ مِن جوني، فتلك الأحداث قرَبتنا مِن بعضنا كثيرًا، إذ ربَطَ بيننا سرٌّ كبير. هو ساعدَني في التغلّب على موت ناهدة وأنا كنتُ ممنونة له لِدعمه ووقوفه إلى جانبي.

بقيَ الحزن يُخيّمُ على بيت أهلي، فكيف لنا جميعًا أن ننسى ناهدة؟ إلا أنّ الصلاة والإيمان بالله وبحكمته خفّفَا مِن غضبنا واستنكارنا. وأنا مُتأكّدة مِن أنّ يومًا سيأتي ونجتمعُ كلّنا في حضن الخالق.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button