تركتُ بلَدي وأهلي وسافرتُ إلى فرنسا لإنهاء دراستي والعمَل، ووفَّقني الله إلى حدّ كبير. مِن جانبه، بقيَ رائد أخي الأكبر مع والدَينا، الأمر الذي طمأنَني، فصحّة أمّنا كانت هشّة وتقاعد والدنا أثَّرَ على معنويّاته. وبالطبع كنتُ أبعَثُ لذويّ بعض المال لمُساعدتهم وسط حالة اقتصاديّة عامة صعبة. تزوّجتُ مِن امرأة فرنسيّة وأنجَبنا ولدًا جميلاً. ولَم أنوِ العودة يومًا بصورة دائمة إلى البلد بل فقط للزيارة كلّ سنة. وفي كلّ مرّة أرى فيها والدَيّ وأخي، كنّا نمضي أيّامًا مليئة بالفرَح، لأعودَ وعائلتي إلى أوروبا ونعاودُ حياتنا الروتينيّة هناك.
ثمّ طلبَ منّي رائد الكفّ عن إرسال المال لأبي، لأنّه وجَدَ عمَلاً جيّدًا يدرُّ عليه الكثير. وفهمتُ أنّه يودّ الشعور بأنّه يُساهم بمصروف البيت بعد أن قضى وقتًا طويلاً إمّا عاطلاً عن العمَل أو يقومُ بوظائف صغيرة. لكنّه قبِلَ بمُساعدة ماليّة أبعثُها له مُباسرةً.
في تلك الفترة بالذات، منعَني انشغالي بالعمَل مِن زيارة أهلي لفترة سنتَين مُتتاليتَين، إنّما بقيتُ على اتّصال بهم عبر الهاتف والمُكالمات عبر الفيديو، ليروا إبني يكبَر ويُبقيهم هو في ذاكرته إلى حين يرون بعضهم وجهًا لوجه. لَم أعلَم طبعًا ما كان يجري في بيت أهلي في تلك الأثناء، ولَم يخطُر ببالي أبدًا أن تحصل معهم أمور كهذه على الاطلاق.
إستطعتُ أخيرًا حجز تذاكر سفر لي ولزوجتي وابني، وتوجّهنا بشوق إلى بلَدي الحبيب الذي ربَّيتُ ابني وعودّتُ زوجتي على حبّه وتعلّم لغته، فكان الأمر بغاية الأهميّة بالنسبة لي، خلافًا لهؤلاء الذين يُهاجرون ويعتبرون البلَد المُضيف لهم هو بلدَهم بالفعل وينسون جذورهم ولغتهم وثقافتهم.
زوجتي هي التي لفتَت انتباهي ليلة وصولنا عند أهلي قائلة لي:
ـ ما بال أمّكَ؟ تبدو وكأنّها ليست على ما يُرام؟
ـ سألتُها عن صحّتها وهي أجابَتني مُبتسمة أنّها بألف خير.
ـ لا أظنّ ذلك يا حبيبي... هناك شيء ما... نظراتها المُتهرِّبة تحمِل معانٍ غريبة... ولون وجهها شاحب وحركتها بطيئة.
ـ لاحظتِ كلّ ذلك؟ إذًا عليّ أن أُناديكِ منذ الآن "زوجتي الطبيبة!
ـ لا تكن ساخرًا، أؤكِّدُ لكَ أنّ أمّكَ ليست بِخير. وأبوكَ...
ـ وأبي أيضًا؟!؟
ـ كان كثير الصمت، على غير عادته.
ـ إنّه يملُّ مِن المكوث في البيت، فهو اعتادَ منذ صغره على العمَل، فلقد ترَكَ دراسته باكرًا ليُساعد أباه في صنعته، ولَم يتوقّف عن العمَل إلا حين لَم يعُد يُساعده جسده.
ـ لدى النساء حاسّة سادسة... أعرفُ أنّكَ لا تؤمِن بذلك، إلا أنّها موجودة. لنُسمِّها دقّة في المُلاحظة والاستنتاج. على كلّ الأحوال، نحن باقون أسبوعًا بأكمله هنا، وتستطيع التأكّد بنفسكَ مِن كلامي.
في الصباح، أخذتُ أُراقبُ والدَيّ، ولَم أرَ شيئًا مُعيّنًا سوى أنّهما كبرا في السنّ وحسب. إلا أنّني عرضتُ على أمّي أخذها إلى الطبيب ليُجري لها فحصًا سريريًّا وجميع التحاليل اللازمة للتأكّد مِن صحّتها. إلا أنّها صرخَت:
ـ لا! لا! لا أُريدُ أن يفحصَني أحدٌ!
ـ حسنًا، يمكنُنا إختيار طبيبة بدلاً مِن طبيب.
ـ لا أُريد أحدًا على الاطلاق!
ـ إهدئي مِن فضلكِ، أُريدُ فقط الاطمئنان عليكِ.
ـ أنا بخير!
دخَلَ أخي المطبخ حيث كنّا وقال لي:
ـ إنّها بخير، صدّقني... لا تُشغل بالكَ بوالدَيكَ يا أخي، فأنا أهتمّ بهما بأفضل طريقة، أليس كذلك يا أمّي؟
نظرَت والدتي إليه بخوف ثمّ تمتمَت: "أجل، أجل، أجل". وعندها فهمتُ ما قصدَته زوجتي. لَم أقُل شيئًا بل رأيتُ بوضوح كيف أنّ هناك توتّر واضح بين أمّي وأخي، وشيء آخَر لَم أستطِع تحديده. إنضمَّ إلينا أبي وسألَ عمّا يجري لأنّنا كنّا جميعًا صامتين، فقلتُ له:
ـ رائد يؤكّدُ لي أنّه يهتمّ بكما جيّدًا، فكنتُ بصدد إقناع الماما بأخذها إلى الطبيب.
نظَرَ أبي إلى رائد بصمت لكن بشيء مِن الغضب أو بالأحرى الحقد، وغادَرَ المطبخ. أسرعَت والدتي بسؤالي عمّا أُريدُ وعائلتي تناوله عند الفطور، فتغيّرَت الأجواء. ماذا كان يجري بين هؤلاء الثلاثة؟
مرَّ النهار بسلاسة، إذ أخذتُ عائلتي في نُزهة طويلة إلى أقصى الشمال، وعُدنا جميعًا مُتعبين فغرِقنا في النوم بسرعة، ولكن ليس قبل أن أقول لزوجتي:
- أظنُّ أنّكِ على حقّ في ما يخصّ والدَيّ... تابعي مراقبتكِ لِما يحصل، فلن أعودَ إلى فرنسا ما لَم أفهَم تمامًا سبب تصرّف أهلي الغريب.
في اليوم التالي، إستفدتُ مِن تواجد رائد في عمَله لأكون مِن دونه مع والدَيّ، فتبادَلنا الأحاديث السارّة وغير المُهمّة، ثمّ سألتُهما عن عمَل أخي الذي لَم أفهَم تمامًا ماهيّته.
فأجابَ أبي:
ـ إنّه يعمَل في شركة أدوية.
ـ عظيم، عظيم!
ـ يوصلُ الأدوية إلى الصيدليّات في سيّارة الشركة.
ـ فقط؟!؟ هذه مهامه؟ وكَم مِن المال يجني؟
ـ لا ندري، فهو لا يُطلعنا على راتبه.
ـ وهل يكفيكم جميعًا؟
عندها صرخَت بي أمّي:
ـ أجل! فلا ينقصُنا شيء! هل لكَ أن تكفّ عن الأسئلة؟!؟
خرجتُ مِن البيت بسرعة، فكان مِن الواضح أنّ الحديث قد أُقفِل، لكنّ أسئلة كثيرة دارَت ببالي. لِذا رحتُ إلى مقرّ عمل رائد لأعرفَ في أيّ ظروف يعمَل أخي. لكنّني تفاجأتُ بالقيّمين يقولون لي إنّ طرده تمَّ منذ حوالي السنة، بعد أن تبيّنَ أنّه يسرقُ الأدوية ليبيعها على حسابه لاحقًا. لكنّهم سكتوا عن الأمر كي لا يُذاع الخبَر ويفقد الناس ثقتهم بأدويتهم. ماذا؟!؟ أخي سارق وعاطِل عن العمَل؟!؟ يا إلهي... لكن كيف يستطيع الصرف على البيت ووالدَينا بالقليل الذي أبعثُه له؟ ومَن يدفع ثمَن معالجة أمّي؟ عدتُ ركضًا إلى بيت أهلي وأخبرتُ زوجتي عمّا اكتشفتُه، وهي سكتَت مِن كثرة حزنها على وضع أبوَيّ، فكان مِن الواضح بالنسبة لها أنّ رائد إنسان سيّئ خارج البيت وداخله. وهي نصحَتني بالتوقّف عن إرسال المال له بل لأبي كما في السابق. لكن هل سيجرؤ والدي على قبض المال سرًّا عن ابنه؟ فكان مِن الواضح أنّ رائد قد بسَطَ سلطته على والدَينا، ويُرعبُهما لدرجة أنّهما لا يجرؤان على التذمّر أو التكلّم.
أخذتُ والدي في نُزهة بحجّة أنّني أُريدُ استعادة ذكريات قديمة بصيد السمك وهو قبِلَ بسرور. وحين وصلنا الشاطئ، أوقفتُ السيارة وقلتُ له:
ـ لن نصطاد السمَك يا بابا، بل سنتكلّم مِن رجُل لرجُل. ماذا يجري في البيت؟
ـ لا شيء.
ـ بلى. علِمتُ أنّ أخي ليس لدَيه عمَل، فكيف تعيشون؟ ماذا تأكلون؟ كيف تشتري أمّي الأدوية؟
ـ الله كريم.
ـ إن لَم تتكلّم فسأواجِه رائد ولن يكون كلامي له جميلاً. أهذا ما تُريد؟
ـ لا! لا تواجِهه! فهو إنسان عدائيّ للغاية وقد يؤذيكَ كما...
ـ كما ماذا؟!؟
ـ كما يؤذي أمّكَ.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، فهو يُعنّفُها جسديًّا، أحيانًا... ليس دائمًا. جسمها مليء بالكدمات، المسكينة. ولا أستطيع الدفاع عنها فأنا جبان، أجل جبان... أخافُ منه لدرجة لا توصَف، ففي عَينَيه نظرة شرّ لا بَل إجرام. هو يكرهُنا لأنّنا، حسب قوله، نُحبُّكَ أكثر ونُثني على إنجازاتكَ أكثر، وذلك منذ صغركما.
ـ لأنّني تعبتُ لأصل حيث أنا... أمّا هو، فإنّه كسول وسارق!
ـ لقد قرّرتُ في إحدى المرّات طرده مِن البيت، لكنّ أمّكَ منعَتني مِن ذلك باكية، فهي تُحبّه بالرغم مِن كلّ شيء. قبِلتُ أن أسكُت خوفًا مِن أن يُقرّر يومًا قتلنا.
ـ لا أظنّه يفعل ذلك يا بابا!
ـ بلى... فهو حمَلَ سكّينًا يومًا وهدَّدَنا به. إرحَل يا بنَيّ ولا تعد، فالذي نحن فيه هو ذنبنا وحدنا... عِش حياتكَ سعيدًا مع عائلتكَ وما هو أهمّ، بعيدًا عنّا.
ـ لن أتركُكما!
حين عُدنا إلى البيت، عرضتُ على والدَيّ السفر معي لبضع أيّام، لكنّهما رفضا دعوتي فاحترتُ بأمري. عندها خطَرَ ببالي شيء: أين يذهَب رائد طوال اليوم بما أنّه لا يعمَل؟ لِما لا أُراقبُه؟ فذلك قد يُعطيني حلاً لتلك المعضلة.
وهذا ما فعلته، لحقتُ به صباحًا ورأيتُه يوقِف درّاجته عند زاوية مبنى ويُخرجُ كيسًا مليئًا بالأدوية. بعد ذلك، جاءَ بعض الأشخاص واشتروا منه تلك الأدوية فانتقَلَ إلى شارع آخر. في اليوم التالي، حدَثَ الشيء نفسه وفي الأماكن نفسها. ركضتُ أخبرُ زوجتي بالأمر، فقد تنصحُني ويرتاحُ بالي. لكنّها سكتَت واكتفَت بهزّ رأسها.
وقَبل موعد عودتنا إلى فرنسا بيوم واحد، سمعنا عصرًا طرقًا عنيفًا على الباب، ودخَلَ رجال الشرطة إلى البيت وفتّشوه بإمعان ليجدوا في مخابئ عديدة كمّيّة كبيرة مِن الأدوية المسروقة. أخذوا معهم رائد للتحقيق معه وبكَت أمّي كثيرًا وصرخَت: "أعيدوا لي ابني الحبيب!!!".
نظرتُ إلى زوجتي التي أدارَت وجهها عنّي. لَم أسألها شيئًا بل رحنا ننام مِن دون أن نتبادَل الكلام، لكنّني عرفتُ أنّها التي وشَت برائد. شكرتُها ضمنيًّا لأنّها أخذَت عنّي عبء القرار، ولأنّ ما فعلَته نابع من حبّها لي ولوالدَيّ، فأيّ زوجة أخرى، خاصّة إن كانت أجنبيّة، كانت لتتجاهَل ما يجري وتبتعِد قدر المُستطاع عن مشاكل لا دخل لها فيها.
سُجِنَ أخي، واستفدتُ مِن تلك الفترة لأُرتّب أوراق والدَيّ ليلحقا بي إلى فرنسا. وبعد مُشاورات طويلة وصعبة، إستطعتُ اقناعهما بالعَيش معي في فرنسا. وعندما أصبحا في أمان، أخبراني عن الجحيم الذي عاشاه مع رائد مِن شتائم وتعنيف وتجويع. كيف له أن يفعل ذلك بوالدَيه؟ مِن أين جاء ذلك الغضب العارِم تجاههما؟ أو أنّ تلك المشاعر العنيفة كانت موجّهة لي، أنا الأخ الأصغَر الذي نجَحَ في حياته وغادَرَ البلَد وتزوّجَ وأنجَب؟
لا أدري إن كان السجن سيمنَح لأخي الفرصة لإعادة حساباته وفحص ضميره، أم أنّه سيزداد غضبًا خاصّة بعدما علِمَ أنّ والدَيه صارا بعيدَين عنه. فهو لَم يعُد يملكُ أحدًا يعودُ إليه بعد خروجه. قد أمدُّ له يَد العون، لكن عن بعُد، فعليّ حماية أهلي وعائلتي مِن كلّ أذى.
لَم أتكلّم وزوجتي حتى اليوم عمّا هي فعلَته، فما النفع؟ خاصّة أنّها عاملَت وتُعامِلُ والدَيّ وكأنّهما والداها وهي فرِحة أن يُربّى إبننا وسط جدَّيه، فهما ثروة حقيقيّة بالنسبة له.
حاورته بولا جهشان