صديق العمر

غالبيّة الناس لا يؤمنون بالصداقة بين رجُل وامرأة أو شاب وصبيّة، لكنّ صداقتي بخالد كانت صافية وصادقة. للحقيقة، تلك العلاقة ربطَت بيننا مذ كنّا صغارًا، إذ أنّ خالد هو ابن جيراننا وقد كبرنا سويًّا بسبب قُرب عائلتَينا من بعضهما. وشكرتُ الربّ مرّات لا تُحصى على وجود هكذا إنسان في حياتي. فأنا لَم أجِد عند أخي الدّعم والتفاهم اللذَين وجدتُهما في صديقي، ربّما لفارِق السنّ بيننا. أمّا بالنسبة لوالدَيّ، فهما كانا دائمي الانشغال بأعمالهما.

لكن حين كبرتُ، بدأ ذويّ ينظرون إلى تلك الصداقة نظرة مغايرة، وصاروا يضعون علامات استفهام حول وجود خالد في حياتي. بالطبع ناضلتُ كثيرًا، واستطعتُ فرض رأيي بشأن ذلك الموضوع وإبقاء صديقي إلى جانبي. لكن حين عرّفتُهم على آدم، الشخص الذي اختارَه قلبي، إرتاحَ بالُهم وفهموا أخيرًا مَن يكون خالد حقًّا بالنسبة لي.

آدم هو الآخر سألَني مرارًا عن الذي يربطُني بخالد، وفهِمَ بدوره أنّ تلك العلاقة بُمنتهى البراءة، وصارَ يستمتعُ بجلساتنا نحن الثلاثة التي كنّا نقضيها نتحدّث عن أمور شتّى. نعم، كانت حياتي جميلة وأنا مُحاطة بأناس يُحبّوني ولا يُريدون سوى إسعادي. لكنّ خالد جاء في أحَد الأيّام يُحذّرُني مِن آدم قائلاً:

 

ـ ذلك الشاب ليس لكِ... إنّه يُخفي أمورًا عديدة عنكِ.

 

ـ وما أدراكَ أنتَ؟ هل تقرأ الغَيب؟

 

ـ بل أقرأ في الناس. إحترسي منه أرجوكِ فلا أُريدُكِ أن تتأذّي ولو نفسيًّا.

 

ـ وما تلك الأمور التي يُخفيها عنّي آدم، يا شاطر؟

 

ـ لدَيه حبيبة أخرى وعدَها هي أيضًا بالزواج. فلقد قابَلَ أهلها وهو يقصدُهم باستمرار.

 

ـ أنتَ تكذب! آدم يُحبُّني وحدي!

 

ـ إسأليه إذًا عن التي اسمها داليا وراقبي ردّة فعله. لكن لا تقولي له إنّ لي دخلاً بالذي تعرفينه.

 

ولأعرِفَ الحقيقة، فعلتُ كما طلَبَ منّي، وكَم كانت مُفاجأتي حين تغيّرَت ملامح حبيبي عند ذكر اسم داليا وتلعثمَ لسانه. هو حاوَلَ طبعًا أن يُنكر تهمة الخيانة التي وجّهتُها إليه، إلا أنّني أسكَتُّه على الفور وفسختُ علاقتي به. ركضتُ أرتمي بذراعَي خالد شاكرة وباكية، وهو واساني قائلاً: "ستعثُرين على الحبّ الحقيقيّ، إطمئنّي".

 

أخبرتُ أهلي عن خيانة آدم لي، وهم استاؤا كثيرًا لِمكره وخفّفوا عنّي وطأة ما حصَلَ لي. بعد أشهر قليلة نسيتُ أمر ذلك الكاذب وعادَ الأمَل إليّ. فليس كلّ الرجال خوَنة، والشخص التالي الذي سيدخلُ حياتي سيكون حتمًا أفضل مِن السابق. أخذتُ شهادتي الجامعيّة ورحتُ أبحث عن عمَل، فوجدتُ وظيفة جيّدة وبدأتُ مسيرتي المهنيّة.

وفي تلك الشركة، وجدتُ حبًّا جديدًا وكأنّ القدَر يُعوّضُ عليّ خسارتي السابقة. ردَدتُ أيضًا السّبب إلى قلبي النقيّ، وسيرتي النظيفة وقيامي بواجباتي الدينيّة تجاه ربّي. فمُدير الفرع بحدّ ذاته وقَعَ في إعجابي ولاحقًا حبّي، كَونه عازبًا ويبحثُ عن صبيّة لتكوين عائلة معها، فهو كان تخطّى الخامسة والثلاثين مِن عمره بعد أن قضى كلّ وقته مُنشغلاً بمركزه. للحقيقة شعرتُ بالإطراء لاختياره لي بالذات، ولَم أتردّد في تلبية دعوته لشرب فنجان قهوة في أحَد المقاهي المُجاورة. هناك كلّمَني عن نفسه وعنّي رابطًا مصيرنا سويًّا، فطلبتُ منه بعض الوقت للتفكير بالموضوع. في الواقع، كنتُ أُريدُ أوّلاً إستشارة خالد، فهو كان يعرفُني عن ظهر قلب ويعرفُ ما يُناسبُني الأكثر. رويتُ له كلّ ما أعرفُه عن مُديري، فقال:

 

ـ أتسمحين لي بالتحرّي أيضًا عنه؟

 

ـ نعم، إن كان ذلك سيُنقذُني مِن الوقوع فريسة رجُل آخر... لكنّني مُتأكّدة مِن أنّه بالفعل كما يدّعي، فالكلّ يمدحُه ويُثني عليه. قُم بمهامكَ أيّها التحرّي!

 

ضحكنا سويًّا وارتاحَ قلبي لاهتمام صديقي بالموضوع عنّي. عادَ خالد بعد أيّام ليقول لي إنّ مُديري ذا سيرة نظيفة ولا خوف منه. عانقتُه بقوّة شاكرة ورحتُ أُخبرُ أهلي عن عريسي الجديد. لكنّه لَم ينَل إعجابهم يوم جاء لزيارتنا لأنّه بدا مُتعاليًا، ينظرُ إلى أفراد عائلتي بتمعّن مُزعِج. هو بالكاد تكلّمَ بل بقيَ يهزّ برأسه بصمت. ردَدتُ الأمر إلى عدَم خبرته في مجال التقدّم مِن أهل العروس، فهو لَم يفعَل ذلك مِن قبل. دافعتُ عنه بحرارة لدى عائلتي، وهم تفهّموا ما جرى شرط ألا يظلّ بذلك الجمود، وأنا وعدتُهم بأنّني سأفعلُ جهدي ليشعَر بالراحة بيننا. وبعد أيّام قليلة على زيارته لنا، قال لي عريسي يوم أدخلَني مكتبه:

 

ـ إسمعي... لستُ جاهزًا بعد للارتباط... أنا آسف للغاية... سأنقلُكِ إلى فرع آخَر، فالعمَل بالفرع نفسه سيكون صعبًا على كلَينا ولا أُريدُ أن يتأثّرَ سَير العمَل بسبب أمور شخصيّة.

 

هو لَم يُعطِني أيّ فرصة للاستفسار، بل أعطاني شيكًا مصرفيًّا وإجازة أسبوع أذهب بعدها إلى فرع آخَر، بعيدًا عنه. ما الذي حصَلَ؟!؟ هل كرَهَ أهلي لِدرجة نسيان حبّه لي ومشاريعه معي؟ يا لقلّة حظّي مع الرّجال! ربّما عليّ أن أبقى عزباء وأنسى أمر الزواج. أهذا ما يُريدُه الله لي؟

رحتُ على الفور إلى خالد الذي اندهشَ كثيرًا وقال: "غريبون هم الناس... لا تزعلي يا جميلتي، الحياة أمامكِ".

 

لَم يُفارقني الحزن لوقت طويل، فهل كان غير مُقدَّر لي أن أعرف الحبّ؟ هل كنتُ سأظلُّ عزباء لسبب لا يعرفُه سوى الله؟ غرقتُ بكآبة لا مثيل لها، لولا أن جاء خالِد ذات يوم قائلاً:

 

- إسمعي... ولا تُعطِيني جوابًا على الفور بل فكّري في الموضوع... ماذا لو حظّكِ السيّء مع الرجال سببه أنّه لا يجب أن تتزوّجي... سوايَ. أجل، لنُحلِّل طبيعة علاقتنا: نحن مُتّفقان على كلّ شيء ونستطيع الجلوس سويًّا مِن دون ملَل لساعات، أضيفي إلى ذلك أنّ صداقتنا لَم تشهَد أيّ انقطاع أو زعزعة أو مشاكل. أليست تلك مواصفات الزواج الناجح؟ وهل سنجِدُ أفضل مِن بعضنا؟ بالطبع لا. الربّ أعطاكِ أوّل إنذار ثمّ الثاني. وكَم إنذار تُريدين لتفهمي الرسالة؟

 

تفاجأتُ كثيرًا بكلام خالد، إذ أنّني لَم أرَه يومًا أكثر مِن صديق، لكنّ حججه كانت بالفعل منطقيّة ومُقنعة، خاصة أنّ الكثير مِن قصص الحبّ بدأَت بصداقة. إستشَرتُ أهلي وهم وافقوا على الفور، أوّلاً لأنّهم يعرفون مدى حرص خالد عليّ وثانيًا لأنّهم خافوا ألا أتزوّج أبدًا. أعطَيتُ جوابي لصديقي الذي كان سيُصبح زوجي قريبًا. لكنّ قلبي لَم يكن فرِحًا كما تجري العادة مع عروس المُستقبل. هل لأنّني أعرفُ خالد عن ظهر قلب وليس هناك ما عليّ اكتشافه، أم لأنّني، وبكّل بساطة، لَم أكن مُغرمة به على الإطلاق؟ فلَم أنظُر إليه يومًا وكأنّه رجُل، وسألتُ نفسي كيف سأستطيع مشاركته السرير نفسه.

بدأنا التحضيرات للفرَح، ووحده خالد كان فرِحًا بينما أكلَني الهمّ والتفكير. لكن لا مجال للتراجع بعد أن بعثنا للجميع الدعوات لحضور الزفاف.

رحتُ أشتري بعض الحاجيات التي تنقصُني، حين وقعتُ صدفة على آدَم، حبيبي الأوّل وهو ينتظرُ أمّه خارج أحد المحّلات. قصدتُ ابعاد نظري عنه وتجاهله، إلا أنّه صرَخَ بإسمي عاليًا فاضطرِرت للتكلّم معه. قالَ لي مُعاتِبًا:

 

ـ كيف تركتِني بهذه القسوة؟ أحبَبتُكِ لدرجة لا توصَف. حسبتُكِ إنسانة عاقلة ومُتوازنة!

 

ـ تركتُكَ لأنّكَ ماكر تعِدُ الفتيات بالزواج لتتسلّى معهنّ. واجهتُكَ بالتي اسمها داليا، وكانت ردّة فعلكَ بمثابة اعتراف.

 

ـ داليا ليست حبيبتي بل أختي... المسكينة... إنّها في مؤسّسة مُختصّة بالأمراض العقليّة.

 

ـ لدَيكَ أخت؟!؟ ولِماذا لَم تُكلّمَني عنها؟ لماذا لَم تُدافع عن نفسكَ يوم اتّهمتُكَ بها؟

 

ـ نُخفيها كَي لا يظنّ أحد أنّ حالتها وراثيّة، فأنت تعرفين كيف هم الناس... خفتُ أن تتراجعي عن الزواج بي والإنجاب منّي. لَم أُدافع عن نفسي لأنّكِ لَم تُعطِني الفرصة لذلك! على فكرة، كيف علِمت بأمرها؟ فالقليلون هم الذين يدرون بوجودها.

 

ـ مِن صديق يهمّه أمري كثيرًا.

 

بعد لقائي بآدم، عدتُ وفكّرتُ بالذي فعلَه خالد في ما يخصّ تنبيهي مِن داليا. فكيف علِمَ بها ولماذا قال لي إنّها حبيبة آدَم وليست أخته؟ فمَن يعرفُ أنّ تلك الفتاة موجودة، يعرفُ أيضًا أنّها فاقدة العقل، وأنّها أخت وليس عشيقة. غريب هذا الأمر!

لستُ أدري لماذا، لكن في اليوم التالي، رحتُ إلى فرعنا الأوّل وطلبتُ بإلحاح رؤية مُديري السابق، أيّ الذي كان ينوي الزواج منّي وغيّرَ رأيه فجأة. دخلتُ المكتب وقلتُ له على الفور:

 

ـ لن أخرجَ مِن هنا قبل أن أعلَم السّبب الحقيقيّ لتركَكَ لي. هذا مِن حقيّ، فالأمر سبّبَ لي حزنًا لا يوصَف وحيرة عميقة.

 

ـ ما دمتِ تُصرّين على ذلك... لقد قيل لي إنّكِ إنسانة غير خلوقة.

 

ـ مَن قال لكَ ذلك؟ وهل صدّقتَ أقاويل لا أساس لها بدلاً مِن سؤالي عن الموضوع؟

 

ـ هي ليسَت أقاويل، ولِما أسألُكِ أنتِ بينما جاء أحد عشّاقكِ إليّ بنفسه ليُحذّرني منكِ، بعد أن بعثَ لي رسائل هاتفيّة ليحكي لي عنكِ وعن عائلتكِ.

 

ـ أحد عشّاقي؟!؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ مَن يكون؟ ما إسمه؟

 

لَم يكن مُديري السابق يعرفُ اسم الشخص، بل مِن وصفه لي عرفتُ أنّه خالد! هكذا إذًا، هو أزاحَ عريسَين مِن دربه ليفوز بي! ولَم يتردّدَ عن تضليلي وتشويه سمعتي لبلوغ غايته، بينما إدّعى الحرص عليّ وعلى مصالحي. أهكذا تكون الصداقة؟ أهذا ما يفعله مَن وثقتُ به لأقصى درجة مذ كنتُ صغيرة؟ أليس هناك مِن إنسان شريف وصادق في هذه الدنيا؟

رحتُ بسرعة أواجهُ خالد الذي أنكَرَ بشدّة كلّ الاتّهامات، لكنّه ما لبِثَ أن اعترَفَ لي بذنبه. بكى أمامي لكنّ دموعه لَم تؤثّر بي لشدّة خذلاني منه. كيف لي أن أُصدّق شخصًا غشّني لهذه الدرجة، فالكاذب يبقى كاذبًا مهما حاوَلَ إثبات عكس ذلك.

تركتُه حيث هو وعدتُ إلى بيتي مُنهارة تمامًا بعد أن خسرتُ حبيبَين وصديق. ألغَينا الفرَح بعد أن رويتُ لأهلي كلّ ما حصَل، وإتّفقنا ألا نسمحَ لصديقي السابق بالاتّصال بأيّ منّا بعد ذلك، فهو قد خسِرَ ثقتنا جميعًا وأيضّا حقّه بالتواجد في دارنا وبيتنا.

حاوَلَ حبيبايَ السّابقَان إعادة صلتهما بي والزواج منّي إلا أنّني رفضتُ. فكنتُ أُريدُ وضع تلك المرحلة ورائي والبدء مِن جديد. فكلّ الذي يتعلّق بخالد مِن قريب أو بعيد كان يُثير اشمئزازي ونفوري.

إستقلتُ مِن وظيفتي ووجدتُ أخرى، وسارَت حياتي في مسار أفضَل وبدأتُ أنسى شيئًا فشيئًا المكر والكذب والغشّ الذين أحاطوا بي.

علِمتُ أنّ خالد سافَرَ بعيدًا، الأمر الذي أراحَني، فكنتُ أخشى دائمًا أن ألتقي به صدفه كَونه جاري. وفي أحد الأيّام، تفاجأتُ بخبر موته بسبب حادث مؤسف، فعادَت إليّ ذكريات صداقتنا الطويلة. فحين يموتُ أحد، ننسى إساءاته لنُبقي في ذهننا كلّ شيء جميل عنه.

تزوّجتُ بعد حوالي السنة مِن زميل لي وأنا بالفعل سعيدة. لكن تُراودُني أفكار عديدة حول ما فعلَه خالد. هل كان إنسانًا ماكرًا يُخطّطُ ويكذبُ ويوقعُ الناس في أكاذيبه، أم أنّ دافعه كان بفعل الحبّ؟ هل قسَوتُ عليه أم كنتُ مُحقّة بالموقف الذي اتّخذتُه؟ فلو سامحتُه آنذاك لمَا كان قد سافَرَ وماتَ في الغربة. لستُ أدري تمامًا، لكن ما أعرفُه هو أنّ ما فعلَه خالد سبَّب لي الحزن وشوّهَ سُمعتي، وأنّ الغاية لا تُبرّر الوسيلة. ما رأيكم أنتم؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button