صدمة حياتي

لطالما تصوّرتُ أنّ تلك الأمور لا تحدث سوى للآخرين، فأنا لم أتخيّل أنّ يأتي يوم وأُهان فيه بهذه الطريقة البشعة، خاصّة أنّني إنسان مثقّف ومتربّ على احترام نفسي والغير. والتي جلَبَت لي العار والإذلال إسمها رنيم، ويا لَيتني لم أتعرّف إليها يومًا وبقيتُ عازبًا.

الحقّ فيما حصل لي يقع على زوجة خالي التي جلَبت تلك الفاسقة إلى حياتي، بذريعة أنّ عليّ الزواج قبل فوات الأوان. فالحقيقة أنّني كنتُ منشغلاً بإدارة أعمالي لدرجة نسيان ذاتي. ولكثرة عملي، لم أكن أعود إلى البيت إلا في ساعات متأخّرة مِن الليل. ولِمَ أعود أبكر؟ فلَم يكن هناك أحد بانتظاري بعدما مات والدايَ. إضافة إلى ذلك، كنتُ ابنهم الوحيد، لا أخ لي ولا أخت.

حسرتي الوحيدة في ذلك الوقت كانت عدم وجود أولاد مِن حولي. فكَوني وحيدًا ولَّدَ فراغًا في قلبي، ووعَدتُ نفسي، إن تزوّجتُ، أن تنجب لي زوجتي أكبر عدد مِن الأولاد.

لا أخفي أنّني أُعجِبتُ برنيم لأنّها كانت شابّة جميلة وجذّابة، وشكرتُ زوجة خالي على اختيارها لها. تواعدنا لفترة قصيرة، ومِن ثمّ طلبتُ يدها مِن ذويها فقبلوا بسرعة لأنّهم كانوا فقراء ورأوا بي المخلّص المُنتظَر. أحببتُ رنيم وذويها، وأعطيتُهم إنتباهي ومالي، وعشنا وزوجتي سعيدَين إلى حين كبَرت الفرحة أكثر بولادة أوّل ابن لي. لن أنسى ذلك النهار المبارك، لأنّني شعرتُ أنّ حياتي أصبَحَ لها معنى. صرتُ أنتظر بفارغ الصّبر أن أنهي عملي، لأركض إلى البيت وأحضن زوجتي وولدي وأقضي معهما أسعد الأوقات.

وبعد حوالي السنَتين، رُزِقتُ بابن ثانٍ وذرفتُ دموعًا لا يملكها سوى الذين تكتمل حياتهم.

منذ ذلك اليوم، صرتُ أقول لمَن يسألني عن زواجي إنّه أفضل شيء حصَلَ لي، وأنصح الناس بعَدَم الانتظار والاسراع بتكوين عائلة، شرط أن يقترنوا بامرأة كرنيم. فقد كانت زوجتي مثاليّة، تهتم ببيتنا وولدَينا وبي على أكمل وجه. وأنا، بالمقابل، كنتُ أعطيها كلّ ما تطلبه نفسها وأكثر. إضافة إلى ذلك، كنتُ قد أدخلتُ أخاها إلى الجامعة ووظّفتُ اختها في شركتي. ولم أنسَ بالطبع أمّها وأبيها، بل تكفّلتُ بمصاريف طبابتهما وجدَّدتُ أثاث بيتهما بالكامل. كلّ ذلك لم يكن شيئًا مقارنة بالذي قدّمَته لي رنيم، أي الجوهرَتَين اللذَين يحملان إسمي.

 


مرَّت السنوات هنيئة وازدهَرَ عملي وكبُرَ ولدَاي بعض الشيء، فأعربتُ لزوجتي عن نيّتي بولد ثالث، إلا أنّها رفضَت قطعاً لأنّها، وحسب قولها، لم تعد تريد قضاء وقتها بتغيير الحفّاضات وتحضير البيبرونات، قائلة إنّ الوقت كان قد حان لترتاح. لكنّني كنتُ مصمّمًا على تكبير عائلتنا وأردتُ إبنة تزيّن بدلَعها البيت. لِذا أخذتُ أعاشر زوجتي شبه يوميًّا منتظرًا حصول حمل جديد.

لكنّ ذلك الحمل لم يأتِ، وخفتُ أن تكون رنيم تتناول خفيةً حبوب منع الحمل. غضبتُ مِن تلك الفكرة وانتظرتُ أن تكون خارج البيت لأفتّش أمتعتها ومواجهتها بالأمر. إلا أنّني لم أجد حبوبًا في أيّ مكانٍ، مع أنّني لم أترك درجًا أو خزانة أو أي زاوية ممكنة إلا وبحثت فيها.

عندها خفتُ أن تكون زوجتي تعاني مِن مرض ما، واحترتُ بكيفيّة طرح بالموضوع مِن دون أن أفضح نفسي، فلم يكن مِن الجائز أن أعترف لها أنّني عبثتُ بأمتعتها بحثًا عن حبوب منع الحمل. إنشغل بالي كثيرًا على تلك الإنسانة التي أحبَبتُها لدرجة لا توصَف، ولم أعد أنام جيّدًا إلى أن وجدتُ الحل: قلتُ لرنيم إنّ شركة التأمين تطلب منّا إجراء تحاليل مخبريّة، وذلك بعد أن كلّمتُ طبيبًا هو صديق لي وشرحتُ له مشكلتي، فطلَبَ منّي أن آتي بزوجتي ليأخذ منها عيّنة دماء لفحص مستوى الهرمونات. وقال لي إنّ عليّ أن أخضع لفحص السائل المنويّ. لم أفهم لِما عليّ أنا أيضًا أن أقوم بهذا الفحص، فأجابَني أنّ قوّة الخصوبة تتغيّر مع مرور الوقت، خاصّة بسنّي.

صدّقَت رنيم كذبتي ورافقَتني إلى الطبيب، وتمنَّيتُ مِن كلّ قلبي أن تكون مسألة هرمونات وإلا اضطرَّت زوجتي للخضوع لأنواع أخرى مِن الفحوصات، الأمر الذي قد ترفضه ويُوّلد عندها غضبًا تجاهي. لم أكن أريد زعزعَة الاستقرار الذي طالما سادَ بيننا، إلا أنّ حبّي للأولاد كان ملحًّا جدًّا.

كيف أنسى اليوم الذي اتصل بي صديقي الطبيب؟ ففي ذلك اليوم إنقلَب عالمي رأسًا على عقب بلحظة واحدة، وبجملة واحدة سمعتُها مِن فمّ الأخصّائي: "جاءَت نتيجة فحوصاتكَ... أنتَ عاقر يا صديقي، ومنذ البداية". صَرَختُ عاليًا:

 

ـ كيف ذلك ولدَيَّ ولدان؟ أنتَ كاذب! لماذا تفعل هذا بي؟ هل تنتقم منّي لسبب أجهله؟!؟

 

ـ يا صديقي... ليس لدَيكَ حيوانات منويّة... حالتكَ نادرة ولكن معروفة طبيًّا... أمّا الاجابة لسؤالكَ عن كيفيّة انجابكَ لولدَين وأنتَ عاقر، فعليكَ أن تطرحَه على زوجتكَ... ليكن الله في عَونكَ... لقد تمّ تضليلكَ ولا أحسدكَ على هذا الموقف.

 


عندما أقفلتُ الخط، بقيتُ أنظر إلى الحائط لأكثر مِن ساعة، أعيد في ذاكرتي كلّ الأحداث التي جَرت منذ زواجي وولادة ولدَيَّ، ولم أجد شيئًا مثيرًا للشكوك، فكيف تكون رنيم قد أنجبَت مِن غيري؟ هل يُعقَل أنّني كنتُ مغفّلاً إلى هذه الدرجة؟ أو أنّ مكر زوجتي كان رهيبًا؟

ثم فكّرتُ بولدَيَّ...كيف سأتعامل مع الحقيقة التي اكتشفتُها للتوّ بما يخصّهما؟ باتا غريبَين أتيا مِن رجل ثانٍ وأنا قمتُ بتربيتهما والاهتمام بهما نيابة عنه. هل كان بإمكاني أن أحبّهما بعد؟ يا إلهي... يا ليتني لم أجرِ هذا الفحص، فأحيانًا يكون جهل الحقيقة أفضل لنا، ولولا إصراري على الإنجاب مجدّدًا، لتابعتُ حياتي بهناء. ولكن بعد ذلك الخبر الأليم، لم يعد بامكاني العودة إلى الوراء.

ولمعرفة ما كانت تفعله زوجتي وراء ظهري، قرَّرتُ مراقبتها. كان الأمر سهلاً لأنّني كنتُ أدير عملي الخاص، ولدَيَّ متّسع مِن الوقت لتعقّب رنيم. ما كان صعبًا هو أن أمثّل عليها دور الزوج المحبّ والغافل وعلى ولدَيَّ دور الأب الحنون. فقد صارَت عائلتي مؤلّفة مِن خائنة ومن غريَبين.

ما اكتشفتُه مِن جرّاء ملاحقتي لرنيم أكّد خيانتها لي، لأنّها كانت تغادر المنزل فور ذهاب ولَدَينا إلى المدرسة والحضانة لتوافي عشيقها في شقّة موجودة في الحيّ نفسه الذي كانت تسكن فيه وهي عزباء. سألتُ عن ذلك الرجل وعرفتُ اسمه وكلّ ما يتعلّق به، وما هو أهمّ، تبيّن لي أنّ زوجتي تزوره كلّ يوم تقريبًا منذ وقت يعود إلى ما قبل زواجنا. وما صَدَمني الأكثر، هو أنّ الجميع في الحيّ على علم بتلك العلاقة، بما فيهم أهل رنيم. هكذا إذًا... إستفاد كلّهم منّي ماديًّا واجتماعيًّا، وغضّوا النظر عمّا تفعله زوجتي، بل ساهموا بالتغطية عليها. أمّا هي، فأنجَبت ولدَين مِن الرّجل الذي لم تكفّ عن حبّه، وأنا متأكّد مِن أنّها كانت تعطيه مِن مالي أيضًا.

لن أحكي عن حالتي عند اكتشاف ما كان يجري، بل سأركّز على ما نوَيتُ فعله لأستعيد، ولو بعض الشيء، كرامتي. لكنّني لم أكن أتوقّع أبدًا مدى قباحة التي أعطَيتُها اسمي وقلبي وفكري ومالي. فصعدتُ سلالم الشقّة حيث كانت تجري الخيانة لأواجه الفاسقَين، وأفرغ بالتالي كلّ الامتعاض والحزن والغضب الذي سكَنَني منذ معرفتي الحقيقة.

لكن حين فتَحَ لي العشيق الباب، وبدل أن يشعر بالعار والخزي بالذي يفعله، بدأ يضربني بكل قوّته ورنيم تقول له: "أقتله! أقتله! خلصّني منه!" ولأنّني لم أكن أتوقّع حصول ذلك أبدًا، وقعتُ أرضًا وهو تابَعَ ضربي وركلي. وأنا متأكّد مِن أنّهما كانا سيتمكّنان مِن قتلي لولا الجيران الذين سمعوا صوتي وانتشلوني مِن بين أيدي ذلك الوحش.

عندما خرجتُ مِن المشفى رفعتُ شكوى ضدّ العشيق، فاعتقلَته الشرطة وطردتُ زوجتي مِن منزلي. أخذَت معها ولدَيها بعدما أخبرتُها أنّني على علم بأنّهما ليسا منّي. حزنتُ كثيرًا على رحيلهما لأنّني ربّيتُهما وسهرتُ عليهما كما قد يفعل أيّ أب.

لكن في اليوم التالي، دقّ بابي أخ عشيق زوجي وبرفقته رجلان. مِن نظراتهم ونبرة صوتهم والسكاكين التي كانت بحوزتهم، كان مِن الواضح أنّهم جادّون بتهديدهم لي. فحسب قولهم، كان أمامي خياران: إمّا التنازل عن شكوايَ ضد الذي ضربَني... أم الموت. لم أفكّر كثيرًا بالأمر، فكنتُ قد سئمتُ مِن تلك المسألة بعد أن أخذَ كلّ ما بنَيتُه بالتلاشي.

سحبتُ الشكوى وبعتُ البيت وحصص شركتي ورحلتُ، ليس لأنّني جبان، بل لأنّني فهمتُ أنّ سعادتي ليست حيث أنا وبين الناس الذين عرفتُهم. فعلى الإنسان أن يعلم متى ينسحب حين تتراكم الظروف ضدّه وتسبّب له الأسى.

رحلتُ، وقد كان الرّحيل أفضل شيء حصل لي. ذقتُ طعم الحريّة المطلقة، بعيدًا عن العمل والخيانة والأذى. وبعد أن شبعتُ مِن حريّتي، التقَيتُ بإنسانة عظيمة أعادَت لي ثقتي بالناس. لم تنجب لي أطفالاً ولم آسف لأنّ حبّها لي ملأ قلبي وأيّامي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button