مرّة أخرى إضطرِرتُ لِترك عملي والإسراع بالعودة إلى البيت. كان قد طفَحَ كَيل مُديري مِن الأمر، وهدّدَني بالطرد إن لَم أحلّ مشاكلي بسرعة. فالوضع في البيت كان قد تأزَّمَ بين زوجتي وأمّي بشكل خطير ولَم تكن تهدأ الحال إلا بوجودي.
لَم تكن الأمور هكذا في البدء، بل قبِلَت هند وبسرور فكرة انتقال والدتي للعَيش معنا، فقد كان أبي مُتوفيًّا وجميع أخوَتي في الخارج. شكرتُ ربّي آنذاك أنّ كلّ شيء يجري بسلاسة بين المرأتَين، إلا أنّ الوضع تغيّرَ يوم علِمَت زوجتي أنّها حامل، فبدأَت تفعل ما بوسعها للتخلّص مِن حماتها.
وذات يوم وقفتُ أمام المرأتَين مُهدّدًا:
ـ إن حصَلَ، ولو لمرّة، أن تشاجرتُما فسآخذُ تدابير صارمة للغاية بحقّكما، فقد أفقدُ عملي بسبب تلك التفاهات. مِمّا ستعيشان إن صرتُ عاطلاً عن العمَل؟
عندها قالَت لي والدتي:
ـ يبعثُ لي أخوَتكَ المال شهريًّا، فلستُ بحاجة إليكَ.
ـ ألا تعيشين في بيتي؟ لقد جلبتُكِ إلى هنا يا أمّي كي لا تبقَي لوحدكِ. هل فكّرتِ بذلك قبل أن تتباهي بالذي يُرسله باقي صبيانكِ؟ ليس لدَيكِ ابنة، فاعتبري هند ابنتكِ. وأنتِ يا زوجتي، أمّكِ بعيدة عنكِ، إعتبري حماتكِ وكأنّها أمّكِ.
فأجابَت هند:
ـ أمّي ليست عقربة!
غضبتُ مِنهما كثيرًا فصرختُ بهما:
ـ سأُطلُّقكِ يا هند! وسآخذُ أمتعتكِ يا أمّي وأرميها خارجًا! إرحماني أرجوكما! طوال النهار والليل أضطّرُّ لِسماع شجاركما وكلامكما المؤذي لبعضكما! سأفقدُ عقلي يا ناس!
أمِلتُ بأنّ ذلك الحديث سيُعطي مفعوله، لكنّني لَم أتوقّع أبدًا ما جرى بعد فترة قصيرة ومدى تأثيره على زوجتي وأمّي.
فبعد أسابيع قليلة، وبينما كنتُ في عملي، رنَّ هاتفي. علِمتُ أنّها أمّي فتردّدتُ بالإجابة ظانًّا أنّها تُكلّمُني للاشتكاء مرّة أخرى مِن هند، إلا أنّها قالَت لي عندما أجبتُ أخيرًا:
ـ أسرِع يا بُنَي، فلقد أخذتُ هند إلى المشفى بعدما أصابَها نزيف حاد! وهي قد تفقدُ الجنين!
ركضتُ كالمجنون إلى المشفى غير آبِه بتهديدات مُديري بالطرد، لأجِد هند نائمة وأمّي إلى جانبها والهمّ يسكنُ قلبها. طمأنَنا الطبيب بأنّ النزيف لَم يؤثّر على الحَمل، وبقيَت والدتي مع زوجتي طوال الليل ليعودا في اليوم التالي إلى البيت.
تأثّرتُ كثيرًا بما جرى لهند، فكِدنا أن نخسِر الجنين وندِمتُ على قساوتي عليها. إضافة إلى ذلك، لمستُ التقارب الذي جرى بينها وبين والدتي، الأمر الذي أراحَ قلبي أخيرًا. هل يُعقَل أنّ ذلك النزيف المؤسِف سيكون فرصة للمرأتَين لنسيان خلافاتهما؟ رجَوتُ ذلك مِن كلّ قلبي.
ومنذ ذلك اليوم سادَ الوفاق البيت.
كان مِن المفروض أن تنتهي قصّتي لكم هنا ونعيشُ جميعًا بسعادة ووفاق، إلا أنّ القصّة الفعليّة كانت قد بدأَت للتوّ. فلَم أحسِب أبدًا حساب ذيول "معاهدة السلام" التي حصلَت بين زوجتي وأمّي... وأنّ الخاسر الأكبر سيكون أنا.
أجل، تحالفَت هند وحماتها ضديّ! قد أفهمُ ذلك مِن جهة زوجتي، إمرأة تعرّفتُ إليها منذ حوالي الثلاث سنوات، لكنّ الأمر كان غير مقبولاً مِن جهة التي ولدَتني وربَّتني! وحتى اليوم يصعبُ عليّ استيعاب هذا الانقلاب.
فباتَ مِن المستحيل عليّ توجيه أيّ انتقاد لهند مِن دون أن تُدافعَ عنها أمّي مُستعملةً ألفاظًا قاسية بحقّي. في البدء سكتُّ كي لا أُزعزِع الوفاق الذي تمنَّيتُه، لكنّ الوضع لَم يعُد يُحتمَل أبدًا. فأنا إبن أمّي وليس هند! وبما أنّني لستُ ولن أكون يومًا إنسانًا ظالمًا، فقد بدا الوضع وكأنّني أفتري على زوجتي مِن دون سبب. فسرعان ما صارَت والدتي سيّدة بيتي ونائبتها هند. إمّحى وجودي وسلطاني بلحظة وبتُّ كالضيف المُزعِج. إقتصَرَ دوري على جَلب المال ليُصرَف على ما تشتهيه هند بسبب حملها، وأمِلتُ بتغيّر ما بعد الولادة. فكلّ رجل يصبرُ على زوجته، آخذًا بعين الاعتبار التغيرات الهرمونيّة بانتظار أن يسمعَ صرخة ولده الأولى.
إلا أنّ مجيء وليد ابني إلى الدنيا لَم يُحسّن الأحوال، بل العكس، إذ صارَت هند وكأنّها ملكة جالسة على عرش الأمومة وأمّي الساهرة على هذا اللقب الجديد. إلتهَيتُ بولَدي وغضَّيتُ النظَر عن تصرّفات "إناث" عائلتي إلى حين لَم يعُد يحقّ لي التعاطي بأمور وليد، حتى الأبسط منها. في البدء، كانت ذريعتهما أنّ عليّ النوم الليل بأكمله لأُحسِن القيام بعَملي في اليوم التالي. لكنّني لستُ غبيًّا، ولاحظتُ أنّ الأمر هو مسألة سيطرة مُطلقة مِن قِبَل زوجتي وأمّي.
أخبرتُ أصدقائي عن الأمر وطمأنوني جميعًا بأنّ لا شيء يُحاكُ ضدّي. أمّا بالنسبة إلى إخوَتي في الغربة، فنعتوني بالمجنون، فمَن يتصوّر أنّ أمًّا بإمكانها الانقلاب على إبنها لمصلحة كنّتها، خاصّة بعد الخلافات العديدة والعنيفة التي حصَلَت بينهما؟
وسرعان ما باتَ رجوعي مِن العمَل إلى البيت بمثابة كابوس، ولَم أعُد أرفضُ دعوات زملائي لي للخروج بعد الدوام. لَم تنزعِج زوجتي على الإطلاق مِن تلك الغيابات، بل بالعكس. وبما أنّ لا أحد كان له مانعٌ بذلك، تكاثَرَ خروجي وأحببتُ الأمر كثيرًا. شيء واحد كان يُحزنُني، وهو بُعدي عن ابني الذي كان طبعًا نائمًا كلّما أعود إلى المنزل أو وقت خروجي باكرًا إلى العمَل.
وذات يوم، طلبَت منّي هند عدَم الخروج مساءً بل العودة مُباشرة إلى البيت، بسبب حديث مهمّ عليها إجراؤه معي. إنشغَلَ بالي كثيرًا خاصّة أنّ أمّي لَم تشأ اطلاعي على حقيقة ذلك الحديث.
جلَسنا نحن الثلاثة في الصالون وبدأَت هند بالتكلّم:
ـ إرتأينا أنّ لا منفعة مِن وجودكَ بيننا.
ـ ماذا؟!؟ ومَن ارتأى؟
ـ أمّكَ وأنا.
ـ لا منفعة مِن وجودي؟!؟
ـ أجل، فأنتَ غائبٌ طوال الوقت.
ـ خلال النهار أكون في عملي كالمعتاد، ومساءً أخرجُ مع أصدقائي وزملائي. على كلّ الأحوال، لا أشعرُ أنّ لي مكانةً في بيتي أو يحقُّ لي التدخّل في شيء.
ـ تمامًا.
عندها، قرّرَت أمّي التدخّل، لكن ليس لصالحي:
ـ عليكَ الرّحيل.
ـ الرّحيل؟!؟ هذا بيتي وأدفعُ جميع تكاليفه ومصاريفكم!
ـ لسنا بحاجة لمالكَ. ما يبعثه لي أخوتكَ هو كاف... إضافة إلى ذلك، لقد وجدَت هند عملاً بينما أبقى مع وليد.
ـ لن أتركَ البيت ولن أتخلّى عن ابني!
ـ الأمر ليس عائدًا لكَ.
ـ أنا ابنكِ! ما بكِ يا أمّي؟!؟ وهي ليست ابنتكِ بل كنّتكِ! هل فقدتِ عقلكِ؟
ـ لا تُكلّمني بهذه الطريقة! بالطبع هي ابنتي! ألَم تطلب منّي اعتبارها الابنة التي لطالما تمنَّيتُها؟
ـ صحيحٌ ذلك لكن ليس على حسابي! ما الذي فعلتُه لأُعامَل هكذا؟ كنتُ منذ البدء ابنًا وزوجًا صالحًا.
ـ لسنا بحاجة إليكَ بعد الآن. عليكَ استيعاب الأمر والرّحيل. سترى ابنكَ كلّ أسبوع وبحضورنا.
وقفتُ وخرجتُ مِن البيت لعدَم تحمّلي وضعًا شبيهًا بالكابوس. نمتُ عند صديق لي، وفي الصباح الباكر قصدتُ محاميًا أعرفُه وعرضتُ عليه جميع الأحداث. هو الآخر وجَدَ صعوبة بتصديق قصّتي، فلَم تمرّ عليه هكذا حالة. رجَّحَ الرجل أنّ أمّي فقدَت عقلها، واقترَحَ عليّ عرضها على طبيب نفسيّ لكنّني رفضتُ بقوّة، فلَم أشأ أن أُهينَ كرامتها هكذا. مِن جهة أخرى، لَم أتردَّد عن تطليق زوجتي، فكان مِن الواضح أنّها لا تُحبُّني على الإطلاق، لكنّني كنتُ مُصرًّا على حضانة ابني.
كانت معركة الحضانة ضارية، فمَن سيُصدق رجلاً يُقابله كلام أمّه وزوجته؟ وصَلَ الأمر بهما إلى تأليف الأكاذيب حولي وحول عُنفي المزعوم لزوجتي. وأقسمُ بالله أنّني لَم أكن يومًا عنيفًا لا جسديًّا ولا لفظيًّا مع أحد.
خسِرتُ دعوى الحضانة بالطبع وعشتُ في شقّة صغيرة استأجرتُها. وأصابَتني كآبة لا مثيل لها بعد أن كرهَني كلّ مَن عرفَني مِن أخوَتي وأصدقائي إذ صدّقوا روايات زوجتي وأمّي. صرتُ أرى وليد بين الحين والآخر، لكنّه لَم يُحبّني بسبب ما سمعَه عنّي وهو يكبرُ.
ما الذي فعلتُه لأستحقّ أن يُدمَّر زواجي ويؤخَذ منّي ولدَي؟ لا شيء على الإطلاق.
بعد بضع سنوات، تعرّفتُ إلى سيّدة مُطلّقة لدَيها ابنٌ، وتزوّجتُها بعد أن تأكّدتُ مِن أنّ لا أحدًا سيتدخّل بزواجنا وعائلتنا. أعطَيتُها كلّ مشاعري التي لَم تسمَح لي هند بإعطائها لها، وبادلَتني زوجتي الجديدة بالمثل. أحببتُ ابنها وكأنّه بالفعل ابني وربَّيتُه كما أردتُ أن أُربّي وليد. كان الله قد أعطاني عائلة بديلة لأنّني بالفعل رجل طيّب ومُستقيم. لكنّه لَم يُعطِني طبعًا أمًّا أخرى، وحزِنَ قلبي للغاية على فقدان حنانها وحبّها إلى الأبد. هل كانت بالفعل مجنونة؟ فأيّ أمّ تفعل ذلك بابنها وبطريقة غير مُتوقّعة؟
حين بلَغَ وليد السادسة عشرة، قصدَني في بيتي. كان قد حلَّلَ لوحده جميع المُعطيات، ووجَدَ أنّ هناك أمورًا غريبة تجري مِن حوله. فكيف لجدّته أن تحبّ كنّتها على ابنها وتنقلبَ عليه هكذا؟ إضافة إلى ذلك، هو لَم يسمَع عنّي أيّ كلمة نابية أو ملاحظة سيّئة خارج المنزل الذي يعيشُ فيه. فاستوعَب أخيرًا أنّني ظُلِمتُ وطلَبَ منّي الإذن بالعَيش معنا. قبِلَت زوجتي الحاليّة بصدر رحب فهي تعلَم كَم ألَمني بُعد ابني عنّي.
لا تزال أمّي تعيشُ مع هند حتى اليوم. هنيئًا لهما ببعضهما!
حاورته بولا جهشان
