شنقَ أخي نفسه مِن كثرة يأسه

أتذكّر جيّداً يوم رأيتُ فيه عادل لأول مرّة وعندما نظرنا إلى بعضنا بصمت ومِن ثم إبتسمنا لأن كان لدينا مصيراً مشتركاً قرّرَه عنّا الكبار. كنتُ في سنّ السادسة وكان يكبرني هو بسنتَين وكانت أمّي ستتزوّج مِن أبيه بعدما طلّقها والدي وماتَت زوجة أب عادل. ولم أكن مستاءة لزواج أمّي لأنّني بالكاد كنتُ أعرف أبي بسبب غياباته المستمرّة وعلاقاته مع نساء التي أبعَدَته عنّا وكنتُ آمل أن تكون حياتنا الجديدة أفضل مِن القديمة خاصة أنّه أصبحَ لدَيّ أخاً غير شقيق.

وكان عادل فتى هادئ وطيّب تقاسَمَ ألعابه معي فور وصولي وكنّا نجلس على الأقل في البدء سويّاً ونرسم ونلوّن بدفاتره الجميلة. ولكن ما لم أكن أعرفه آنذاك هو أنّ أمّي إمرأة مستبدّة لا تتردّد على إستغلال الآخرين للوصول إلى غاياتها وإستنتَجتُ لاحقاً أنّها كانت السبب في رحيل أبي. وكانت والدتي تنوي أيضاً فرض كلمتها وبَسط سلطتها المطلقة على سكاّن البيت الجديد خاصة أنّ إمرأة غيرها كانت موجودة قبلها وخلّفَت وراءها أثَر مرورها: عادل.

وهكذا أصبحَ المسكين محطّ غضب وكرهَ أمّي التي نوَت على كسره لحظة وصولها. في الأوّل كانت طلبات بسيطة وبطريقة شبه وديّة لبّاها الصبيّ بحماس ليريها أنّه يقبل بوجودنا في بيته. ومِن ثمّ صارَ عادل يغسل الأطباق بعد الوجبات. وحين إستغربَ زوج أمّي للأمر أجابَته: "أفعل ذلك لصالحه... فليس هناك أسوأ مِن الخمول... أم تريدُه أن يصبح رجلاً مدّللاً لا نفع له؟." وإقتنعَ الرجل لأنّ والدتي كانت بارعة في التمثيل ويلزم للمرء سنين طويلة لكشف مكرها بالكامل. ولم يشتكِ عادل مِن شيء طالما كنتُ موجودة لللعب معه. وعرضتُ عليه مراراً أن أساعده ولكنّه بقيَ يرفض قائلاً: "لا... أنتِ لا تزالين صغيرة... دعي الأمر لي... أنا قادر على القيام بما يجب لوحدي."

وكُبرَ إعجابي به وإفتخاري بهكذا أخ يعرف كيف يحمي أخته الصغرى وتمنّيتُ لو تخفّف أمّي مِن طلباتها ولو قليلاً. ولكنّ المرأة لم تكن مستعدّة للتراجع بل لم تكن معركتها قد بدأت بعد. ومع مرور الأيّام أصبحَ عادل بمثابة خادم لدينا جميعاً ولم يعد يركّز على درسه وبدأ يتراجع في المدرسة. فكان المسكين يقضي وقته في إتمام الأشغال المنزليّة بدلاً مِن فروضه المدرسيّة وأتذكّر أنّه كان يذهب منهكاً إلى فراشه في وقت متأخرّ مِن الليل ليفيق باكراً لتحضير الفطور لنا.

أمّا أبوه فكان مشغولاً بعمله وبإرضاء زوجته الجديدة خوفاً مِن أن تتركه وترحل ويجد نفسه وحيداً مِن جديد. لم يكن لديّ علاقة مميّزة معه لأنّه لم يكترث لي وكنتُ أشعر أحياناً أنّه لا يراني حتى. كل ما كان يريده عندما يكون في البيت هو أن يأكل ويشاهد التلفاز ويذهب مع أمّي إلى الغرفة.

 


ومَضَت هكذا حوالي السنتَين حين بدأ عادل بالرسوب في المدرسة ورأتها أمّي فرصة لتدمير معنويّاته بتسميَته بالفاشل والغير نافع لدرجة أنّه حقّاً صدّقَ كلامها وشعَرَ أنّه فعلاً لا يجدي فعل أيّ شيء كما يجب. وبالرغم مِن محاولاتي العديدة لرفع ثقته بنفسه بقيَ يقول: "أمّكِ على حق... لستُ نافعاً... كل زملائي نجحوا وإنتقلوا إلى الصف الأعلى إلاّ أنا... أرجو فقط ألاّ أكون قد خيّبتُ أمالكِ بي."

وعندما أتذكّر تلك الفترة أرى كيف غرق بالإكتئاب ولم يعد يحب شيء إلاّ أنا. وفي ذات يوم سألتُ أمّي عن سبب كرهها لأخي فأجابَت:

 

ـ أنا لا أكرهه... ولكنّني لا أحبّه... ليس إبني... هو إبن تلك المرأة... هي أكرهها.

 

ـ ولماذا يا أمّي؟ أنتِ حتى لا تعرفينها... كانت المسكينة مريضة وماتَت... ألا يجدر بكِ أن تشفقي عليها؟

 

ـ أشفق عليها بعدما تركَت لي هكذا صبيّ؟ لا لَيته لم يكن موجوداً!

 

ـ لا تقولي هذا!أحبّه كثيراً... هو الأخ الذي لم أحصل عليه.

 

ـ سأجلب لكِ أخاً حقيقيّاً... وسترَين الفرق.

 

ولكنّ أمّي ورغم محاولاتها المتكرّرة لم تستطع الإنجاب مِن بعدي ما زادَها كرهاً لِعادل لأنّها إعتبرَته السبب بذلك معتبرة أنّه فأل سيّئ عليها. وبعد سنتَين ونصفّ عندما يئسَت والدتي مِن الإنجاب قرّرَت عزل إبن زوجها كليّاً بحرمانه مِن التواجد معي تحت ذريعة أنّه أصبحَ مراهقاً ولا يجب أن يقتربَ منّي خوفاً عليّ. وأقسم أنّه لم يضايقني بشيء مِن هذا القبيل لأنّه ومِن الأوّل كان يعتبرني حقّاً أختاً له.

وكان عادل في هذه الأثناء قد قَبِلَ أن يترك المدرسة بعدما أقنعَه أبوه بذلك تحت تأثير أمّي طبعاً وذلك ليتفرّغ لتلبية طلبات العائلة بما فيها مِن طبخ وتنظيف وكوي وكل الأمور المنزليّة الأخرى. وخبَر إبعاده عنّي وقعَ عليه كالصاعقة فبذلك شعَرَ أنّه لم يعد مِن عائلتنا بل موظّفاً مِن دون أجرة. ووجدَ نفسه مِن دون شيء بعدما خسِرَ فرصته بالتعليم وحبّ أبيه ورفقَتي وزادَ إكتئابه بعدما أصبح يبقى لوحده في غرفته بعد إنتهاء واجباته. ولطالما سألتُ نفسي عن موقف أيبه بالنسبة لما كان يحصل.

 


فكنتُ أفهم بعض الشيء معاملة أمّي لعادل كونها زوجة أب شرّيرة ولكن ماذا عن الأب؟ هل كان معدوم الشفقة مِن الأوّل أم تأثّر بنفسيّة أمّي البشعة؟ ومِن هنا أهميّة المرأة في قولَبة زوجها وعائلتها ومنذ ذلك الحين وعَدتُ نفسي أن أتذكّر كل ما يحصل كي لا أكرّره في المستقبل. حاولتُ بضع مرّات الإقتراب مِن أخي ولكنّ أمّي رأتني وهدّدَتني بالعقاب الصارم: "أيّاكِ أن تلعبي معه... أو حتى أن تكلّميه... أعرف أمثاله... سيؤذيكِ... أنتِ صغيرة ولا تفهمين بهذه الأمور... إن رأيتُكِ قربه مجدّداً فسأرسلكِ إلى مدرسة داخليّة... أفهمتِ؟." وخفتُ كثيراً مِن فكرة الرحيل بعيداً وإمتثلتُ لرغباتها وتفرّجتُ صامته على باقي الأحداث. وأظنّ أنّني لو كنتُ أكبر سنّاً حينها لرأيتُ إلى أين ستصل الأمور وتصرّفتُ كما يجب.

ولكنّ قدر عادل كان قد كُتِبَ له ولا أحد كان بإمكانه منع ذلك. ففي أحد الأيّام حين بلغَ أخي الثالثة عشر وجَدَته أمّي ميّتاً في غرفته. كان قد شنقَ نفسه في السقف مكان الثريا بعدما صعَدَ على كرسيّ ركَلَه ليموت. وحين صَرَخَت أمّي وركضتُ اليها رأيتُ عادل معلّقاً أمامي وفقدتُ وعيي. وحين فتحتُ عيوني كان المنزل مليئ بالناس ورجال الشرطة وأمّي تدّعي البكاء والحزن وتشرح للجميع أنّ "الولد كان مختلاً عقليّاً."

ومنذ تلك اللحظة رأيتُ بوضوح حقيقة والدتي وإنتابني شعور بالخوف والإشمئزاز. ولكثرة حزني على أخي وإستنكاري لما فعَلَته أمّي به إنرَبطَ لساني ولم أعد قادرة على الكلام. وبعد مراسيم الدفن أخَذَتني إلى الطبيب الذي قال لها أنّ الصدمة أثّرَت عليّ وأنّني سأتكلّم عندما أشعر بتحسّن. وبقيتُ بهذه الحالة حوالي السنة ولحظة ما عدتُ قادرة على النطق كانت لي هذه الكلمات لأمّي:

 

ـ أريد الذهاب إلى المدرسة الداخليّة.

 

ـ حبيبتي! تتكلّمين!

 

ـ أريد الرحيل.

 

ـ لماذا؟؟؟

 

ـ لن أتكلّم مجدّداً ولن آكل شيء إن لم ترسليني إلى تلك المدرسة.

 

وبدأتُ الإضراب عن الكلام والطعام حتى أن وجدَت والدتي أنّني فعلاً جدّية. وبعثَتني إلى المدرسة. وقبل أن أرحل وعندما كنتُ على وشك الصعود في سيّارة الأجرة إستدَرتُ وقلتُ لها: "أنتِ شرّيرة... قتلتِ عادل وكأنّكِ شنقتيه بنفسكِ... لستِ أمّي ولستُ إبنتكِ."

 

ورفضتُ الذهاب إلى البيت في كل نهاية أسبوع كما يفعل زملائي في المدرسة كي لا أراها أو أرى الرجل الضعيف الذي تزوّجَته. وتوقّعتُ أن يصيبا بشتّى العقوبات الإلهيّة ولكنّهما بقيا بصحّة جيّدة ونسيا أمر الفتى المسكين الذي ذهبَ سدىً. وحين بلغتُ الثامنة عشر قصدتُ منزل جدّتي أي أمّ والدي التي لم أرَها منذ ما تركَنا والدي وطلبتُ منها أن تستقبلَني عندها. قبلَت بسرور لكثرة شوقها شارحة لي كيف أبعَدتني أمّي منها ومنعَتها مِن رؤيتي أو الأتصال بي.

أنا اليوم إمرأة متزوّجة ولدَيّ ابناً أسميتُه عادل كي يبقى ذكره حيّاً لأنّني كنت بالفعل الوحيدة التي أحبَّته في هذه الدنيا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button