ماتَ زوجي وترَكَني أُربّي بناتي الثلاث لوحدي، فهو رحَلَ عن هذه الدنيا فقيرًا كما وُلِدَ وعاشَ، فهو كان رجُلاً مِن دون طموح لا يُجيدُ سوى إطلاق الوعود التي لا تتحقّق يومًا. صدّقتُه، فهو كان بارعًا بالكذِب وانتظرتُ وانتظرتُ... إلى حين صارَت لدَينا عائلة كبيرة ولا مال للنهوض بها. لِذا بدأتُ بالعمَل وتعِبتُ كثيرًا، بينما هو مكَثَ في البيت مُعظم الأحيان بحجّة مشاكل صحّيّة. وقد ماتَ بالفعل بسبب صحّته لكن ليس مِن تلك المشاكل التي اتّخذَها عذرًا. للحقيقة ماتَ زوجي مِن كثرة شرب الكحول، فتشمَّعَ كبده بسرعة وبقوّة. رحمه الله...
موت زوجي لَم يترك فراغًا، فهو لَم ينفَعنا بشيء لا معنويًّا ولا ماليًّا، بل العكس. لِذا لَم أجِد صعوبة في نسيانه، وتابعتُ عمَلي كالمُعتاد وانتظرتُ بفارغ الصبر أن تكبر بناتي لأرتاحَ قليلًا. لَم أفكِّر إطلاقًا بالزواج مُجدّدًا أو بالحبّ... إلى حين تعرّفتُ إلى باسل.
فحين نلتقي بالحبّ لا يسَعَنا سوى الانصياع له. ربّما لو كان المرحوم زوجي رجُلًا طيّبًا ومُحبًّا، لَما كنتُ مُتعطِّشة للحنان والاهتمام. وهذا بالذات ما وجدتُه مع باسل، الذي منذ البدء لَم يبخل عليّ في ما يخصّ العواطف. وخلتُ نفسي أعيشُ قصّة مِن التي قرأتُها أو شاهدتُها في الأفلام. هل كان مِن المعقول أنّ الله أعطاني فرصة ثانية في الحبّ؟
عرّفتُ باسل على أهلي وبناتي وأصحابي، ونالَ موافقة الجميع. وسُرِرتُ أنّ حبّنا لاقى رضى الكلّ، فكنتُ أخشى أن يكون وضعي عثرة في طريقي. فالجدير بالذكر أنّني لَم أكن لأقبَل بالزواج مُجدّدًا لو إحدى بناتي رفضَت ذلك، فهنّ كنّ أهمّ أشخاص في حياتي ولا يأتي شيء أو أحَد قَبلهنّ. لكن على ما يبدو هنّ أيضًا كنّ مُتعطّشات لحنان الأب ووجوده.
لَم أتعرّف إلى أهل باسل لسبب وجيه: كانا مُتوفَّين، وكان أخوه الوحيد يعيشُ منذ سنوات عديدة في الغربة وانقطعَت أخباره كلّيًّا. صحيح أنّ خطيبي كان مُتزوّجًا في ما مضى، إلا أنّه لَم يُرزَق أولادًا بسبب عقم زوجته التي توفّيَت هي الأخرى. وعلِمتُ منه أنّه حين تعرّفَ إليّ، سُرَّ أنّ لدَيّ بنات لأنّه كان يحلمُ بعائلة خاصّة به.
لِذا كلّ شيء كان يجري بيننا وبين مُحيطي بشكل عظيم، وشعرتُ في معظم الأحيان أنّني أعيشُ في حلم.
في حلم... لكنّ الحقيقة كانت مُغايرة تمامًا.
تزوّجنا وكنتُ طائرة مِن الفرَح وكذلك عريسي. ذهبنا إلى فندق جميل لقضاء شهر العسل، وبقيَت بناتي عند أهلي. لدى عودتنا، إجتمَعنا مِن جديد وبدأنا حياتنا كعائلة سعيدة. عدتُ أيضًا إلى عمَلي الذي كنتُ أحبّه، والذي سمَحَ لي ولبناتي العَيش بكرامة أثناء وبعد زواجي الأوّل. على كلّ الأحوال، كانت بناتي كلّهنّ في سنّ المُراهقة، وتذهبنَ معظم النهار إلى المدرسة وباسل إلى عمَله، فلماذا أبقى في البيت لوحدي؟
لكن ذات يوم أخبرَني زوجي أنّه قدَّمَ استقالته، بسبب مُناقشة حادّة حصلَت بينه وبين ربّ عمَله، وأدركَ باسل أنّ بقاءه يعني أنّه سيتحمّل التنمّر والمُضايقات على صعيد يوميّ. خفّفتُ عنه مِن وطأة الموضوع قائلة: "لا تُبالِ يا حبيبي، فأنتَ رجُل موهوب وذكيّ وستجدُ عمَلًا آخَر بسرعة. إضافة إلى ذلك، أجني ما يكفي للصمود لفترة مِن الزمَن. أنا زوجتكَ وسأساندُكَ دائمًا، خاصّة في الأوقات الصعبة". كنتُ أعني ما قلته طبعًا، فمَن منّا لا يمرّ بالصعوبات؟
وهكذا مكَثَ باسل في البيت، وللحظة شعرتُ أنّ التاريخ يتكرّر، لكنّني طردتُ بسرعة تلك الفكرة، فالمُقارنة لَم تكن في محلّها على الاطلاق. إضافة إلى ذلك، صارَ زوجي يبحثُ عن فرصة عمَل عبر الإنترنِت وبين معارفه، أيّ أنّه لا ينوي العَيش على حسابي كسابقه. لكنّ العمَل الذي وجدَه أخيرًا كان بعيدًا جغرافيًّا عنّا، لِذا رفضتُ أن يتركنا في بداية مشوارنا سويًّا. على كلّ الأحوال، كان مُديري قد لوّحَ لي بأنّه مِن المُمكن أن أترقّى ففرِحتُ كثيرًا، وأطلعتُه على حالة باسل وكيف أنّ تلك الترقية ستُمكّن زوجي مِن أخذ وقته باختيار عمَل يُناسبنا جميعًا.
فرِحَ باسل أيضًا، وأعرَبَ عن فخره بي ودعاني والبنات إلى العشاء في مطعم حيث دفعتُ أنا الحساب، لكنّ النيّة كانت موجودة، أليس كذلك؟
علاقة باسل ببناتي كانت مُمتازة ومُحترمة جدًّا، فلقد تردّدتُ قبل الزواج، بسبب ما يحصل أحيانًا حين يأتي رجُل ناضح إلى عائلة موجود فيها صبايا. وفي غالب الأحيان، كانت بناتي يدعَمنَ موقفه ضدّي. وخاصّة ابنتي الصغرى التي كانت تُدافع عن باسل على الدوام وتقِفُ ضدّي بحَزم. فهمتُ أنّها ترى فيه صورة الأب الذي كان غائبًا وهو موجود، ولاحقًا غائبًا للأبد. لِذا تركتُها تعيشُ ما افتقدَت إليه.
مرَّت السنة، وبقيَ باسل بلا عمَل وبدأتُ أفقدُ صبري قليلًا، فكان زوجي لا يقومُ سوى بواجباته الحميمة تجاهي، أيّ أنّه كان يتمتّع بكلّ حسنات الزواج مِن دون تقديم مُقابل. لِذا كلّمتُ مُديري وهو وجَدَ لِباسل عمَلًا معي. إلّا أنّ زوجي رفَضَ أن يقوم بعمَل ليس مِن مستواه العلميّ ودارَت بيننا مُناقشات طويلة وأحيانًا صاخِبة.
ما لَم أعرِفه، هو أنّ خلال بقاء باسل مع بناتي خلال العُطل المدرسيّة وبعد عودتهنّ مِن المدرسة، كان قد استقطبهنّ بالفعل نحوه وبمُساعدة ابنتي الصغرى. لِذا شعرتُ أنّ أفراد عائلتي صاروا ضدّي في كلّ مناسبة وقرار. غضبتُ كثيرًا، خاصّة أنّ البيت كان قائمًا على عاتقي مِن كلّ الجهات، واعتبرتُ ذلك قلّة تقدير لِتعَبي وتضحياتي. وما هو أفظَع، أنّ باسل صارَ يسمحُ لبناتي بالخروج مِن دون معرفتي أو حين أمنعهنّ مِن ذلك. فبنظري، هنّ كنّ صغيرات على الخروج مع أصدقائهنّ وخاصّة مساءً! فلَم أتربَّ هكذا على الاطلاق! وسرعان ما بدأتُ أصِل إلى بيتٍ شبه خالٍ بعد دوامي، لأعلَمَ أنّ بناتي في أمكنة ومع أناس لا عِلم لي بهم. عادَ الشجار بيني وبين زوجي... وبين بناتي، وشعرتُ بالضعف والخوف على وجودي وعلى سلامة صغيراتي. عرَضَ عليّ باسل لإسكاتي أن يُرافقَ بناتي أينما ذهبنَ فارتاحَ بالي قليلًا، على الأقلّ سيكون برفقتهنّ إنسان ناضج. آه... يا لَيته يجِد عمَلًا وأترك أنا عمَلي لأنتبِه أكثر إلى عائلتي... لكنّ ذلك لَم يكن مُمكنًا آنذاك.
ثمّ ساءَت ألأمور بسرعة فائقة! إذ قرّرَت ابنتي الكبرى إيجاد عمَل مع أنّها كانت لا تزال قاصرًا، فرفضتُ ذلك بقوّة: "الدرس قبل العمَل!"، لكنّها بدأَت تصرخُ وتُسمّيني بالبخيلة وبأنّني لا أصرفُ عليها وأخواتها، الأمر الذي كان غير صحيح. كنتُ أعلَم أنّني لستُ قادرة على تأمين كلّ طلباتهنّ، لكن ما مِن شيء نقصَ مِن حاجاتهنّ اليوميّة. لَم أفهَم ما كان يجري، فاعتبرتُ طلَبها نوعًا مِن رغبة بالاستقلال، وأخذتُ أقنعِها بالانتظار قليلًا قبل أن تدخل مُعترك العمَل، فالحياة صعبة وليس كما هي تتصوّرها. ثمّ قلتُ لها إنّ أحوالنا قد تتحسّن لو وجَدَ باسل عملًا، لكنّها بدأت تصرخُ في وجهي وتقول لي: "أتركيه وشأنه! ما بالكِ تختلقين المشاكل معه دائمًا؟ أتريدينه أن يرحَل ويجدُ عائلة أقلّ مشاكل منّا؟!؟ أتركيه وشأنه!!!". نظرتُ إليها باندهاش، فكيف لها أن تقبَل أنّ رجُلًا ناضجًا يجلسُ طوال النهار بلباس النوم وعلى الأريكة، بينما زوجته تقتل نفسها بالعمَل؟ للحقيقة أسِفتُ على نفسي وحظّي مع الرجال، وبدأتُ أُراجعُ ذكرياتي منذ تعرّفتُ إلى باسل، لأعرِف أين أخطأتُ بالتحديد، فوجدتُ أنّ ما مِن شيء كان يدلّ على كسَله واتّكاله عليّ. لكن كيف تزوّجتُ أفشَل رجُلَين في العالَم؟!؟ هل لأنّني أخبَرتُ باسل بما حصل مع زوجي الأوّل؟
بقيَ الجوّ مُحتقنًا في البيت وصرتُ الانسانة غير المرغوب بها، لِذا سمحتُ لابنتي أن تُجالِس ابنة الجيران الصغيرة في فرصة نهاية الأسبوع وبعد أن تُنهي دروسها. بهذه الطريقة أكون قد لبَّيتُ طلبَها وأبقَيتها في بيئة سليمة. لكن، مع مرور الوقت، لَم أرَها تشتري شيئًا مِن المال الذي جنَته، بل لاحظتُ أنّ زوجي صارَت له ساعة جديدة. مِن أين جاء بتلك الساعة؟ وفهمتُ ما يجري! نادَيتُ ابنتي وطلَبتُ منها أنّ تريني إمّا المال الذي جنَته إمّا الذي اشترَته به. وبعد شجار حادّ اعترفَت أنّها أهدَت باسل ساعة باهظة الثمَن، على الأقلّ بالنسبة لمُراهِقة. جنّ جنوني، لكنّني عدتُ وحافظتُ على هدوئي لأعرِف السبب، فأجابَتني أنّه طلَبَ منها ذلك، أو بالأخصّ طلَبَ منها أن تعمَل لتأتي له بساعة جديدة وأمور أخرى. ماذا؟!؟ يُريدُ استغلال بناتي أيضًا؟!؟ أجبَرتُ ابنتي على التوقّف عن مُجالسة ابنة الجيران بعد أن شرحتُ لها أنّني لن أسمَح لأحد مِن بناتي بالصرف على رجُل ناضج، وهي نعتَتني مُجدّدًا بالبخيلة. فهمتُ عندها أنّ تلك العبارة سمِعَتها مِن فَم باسل، الذي لا بدّ أنّه ملأ رأسها بالعديد مِن الأمور أثناء وجودي في عمَلي. رحتُ إليه وطلبتُ منه أن يتصرّف بسرعة، لأنّني لن أتحمّل تلك الحالة طويلًا، وإن هو لَم يتدبّر أمره، فسأتركه. ضحِكَ باسل في وجهي ونادى بناتي وقال لهنّ: "أمّكنّ تريدُ تركي إن لَم أجِد عمَلًا... سأرحل قريبًا يا حبيباتي... الوداع!". وبدأ النحيب والصراخ، ولَم أستطِع إسكات بناتي إلّا عندما قلتُ لهنّ إنّني كنتُ أمزَح. يا إلهي... يا للمصيبة!
قرّرتُ بعد ذلك أن أمضي وبناتي العطلة الصيفيّة عند أهلي في الجبَل، وطلبتُ من باسل البقاء في البيت:
ـ إسمَع... أعرفُ تمامًا ما تفعله... ولن أسمَح لكَ أو لأحَد بأخذ بناتي منّي... ستبقى هنا لوحدكَ وإيّاكَ أن تستعمِل البنات ضديّ أو تقنعهنّ بالبقاء معكَ، وإلا سأتصرّف بطريقة صارِمة ونهائيّة، ولستُ أمزَح! سأقولُ لهنّ إنّكَ مشغول لبعض الوقت هنا وإنّكَ ستوافينا في الجبَل بعد فترة. فلقد سئمتُ منكَ ولَم أعُد أكنّ لكَ أيّ اعتبار أو احترام، فأنتَ لا تُمثِّل على الاطلاق الرجُل الذي أريدُه في حياتي. إن كنتَ تريدُ أن تعيشَ معنا لوقت طويل وأن أصرفَ عليكَ، إفعَل ما أطلبه منكَ وحسب!
كذبتُ عليه، فكنتُ أريدُ تطليقه في كلّ الأحوال، لكنّني كنتُ بحاجة إلى استعادة حبّ واحترام بناتي لي أثناء تلك العطلة وإلّا فقدتُهنّ. وصَلنا الجبَل وكانت بناتي مُستاءات لبقاء باسل في المدينة، لكن بمُساعدة أهلي الذين علِموا بالذي يجري وأريدُ فعله، سرعان ما بدأَت البنات بالاستمتاع بالعطلة. فلقد قمنا معًا بنشاطات عديدة كصناعة الحلوى، ورسَمنا على القماش والزجاج وأطعَمنا الحيوانات. ويومًا بعد يوم، عُدنا كالسابق، عائلة مُتّحِدة وسعيدة. فلقد أرَيتُهنّ أنّ حياتنا مع باسل ليست مثاليّة بل مُضِرّة. وبعد أن سألنَ عنه في الفترة الأولى، لَم يعُد يُذكَر اسمه إلا نادرًا. وذات مساء دخلتُ غرفة البنات وقلتُ لهنّ:
ـ لستُ سعيدة مع باسل... ولَم أكن سعيدة مع أبيكنّ... ولي الحقّ أن أسعَد وأرتاح. هو ليس أباكنّ ولن يُحبّكنّ بقدري أبدًا، بل يستفيدُ منكنّ ويُهدّدني بأخذكنّ منّي... لقد تعِبتُ كثيرًا في حياتي مِن أجلكنّ، ولن أسمَح لأحد بأن يأخذ تعَبي بمُجرّد أنّه لعِبَ بعقولكنّ وصوّرَني أمامكنّ وكأنّني طاغية وبخيلة. أرأيتنّ حياتنا هنا سويًّا؟ أليست جميلة؟ هكذا كنّا نعيشُ قبل باسل وهكذا سنعيشُ بعد باسل. أنا آسفة أنّني أدخلتُه إلى حياتي وحياتكنّ، كانت غلطة كبيرة، لكنّني خلتُه رجُلًا حقيقيًّا. سأتركه قريبًا وأنا بحاجة لدعمكنّ وحبّكنّ، فأنتنّ سنَدي الوحيد في الحياة.
كنتُ في تلك الأثناء قد اتّصلتُ بالمُحامي، الذي أرسَلَ لباسل دعوى الطلاق وأمرَه بإخلاء البيت. لِذا، حين عُدنا مِن العُطلة، كان زوجي قد رحَلَ. ولأنّهنّ اعتَدنَ على غيابه حين كنّ في الجبَل، لَم ترَ بناتي فرقًا كبيرًا بل حزِنَّ قليلًا.
طلّقتُ زوجي أخيرًا وارتاحَ قلبي، خاصّة بعد أن علِمتُ مِن ابنتي الكبرى أنّه كلّمها عن شاب ميسور وبدأ يُقنعها بالزواج منه، طبعًا بشرط أن تُخصّصه بمعاش شهريّ بعد زواجها. يا للماكِر! كَم ارتَحنا منه!
لا أجرؤ على تخيّل ما كان سيحصل لو هو بقيَ بيننا! على كلّ الأحوال لَم يَفطن باسل لأمر مُهمّ: الشعور بالأمومة، وهو أمر لن يعرفه يومًا أيّ رجُل، ولن يعرف مدى قوّته وما بإمكان الأمّ أن تفعل مِن أجل صغارها لحمايتهم مِن وحش ضار كذلك الزوج الفاشِل! لا يا أستاذ! لَم تضرِب هذا الحساب!
حاورتها بولا جهشان