شرّ أمّي وكرهها للبنات كاد أن يقضي عليّ...

لا أدري لأي سبب غامض ولكن أمّي لم تكن تحب البنات. ورغم هذا البغض، أرسلَ لها القدر ثلاث بنات وصبيّ واحد. فحَظِيَ أخي شادي بكل الإهتمام العاطفي والمالي والعلمي، أمّا نحن البنات، فكنّا بمثابة خدم عند تلك المرأة المجردّة من أي عاطفة.
لم أدخل المدرسة ولكن بعدما رأى أبي مدى قساوة أمّي عليّ، إستطاع رغم ضعفه أمامها، تغيير رأيها بعض الشيء بما يخص أخواتي الصغار. قمتُ بجميع الأعمال المنزليّة، إضافة إلى تربية من هم أصغر منّي، حتى أنّهم كانوا ينادونني سرّاً "ماما". كنتُ أنتظر أخوتي حتى يعودوا من المدرسة لأتعلّم ما تعلّموه معهم وهكذا أصبحتُ أقرأ وأكتب بطلاقة ولكنني جعلتهم يقسمون ألا يخبروا أحداً، خوفاً من أن تمنعني أمّي من الجلوس معهم وقت الدرس.
كنتُ أذهب إلى المكتبة وأشتري القصص وأخبّئها عند صديقة لي وعندما كنتُ أذهب لأزورها، كنتُ أجلس تحت السلّمها وأقرأ قدر المستطاع ثم أعيد لها الكتاب. ولأنني كنتُ أشعر دائماً أنني وحيدة، رغم عائلتي الكبيرة، بدأتُ أكتب يوميّاتي على دفتر صغير، أضعه في علبة حديد في أعلى الخزانة حيث لا تستطيع أمّي إيجاده، لأنّها لم تكن طويلة القامة ولأنّها لم تكن ترتبّ شيئاً في البيت. ولماذا تفعل؟ فكان لديها ثلاثة عاملات لتقوم بهذا.
أبي للأسف، لم يكن يتحلّى بشخصيّة قويّة وكان تحت وطأة زوجته ولكنّه كان حنوناً وكان يلعب معنا ويروي لنا القصص من حين لآخر عندما نكون وحدنا في البيت، فبالنسبة لوالدتي الدلع المفرط ليس جيّداً للأولاد إلا لأخي، فكان الوحيد الذي كان مسموحاً له أن يحظى بالحب والإهتمام. ومضَت الأيّام وبدأت أخواتي تتزوّج الواحدة تلو الأخرى للهروب من هذا البيت الجاف والقاسي. أما أنا، فبقيتُ لأخدم أخي وألبّي طلباته الكثيرة والمتنّوعة. دخلَ الجامعة والمصاريف أصبحَت كثيرة، لذا قرّرت أمّي أنّ عليّ العمل لدفع أقساطه، فبعثَت بي إلى إبن عمّها لأعمل في محل الألبسة الذي كان يملكه. لا أدري ما الذي قالته له ولكنّه لم يعاملني جيّداً وكوني قريبته لم يؤثّر على تعاطيه معي، بل بالعكس كان هو الآخر يرى فيّ مخلوقة لا تستاهل الإحترام. جعلني أعمل ساعات طويلة على ماكينات الخياطة وكنتُ أبقى بعد الدوام لأنهي ما تركته لي زميلاتي. ولكثرة العمل، أصبتُ بأوجاع عديدة في رقبتي وكتفيّ وأصابني إكتئاب عميق. لم تعد لي أيّ رغبة بالعيش، فحياتي كانت كلّها مأساة وتعب.
وفي ذات صباح لم أستيقظ. وبعد أن اخذوني إلى المستشفى وإستطاعوا إخراجي من نوميَ العميق وصفوا لي الراحة التامة ما أغضبَ أمّي كثيراً، فبدأت تصرخ بوجه الطبيب. فقال لها:

- سيّدتي إن لم ترتاح إبنتكِ فستموت... أيّ أم تقبل أن تكون سبباً في موت إبنتها؟

عندها وخوفاً من رأي الناس، قبِلَت والدتي أن أترك العمل وأبقى في البيت. ولكنّها نبهتّني أن هذا الوضع لن يستمرّ طويلاً وأنني سأعود إلى المعمل حين يتحسّن وضعي.

وعندما علمتُ أنّها لن تتركني وشأني وستستغلّني حتى آخر رمق، أخذتُ قراراً غيّر حياتي وفعلتُ ما لم أتخيّل يوماً أنني أستطيع فعله: هربتُ من البيت. قبل رحيلي، كنتُ قد أخبرتُ أبي بنويايَ وبعد أن إبتسم لي، إمتلأت عيونه بالدموع وقال لي:

- سأشتاق إليكِ... لطالما كنتِ المفضلّة لديّ... يا ليتني لم أكن هكذا... سأعطيكِ عنوان قريب لي في العاصمة وسأتكلّم معه. إذهبي إليه ولا تخافي، فهو إنسان شريف. يسكن وحده في شقّة كبيرة بعدما توفّت زوجته وتركته من دون ذريّة. سأطلب منه أن يستقبلكِ مقابل مساعدتكِ له. أعلم أنّكِ ستعتنين به جيّداً... سامحيني...

وقبّلني بحرارة. وفي الصباح الباكر ،جاء والدي إلى غرفتي وقال لي أنّ كل شيء جاهز وأنني أستطيع الرحيل. أعطاني بعض المال كان قد وضعه جانباً ورحلتُ بعد منتصف الليل حين كان الكل نائماً. كان العم إبراهيم في إنتظاري وعندما فتح لي الباب قال لي:

- كم أنّكِ تشبهين والدكِ... أدخلي... غرفتكِ جاهزة... هناك بعض الأكل في الثلاجة. تصبحين على خير.

دخلتُ الغرفة بعد أن تمتمتُ "شكراً" وأقفلتُ الباب ورائي بالمفتاح. نظرتُ من حولي وأعجبني الأثاث، فكان يدلّ على ذوق رفيع. نمتُ نوماً عميقاً ولم أستيقظ إلا عند الساعة العاشرة صباحاً. قمتُ بسرعة وخرجتُ لأجد الرجل جالساً على الشرفة، يشرب القهوة ويقرأ الجريدة. ألقى عليّ التحيّة وسألني إن كنتُ قد نمتُ جيّداً وبعد أن طرَحَ بضعة أسئلة قال لي:

- ما أريده منكِ هو أن تهتمّي بالمنزل وكأنّه منزلكِ. طلباتي قليلة وآكل من كل شيء. أريدكِ رفيقة وليس خادمة. وإن حصل يوماً وقلّلتُ من إحترامي لكِ أرجو منكِ أن توبّخيني. ولكن لن يحصل هذا أبداً.

وبداتُ بالعمل وكنتُ سعيدة. لم يكن هناك الكثير لأفعله وكنتُ أقضي معظم وقتي أقرأ في الكتب الموجودة في مكتبة صاحب البيت. وفي المساء كنّا نجلس ونتكلّم عن الأدب والمبدعين ويروي لي قصصاً عن حياته أو حياة الناس الذين عرفهم. وبعد أن مرّت حوالي خمس سنوات وبلغتُ الثلاثين من عمري، قرّر هذا الرجل الطيّب أن عليّ أن أتزوّج. في البدء رفضتُ بقوّة ولكنّه أصرّ كثيراً وعرّفني إلى يوسف، رجل وصفه بأنّه مناسب لي، كونه مثقّف ومتواضع. بدأتُ أتواعد معه ووجدتُ أنّ العم إبراهيم على حق وأنّ يوسف فعلاً إنسان طيّب ومحبّ. وتزوّجنا ولم أدعو أهلي إلى زفافي، لكنني أخبرتُ أبي وحظيتُ ببركته. وأعطاني العم إبراهيم مبلغاً من المال كي أبدأ حياتي الجديدة برخاء، مع أنّ يوسف كان يجني مالاً كافياً من عمله كمحاسب. لم أترك عملي عند العجوز ولكنني كنتُ أعود إلى البيت في المساء لأكون مع زوجي. وأنجبتُ صبيّاً أسميته إبراهيم ثم فتاة إسمها حنان. وعدتُ نفسي ألا أتحيّز لأيّ منهما وأن أربيهما تربية متساوية.

وبعد سنة تقريباً، توفيَ العم إبراهيم في سريره، تاركاً لي مبلغاً كبيراً من المال وجميع كتبه. وفي السنة التالية، مات أبي وحزنتُ كثيراً لأنني كنتُ أحبّه من كل قلبي ولأنّه رغم سكوته لسنين طويلة، كان السبب في خروجي من الدوّامة اللعينة التي سجنتني بها أمّي. أمّا هي، فما زالَت على قيد الحياة ولكي لا تبقى وحيدة بعد وفاة أبي وزواج أخي، أقنعَت إحدى أخواتي على ترك زوجها والعيش معها. ليكن الله في عونها!

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button