شبَح أختي...

لَم أترُك عايدة أختي طيلة فترة مرضها، بل بقيتُ إلى جانبها وكأنّنا لا نزال سويًّا في بيت أهلنا. فهي كانت قد تزوّجَت مِن وسام، الشاب نفسه الذي أحبَّته منذ مُراهقتها، إلا أنّها أُصيبَت بداء السرطان الذي تفشّى في أنحاء جسمها. كان الأطبّاء قد حذّرونا مِن أنّها لن تشفى بل أنّ أيّامها معدودة. بكينا كلّنا كثيرًا، فكيف لإمرأة شابّة أن تُغادر الحياة بهذه السرعة؟ وماذا عن المسكين جاد، إبنها، الذي لَم يبلغ الثانية مِن عمره بعد؟ وزوجها المُتيَّم؟ أمّا المُصيبة الكبرى فكانت ستحلُّ على والدتنا التي شقيَت مِن أجل تربيتنا بعد موت أبينا وتعلّقَت بنا لأقصى درجة.

... وأخَذَ الله أمانته وارتاحَت أختي مِن أوجاعها التي صارَت لا تُحتمَل. أقَمنا مراسِم الدفن وعادَ كلّ منّا إلى داره باكيًا.

لَم أتوقّف عن زيارة بيت أختي بعد مماتها للإهتمام بِجاد وتحضير الطعام له ولأبيه، وأُغادر فور وصول وسام تفاديًا لكلام الناس. أظنُّ أنّ وجودي أعطى صهري وابنه شعورًا بأنّ عايدة لا تزال موجودة ولو بشكل غير مُباشَر.

مرَّت حوالي سنة على هذا النحو، ووجدتُ عملاً في إحدى الشركات فصِرتُ أقصدُ بيت أختي مساءً. كان قد دخَلَ إبنها المدرسة ويبقى مع والدتي بعد انتهاء الدوام، إلى أن أمرُّ عند مغادرتي عمَلي لآخذه إلى بيته. عندها، كنتُ أُعطيه حمّامه وأجولُ في المكان لأُرتّبه وأُحضّر العشاء. ثمّ أُغادرُ بعدما أطمئنّ على رجوع وسام الذي لَم يكفّ عن شكري على الذي أفعلُه مِن أجلهما. وذات مساء، قال لي صهري:

 

ـ عليّ أن أُطلعَكِ على أمر مهمّ... لقد تعرّفتُ إلى صبيّة وأظنّ أنّها مُناسبة لي. لا تغضبي منّي أرجوكِ، فأنا رجُل والرّجال لا يُحسنون العيش مِن دون رفيقة. لا تظنّي أنّني نسيتُ عايدة، أو أنّ حبّي لها خفَّ ولو بعض الشيء... إنّها فقط مسألة وجود أنثى إلى جانبي وفي بيتي.

 

ـ أتفهّم الأمر يا وسام وهذا مِن حقّكَ. لكن ماذا عن جاد؟ هل تلك الصبيّة ستكون أمًّا بديلة صالحة له أم أنّها ستُسيء معاملته؟

 

ـ لن أسمحَ لأيٍّ كان أن يلمسَ شعرة مِن رأسه أو يُوجّهَ له ملاحظة مهما كانت صغيرة، لا تخافي. فهو كلّ ما تبقّى لي مِن عايدة. ولا أقولُ ذلك لأُطمئنَكِ، بل أقصدُ كلّ كلمة أتفوّه بها. وإن وجدتِ يومًا أنّني كذبتُ عليكِ، فأُعطيكِ الحَقّ بأخذ ولدي منّي.

 

ـ أدعو لكَ بالتوفيق يا وسام وسأكون لكَ بالمرصاد، لا تخَف!

 

قلتُ تلك الجملة الأخيرة وكأنّها مزحة إلا أنّني عنَيتُها حقًّا. وبعد حوالي الستّة أشهر، تزوَّجَ صهري بعد أن عرّفَنا إلى تلك الصبيّة التي وجدناها لطيفة للغاية.

 

مرَّت الأيّام والأشهر والسّنة، واطمأنّ بالي على صهري وخاصّة على جاد، فاستطعتُ أخيرًا التفكير بحياة عاطفيّة خاصّة بي. وشاءَت الأقدار أن أتعرّف إلى طبيب يوم أُصِبتُ بوعكة صحّيّة. أحبَبنا بعضنا مِن النظرة الأولى، وبعد فترة مواعدة إتّفقنا أن نتزوّج. كانت الحياة قد قرَّرت أخيرًا أن تُعطي لكلّ منّا بعض السعادة بعد المأساة والتعَب اللذين مرَرنا جميعًا به.

إلا أنّ أمورًا غريبة بدأَت تحصل في بيت صهري.

 


فذات يوم، وخلال إحدى زياراتي لإبن أختي، قال لي "صغيري" كما كنتُ قد أسمَيتُه منذ موت أمّه:

 

ـ خالتي... هل الأموات يعودون؟

 

ـ يعودون؟ إلى أين يا حبيبي؟

 

ـ إلينا.

 

ـ لا يا صغيري... بعدما يرحلون مِن هذه الدنيا، يستقبلُهم الله في ملكوته. هناك يعيشون في سعادة مُطلقة في كنف الخالق. لماذا تسأل؟

 

سكَتَ جاد لدقيقة طويلة ثمّ تابَعَ:

 

ـ تأتي أمّي إلى البيت بين الحين والآخر... ليلاً... وترحلُ في الصباح.

 

كادَ قلبي أن يتوقّف عن الخفقان لدى سماعي ولدًا صغيرًا يتكلّمُ هكذا. سألتُه وأنا أُحاولُ الحفاظ على هدوئي:

 

ـ أنتَ تعلَم جيّدًا أنّ الكذب هو أمرٌ غير مقبول، أليس كذلك يا حبيبي؟

 

ـ أجل يا خالتي، وأنا لا أكذب! إسألي أبي!

 

ماذا؟!؟ وهل كان وسام يرى عايدة هو الآخر؟!؟ لَم أشأ إفزاع الصغير بأسئلة اضافيّة، مُفضّلةً التقصّي عن الأمر عند صهري.

رحتُ على الفور إلى وسام الجالس مع زوجته في الصالون، وطلبتُ منه الإذن بالتكلّم معه على انفراد بمسألة هامّة، وهو وافاني على الشرفة. عندها أخبرتُه أنّ إبنه قال لي إنّ امّه، أو بالأحرى روحها، تزورُ البيت ليلاً. وهو أجابَني:

 

ـ إنّه ولد صغير... كيف تُصدّقين أقوالاً كهذه؟ لا بّد أنّه اشتاقَ لأمّه فتراءَت له تلك الأمور.

 

ـ لقد طمأنتَني يا وسام... لكن... لماذا طلَب منّي التأكّد مِن روايته منكَ؟

 

ـ مَن يدري كيف يُفكّر الأطفال؟ لا تُشغلي بالكِ بالأمر، سينسى جاد كلّ ذلك حين يولَد أخوه.

 

ـ زوجتكَ حامل؟ ألف مبروك!

 

ـ أجل، هي حامل.

 

كان وسام قد قال تلك الجملة الأخيرة مِن دون حماس، أو هكذا ظننتُ. تركتُ المكان فرِحة ، فكان لا بّد لصغيري أن يخرجَ مِن وحدته، ومجيء أخ له قد يُموّه عنه.

أطلعتُ خطيبي على حديثي مع إبن أختي، وهو قال لي إنّ بعض الأولاد يخلقون لأنفسهم أصدقاء وهميّين أو يرون أشياء غريبة. لكن أن يرى جاد أمّه، فهذه دلالة على بداية مشاكل نفسيّة. وطلَبَ منّي مُراقبة الوضع، خاصّة بعد مجيء أخيه إلى الدنيا آملاً أنّ ذلك الحدَث سيمحو مِن رأسه هذه الرؤيا.

وُلِدَ إبن وسام وسط فرحة عائلتي التي اعتبرَت زوجة وسام وكأنّها إبنتهم، ورحنا نُبارك لهما. عندها أيضًا لَم أشعر بأيّ حماس لدى صهري، بل كان الأمر وكأنّه واقع في ورطة ما. سألتُه عن سبب قلّة فرحته لولادة إبنه فأجابَني: "حصَلَ ذلك عن طريق الخطأ... لَم أرِد هذا الطفل... لكنّه هنا الآن وماذا عساني أفعَل حيال ذلك؟".

حزنتُ لدى سماعي ذلك، وأسفتُ للطفل وأمّه آملةً بأن تتغيّر نظرة وسام للمولود الجديد وتستيقظ فيه عاطفته. أمّا بالنسبة لِجاد، فكان سعيدًا للغاية وينظرُ إلى أخيه وكأنّه لعبة جديدة. أخذتُه جانبًا وقلت له:

 

ـ الآن صارَ لدَيكَ رفيق لعب وتسلية، أنتَ لَم تعُد وحيدًا... ولَم تعُد بحاجة إلى تصوّر زيارة أمّكَ لكَ.

 

ـ هي لا تزورُني أنا، بل أبي.

 

ـ أنتَ قلتَ لي...

 

ـ إنّها تزورُ البيت.

 

ـ ألَم ترَها بنفسكَ؟

 


ـ لا يا خالتي... بل أرى أبي وهو يتحدّث معها ليلاً. وحين سألتُه في إحدى المرّات مع مَن يتكلّم وهو لوحده في الصالون، أجابَ أنّ أمّي معه وهما يتكلّمان عن أمور عديدة ومنها أنا.

 

ـ وماذا تفعلُ ليلاً خارج سريركَ يا حبيبي؟

 

ـ في المرّة الأولى إستفقتُ لأقصد الحمّام، ومِن ثمّ صرتُ أختبئ خلف الحائط لأستمِع لِما يقوله أبي لأمّي، فأنا غير قادر على سماعها أو رؤيتها بل فقط والدي.

 

ـ إسمَع... سأعرفُ المزيد عن الموضوع وأخبرُكَ بِما أجده... لكن أستطيع أن أوّكد لكَ أنّ الأموات لا يعودون.

 

ـ ما بكِ ترفضين فكرة عودة أمّي إلى البيت؟ ألا تُحبّينها؟!؟

 

ـ بلى يا حبيبي لكن...

 

ـ أكرهُكِ! لا أُريدُ رؤيتكِ بعد الآن!

 

وذهبَ جاد ركضًا يبكي في غرفته. كنتُ قد أخطأتُ بالتعامل مع الأمر وبدوتُ وكأنّني عدوّته. كلّ قصدي كان ألا يُصدّقَ قصص الأشباح ليُحافظ على توازنه النفسيّ. أمّا بالنسبة لوسام، فكان مِن الواضح أنّه في حالة أفقدَته تمييزه بين الواقع والتمنّي. ألهذه الدرجة هو أحبَّ عايدة؟

أطلعتُ خطيبي الطبيب على ما علِمتُه، وهو اقترَحَ أن يرى وسام مُعالِجًا نفسيًّا، لكن كيف لي أن أقول لصهري أنّه يفقدُ صوابه؟!؟ فقرّرتُ إنتظار الفرصَة المُناسبة لذلك.

في هذه الأثناء، إقترَبَ موعد زواجي فانشغلتُ طبعًا بالتحضيرات التي كانت أمورًا ذات أولويّة لدَيّ.

وفي تلك الفترة بالذات، تفاقَمَ الوضع في بيت وسام، إذ أنّ زوجته انتبهَت أخيرًا إلى ما يجري لأنّها صارَت تستفيقُ ليلاً مِن أجل إبنها. وقَعَ بينها وبين زوجها جدال كبير، إذ أنّها لَم تستوعِب كيف أنّه جالس مع عايدة التي، وحسب قوله، تأتي لرؤيته كلّ ليلة. في الصباح الباكر، إتّصلَت بي زوجة وسام طالبةً منّي المجيء بأسرع وقت. هي لَم تُعطِني أيّ تفاصيل، فظننتُ طبعًا أنّ مكروهًا حصل، فركضتُ إليها كالمجنونة.

وجدتُ المرأة جالسة في المطبخ تبكي، ووسام في الصالون بحالة هدوء تام لِدرجة أنّه كان يبتسم لكثرة سروره. دخلتُ المطبخ فروَت لي الزوجة ما اكتشفَته قبل ساعات قليلة. وعدتُها بالتكلّم ووسام على الفور. وهذا ما فعلتُه. وهو قال لي:

 

ـ لقد حاولتُ، بالفعل حاولتُ البدء مِن جديد. لكنّها لا تُريدُني أن أسعَد مِن دونها.

 

ـ مَن هي التي تتكلّم عنها؟

 

ـ عايدة طبعًا. تُريدُني لها وليس لغَيرها. هي قالَت لي ذلك بنفسها. وعدتُها بتطليق زوجتي إلا أنّ تلك الأخيرة حمِلَت بطفل. ما عساني أفعل؟!؟

 

ـ وسام... عايدة ماتَت، وهي في دنيا الحقّ الآن... إنّكَ تتخايل أمورًا لا وجود لها.

 

ـ أسكتي! وتدّعين أنّكِ تُحبّين أختكِ؟!؟ عليكِ أن تفرحي لأنّها لا تزال بيننا! أيّ أخت أنتِ؟

 

ـ عليكَ أن ترى طبيبًا يا وسام. فكِّر بإبنكَ... هو يظنُّ حقًّا أنّ أمّه تزورُ البيت.

 

ـ وهو على حقّ!

 

ـ وماذا عن زوجتكَ وإبنكَ الثاني؟

 

ـ ليرحلا مِن هنا! هذا بيت عايدة ولا مكان لهما فيه! هذا ما طلبَته منّي وأنا لَم أرفُض لها طلبًا يومًا.

 

ـ حسنًا... وهل تسمحُ لي بالبقاء معكَ وجاد بعد رحيل زوجتكَ وإبنها؟ فأنا الأخرى أريدُ رؤية عايدة والتكلّم معها... أحبُّها كثيرًا وأنتَ تعلَم ذلك يا وسام.

 

ـ سنرى

 

كنتُ قد قلتُ ذلك مِن كثرة خوفي على إبن اختي. وافقَ خطيبي على تأجيل الزفاف إلى حين أجدُ حلاً للذي يجري. طلبتُ مِن زوجة وسام الرحيل مع الولَد، فمَن يدري ما بإمكان زوجها أن يفعله بهما لو "طلبَت منه عايدة التخلّص منهما؟".

سكنتُ عند وسام وشاهدتُ كيف أنّه يقضي المساء والليل "بصحبة" عايدة، وكيف أنّه يُخبرُها عن نهاره وأمور إبنها والبيت وعن مدى حبّه لها الذي لا حدود لها. للصراحة، هو أبكاني، أوّلاً لأنّه كان في حالة نفسيّة يُرثى لها، وثانيًا لأنّ حبًّا كهذا صعب الإيجاد في أيّامنا هذه، وأعترفُ أنّني شعرتُ ببعض الغيرة.

وأمام رفض وسام مُجدّدًا رؤية مُختصّ، عرضتُ عليه أن آخذ ابنه:

 

ـ إسمَع يا وسام... لِما لا آخذ إبنكَ إلى بيتي الجديد ليُسلّيني؟ ولقد بدأَت الفرصة الصيفيّة وهو يملُّ لوحده في البيت بعد رحيل زوجتكَ وإبنها. إضافة إلى ذلك، أنتَ بحاجة إلى بعض الخصوصيّة مع عايدة، أليس كذلك؟

 

ـ قد تكونين على حقّ. ماذا لو أرادَت عايدة رؤية إبنها؟

 

ـ بإمكنها زيارته في بيتي.

 

أخذتُ "صغيري" إلى بيت أهلي وارتحتُ لفكرة بُعده عن أبيه. وفي حال طالبَني وسام بعودته، سأختلقُ له أعذارًا أخرى.

للحقيقة، لَم يُطالبني صهري بإبنه بل غاصَ في خياله مُستمتعًا بوجود زوجته الراحلة لدرجة أنّه أهمَلَ عمله وفقدَه. عندها صارَ يقضي وقته كلّه مع عايدة. كنتُ قد تزوّجتُ وصرتُ أزورُ وسام مع زوجي لتفقّده وإحضار الأطباق المطبوخة له.

مع الوقت، ساءَت حالة وسام العقليّة والجسديّة، لدرجة أنّه لَم يُقاوِم عندما نقلناه إلى المشفى ومِن ثمّ إلى المصحّة.

لزِمَ لصهري حوالي الثلاث سنوات مِن المُعالجة النفسيّة وتناول العقاقير ليستطيع العودة إلى بيته. بعد سنة إضافيّة، وجَدَ وسام عملاً واطمأنّ بالي عليه وعلى جاد أخيرًا.

لكن أحيانًا، عندما أزورُ بيت وسام وأجلسُ معه، أشعرُ أنّه يُحدّقُ في إحدى زوايا الصالون وكأنّ أحدًا واقفٌ هناك، ثمّ يعودُ ويُكمِلُ حديثه معي. هل شفى صهري كليًّا أم لا؟ وحده الزمن قادرٌ على إعطائي الجواب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button