سَفرةٌ وهميّة

إن كنتُ اليوم طبيب أعصاب، فالفضل يعودُ إلى هذَين الرجُلَين اللذَين أثّرا فيّ بقدر كبير وفتحا عَينَيّ على هشاشة الإنسان وعقله. كنتُ فتيًّا حين تعرّفتُ إلى كريم وجليل... وجنونهما.

قبل سنة مِن وقوع الأحداث، ضجَّت البلدة بعودة أخَوين كانا قد سافرا قبل أربعين سنة إلى القارّة الأميركيّة ليتعلًما هناك طبّ الأسنان. زاولا مهنتهما خلال كلّ تلك السنوات ببراعة، وحين كبرا في السنّ قرّرا أخيرًا العودة إلى الوطن وإلى مسقط رأسهما بالتحديد. فرِحَ أهل البلدة كثيرًا، فكان علينا قصد المدينة لمعالجة أسناننا وبتكاليف باهظة. إستقبَلَ الجميع كريم وجليل ببهجة عارمة، وصارَ السكّان يقصدون العيادة التي جهّزَها الأخان في بيتهما الجميل والكبير.

واغتنَمَ أبي تلك الفرصة الذهبيّة لِفحص أسنانه ومُعالجة ما يلزم منها، فرافقتُه بناءً على طلبه لأنّني كنتُ أخافُ مِن أطبّاء الأسنان.

أدخلَنا الدكتور كريم إلى العيادة بينما كان جليل مشغولاً بزبون آخر. للحقيقة، شعرتُ بارتياح كبير في ذلك المكان النظيف والمُجهّز والمُضاء بمصابيح عديدة، ولَم يبدُ لي أنّ والدي تألّمَ خلال مُعالجة أسنانه. لِذا تشجّعتُ وقبلتُ أن آتي بدوري بعد أسبوع لبدء سلسلة طويلة مِن التصليحات لأسنان في حالة يُرثى لها. في البداية رافقَني والدي الذي أخَذَ في كلّ مرّة إجازة مِن عمله، فالطبيبان لا يستقبلان الزبائن سوى خلال فترة النهار. إلا أنّنا كنّا قد دخلنا في فصل الشتاء وصارَت فترات النهار أقصر مِن قبل. طلبتُ مِن والدي الكَفّ عن أخذ الإجازات بسببي، إذ أنّني كنتُ في الخامسة عشرة مِن عمري وقادرًا تمامًا على الذهاب لوحدي إلى العيادة التي كانت قريبة مِن بيتنا. وهو قَبِلَ معي مُكتفيًا بالقول: "إيّاكَ أن تتأخّر عن موعدكَ يا بُني... إلتزِم بالمواعيد. أفهمتَ ما أقولُه؟ ". إلا أنّني لَم أعِ آنذاك المعنى الحقيقيّ لتلك الجملة. وكيف لي أن أفهَم ما لَم يُطلعِني عليه أحد؟ فلو شرَحَ لي أبي ما قصدَه حقًّا، لجنَّبني كلّ الذي حصَلَ لي مع الطبيبَين.

فذات يوم، دعاني أحد رفاقي إلى تمضية النهار عنده، واستمتَعنا بوقتنا كثيرًا لِدرجة أنّني لَم أشعُر بالوقت وهو يمرّ. هبَطَ الليل حين تذكّرتُ فجأةً أنّ لدَيّ موعدًا عند الدكتور كريم فركضتُ كالمجنون إلى العيادة.

دقَّيتُ الجرس عدّة مرّات قبل أن يفتَح لي الدكتور جليل الذي نظَرَ إليّ بِغضب واضح. قلتُ له:

 


ـ أنا بغاية الخجَل منكَ... أعذرني فلقد نسيتُ موعدي مع أخيكَ... قُل له أن يستقبلَني وإلا غضِبَ منّي والدي.

 

ـ لقد غابَت الشمس!

 

ـ أعلمُ ذلك، لكن أرجوكَ...

 

ـ أدخل... أخي في الداخل يُحضّرُ الحقائب.

 

لَم أسأله عن تلك الحقائب لكنّني كنتُ سأحصل على تفسير مِن دون أن أضطرّ لطرح أيّ استفهام. فقرب الباب مِن جهة الداخل رأيتُ عددًا لا يُحصى مِن الحقائب المفتوحة وكريم مُنهمكًا بوضع الملابس بداخلها. ثمّ نظَرَ إليّ وكأنّه لا يعرفُني وصرَخَ بي:

 

ـ هيّا ساعدني! ما بكَ واقف كالأبله؟!؟ علينا الإسراع إلى المرفأ فالباخرة ستُبحر بعد ساعة!

 

أخذتُ منه بعض الملابس ووضعتُها في إحدى الحقائب ثمّ قلتُ له:

 

ـ هل هذا يعني أنّكَ عائد إلى أمريكا؟ وماذا عن أسناني؟ ألَم يكن عليكَ إخبار زبائنكَ بأنّكَ ستتوقّف عن مُعالجتهم؟

 

ـ مَن أنتَ؟ وهل أعرفُكَ؟

 

ـ مَن أنا؟!؟

 

ـ الباخرة ستُبحرُ وأنتَ تروي لي قصصًا!

 

ثمّ أنضمَّ إلينا جليل وصرنا نوضّب الحقائب بصمت حتى انتهَينا. للحقيقة، لَم أكن مُرتاحًا أبدًا، ليس لأنّ طبيبي راحل، بل لأنّه كان يتصرّفُ وأخوه بطريقة غريبة عجيبة!

بعد ذلك، حمَلَ الطبيبان الحقائب وصارا يمشيان بها في أرجاء البيت. صرختُ بهما:

 

ـ ما الذي تفعلانه؟!؟

 

ـ ألا ترى؟ نمشي إلى الباخرة!

 

علِمتُ طبعًا أنّ الطبيبَين فقدا عقلهما، فالمشهد والحوار كانا يفوقان التصوّر لِدرجة أنّني خلتُ نفسي وسط حلم مُزعج. فتابعتُ:

 

ـ تمشيان إلى أين؟!؟ لا تزالان داخل البيت! ما لذي يجري؟

 

وفور انتهائي مِن كلامي، قفَزَ جليل عليّ صارخًا:

 

ـ تُريدُ منعنا مِن السفر؟!؟ خُذ!

 

وضربَني على رأسي بآلة ما. غبتُ عن الوعي لمدّة لَم أستطِع تحديدها، وعندما استفقتُ وجدتُ نفسي مُقيّدًا في خزانة ما وفي فمي قطعة قماش منعَتني مِن طلَب النجدة.

لن تتخيّلوا حالتي في تلك اللحظة، فلَم أتصوّر أبدًا أنّني سأنجو مِن هذَين المجنونَين! ثمّ سمعتُ صوت الطبيبَين وهما يتحدّثان سويًّا:

 

ـ مِن الجيّد أنّنا أوقفناه عند حدّه وإلا فاتَتنا الباخرة!

 

ـ أجل يا أخي... علينا الإسراع الآن إن أرَدنا السفَر!

 

وعادَت أصداء أقدامهما وهما يجولان في البيت حاملَين حقائبهما. بدأتُ أُصلّي وأستغفرُ ربّي لأشياء صغيرة فعلتُها خلال حياتي القصيرة.

مضى الوقت، كَم بالتحديد لستُ أدري، حين سمعتُ جرَس الباب يرنُّ ومِن ثمّ صوت أبي يسألُ عنّي. صَرَخ كريم عاليًا ومُهدّدًا، فكيف لأبي أن يأتي إليهما وهما في طريقهما إلى المرفأ؟!؟ إستغربتُ أنّ والدي لَم يسألهم إن كانا مُسافرَين وإلى أين، بل قال لهما:

 

ـ أجل، لقد نسيتُ أمر سفركما... هل لي أن أُساعدكما؟ أرى أنّ الحقائب جاهزة.

 

ـ لا، لا، سنتدبّر أمرنا لوحدنا.

 


ـ سأعودُ بعد قليل مع مَن يمكنُه حمل تلك الحقائب العديدة والثقيلة... أو أنّكما تريدان أن تُبحَر الباخرة مِن دونكما؟

 

ـ قد تكون على حقّ... نحن بانتظاركَ.

 

علِمتُ على الفور ما كان ينوي أبي فعله، لكن كيف علِمَ بأمر الباخرة؟ هل كانت هناك فعلاً مِن باخرة وسفَر؟ زحفتُ بشكل مكَّنَني مِن تقريب رجلي نحو باب الخزانة لأركُل بها لدى عودة مُنقذي، وانتظرتُ بِصبر.

بعد فترة قصيرة، رنّ والدي جرس بيت المجنونَين بصحبة أكثر مِن رجل، أو هكذا بدا لي، لستُ أدري. دخَلَ والدي إلى البيت وصارَ يُناديني بصوت خافِت آملاً أن أكون لا أزال قادرًا على سماعه، فمَن يدري ما كان الطبيبان قد فعلا بي؟ بدأتُ أركلُ الباب على مهلي وبشكل مُنتظم حتى علِمَ والدي مِن أين يأتي الصوت، فقال لرفاقه:

 

ـ أوصلا الطبيبَين إلى السيّارة، سأهتمُّ بالحقائب بنفسي.

 

وعندما خرجَ المجنونان مِن البيت، أدارَ أبي مُفتاح الخزانة وفتَحَ الباب ليجدني مقيّدًا. أزالَ القماش مِن فمي وفكَ رباطي بصمت وأمرَني بعدَم التفوّه بكلمة. ومِن ثمّ خرجنا مِن الباب الخلفيّ الذي يطلُّ على الحديقة. عندها، بدأنا بالركض حتى وصلنا البيت. وعندما تأكّدَ والدي مِن أنّني بأمان، عادَ إلى حيث رفاقه. أخبرتُ والدتي عمّا حدَثَ لي وبدأَت أمّي بالبكاء لأنّها كادَت أن تفقد بكرها. ثمّ سألَتني:

 

ـ لِماذا رحتَ العيادة بعد غروب الشمس؟ ألَم يُحذّركَ والدكَ بألا تُغيّر الموعد؟

 

ـ بلى يا ماما ولكن ما أهميّة شروق وغروب الشمس؟

 

ـ كان يجب علينا إخباركَ يا حبيبي... لكن هناك تفاصيل لا ينبغي عليكَ معرفتها في سنّكَ.

 

ـ تفاصيل؟

 

ـ عن سبب جنون الطبيبَين.

 

ـ ماما... ألا تعتقدين أنّ عليّ معرفة سبَب الاعتداء عليّ وحجزي في خزانة؟ ماذا لو متُّ؟

 

ـ حسنًا حبيبي... إسمَع، هناك أمراض يلتقطُها الرجال مِن بعض النساء خلال... أقصد عندما...

 

ـ عندما يُمارسون الجنس؟

 

ـ كيف لكَ أن تعلم بهذه الأمور؟!؟

 

ـ أنا في الخامسة عشرة مِن عمري يا ماما! تابعي.

 

ـ ومِن تلك الأمراض هناك مرَض الزهريّ... وإن لَم يتمّ علاجه بسرعة، قد يُسبّب الجنون. وهذا ما حصَلَ للطبيبَين في أمريكا.

 

ـ وكيف علِمتِ وأبي بالأمر؟

 

ـ مِن الطبيب الذي عاينَهما بعد وصولهما البلد... فهو لاحظَ أنّ الأخَوين يتصرّفان بطريقة غريبة بعد حلول الليل، وشاهَد كيف أنّهما يحزمان حقائبهما ويدوران في البيت طوال المساء. وقرَّر ذلك الطبيب إعلام أهالي البلدة ليتفادوا ما حصَلَ لكَ، إذ يُمكنهما إن يصيرا عدائيَّين إذا اعتبرا أنّ أحدًا يقفُ بينهما وبين سفرَهما. إكتفى أبوكَ بتنبيهكَ بالالتزام بمواعيدكَ عند الطبيب، فهو لَم يرِد فتح موضوع العلاقات الجنسيّة معكَ.

 

ـ وعدَم الصراحة هذا كادَ أن يُكلفّني الكثير. كلّ ما كان عليكما هو أن تُطلعاني على الحياة ومخاطرها.

 

عادَ أبي بعد ساعات، أيّ بعد أن أخَذَ ورفاقه الطبيبَين إلى قسم الشرطة حيث أخبرَهم بما فعلاه بي، وتمّ قيادتهما إلى مصحّة في المدينة المُجاورة. فكان مِن الواضح أنّ الرجلَين يُشكّلان خطرًا على غيرهم، فمَن يدري ما بإمكانهما فعله في المرّة القادمة؟ عانقَني والدي بقوّة وطلَبَ منّي السماح لأنّه لَم يوضِحّ لي حقيقة الوضع، ووعدَني بمُعاملتي ليس كولد بل كرجل بعد ذلك.

تأثّرتُ كثيرًا بتلك الحادثة، وصارَ لدَيّ فضول لمعرفة كيفيّة عمَل العقل.

أمّا بالنسبة لِكريم وجليل، فبقيا في المصّحة حتى آخر أيّامهما. وقبل مماتهما، قمتُ بزيارتهما في المؤسّسة. كنتُ قد دخلتُ الجامعة وأودُّ رؤيتهما مساءً لأرى أين أصبحَت حالتهما. أدخلوني غرفتهما وطلبوا منّي الاحتراس، فأجبتُ القيّمين أنّني أعلَم تمامًا ما ينتظرُني. وبالفعل، كان كريم وجليل، وكعادتهما، يدوران في الغرفة حاملَين حقائب وهميّة بغرَض الذهاب للمرفأ لركوب الباخرة التي ركباها أخيرًا وأخذَتهما عند خالقهما الذي استدعاهُما إليه. وكانت تلك آخر سَفرة لهما.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button