سرّ مُديري

أحبَبتُ عمَلي لدى السيّد نعيم، ليس فقط لأنّ الأجر كان جيّدًا، لكن أوّلاً بسبب طيبة ذلك الرجل وحسن مُعاملته لموظّفيه. كانت مهامي كثيرة ولا تقتصرُ على نسخ ودقّ الرسائل والمُستندات، بل أيضًا الإهتمام بأمور السيّد نعيم التي لا وقت له للقيام بها. على سبيل المثال، رحتُ مرارًا أشتري بالنيابة عنه الهدايا لزوجته وأولاده، فبحسَبِه كنتُ أملكُ ذوقًا رفيعًا وأُجيدُ كتمان الأسرار. وبعد مرور حوالي العشر سنوات على مُساعدة السيّد نعيم، وجدتُ أنّني، وخلافًا لِما إعتقَدتُ، لَم أكن أعرفُه تمام المعرفة. ولا أُخفي عنكم ذهولي وخَيبتي وحزني لما اكتشفتُه ذات يوم.

كان السيّد نعيم قد تغيّبَ بسبب نزلة صدريّة أجبرَته على البقاء في فراشه، فاتّصَلَ بي باكرًا ليُعطيني التعليمات اللازمة لإدارة المكتب إلى حين تتحسّن حالته ويعودُ إليه. دوّنتُ تلك التعليمات وأخبرتُ الموظّفين بما عليهم معرفته وبدأتُ نهاري كالمعتاد.

هل نسيَ السيّد نعيم بسبب وعكته الصحّيّة أنّ هناك ما لا يجب أن أراه؟ لستُ أدري، لكنّني وجدتُ تلك الورقة في قعر درج مكتبه حين أرَدتُ أخذ ختمه لوضعه على مُستنَد مهمّ. في البدء لَم أفهَم جيّدًا ما كان مكتوبًا عليها، إلى حين أدركتُ أنّها تهديد واضح له. فهذا ما كان يُريدُه المُرسِل المجهول: "أعرفُ حقيقتكَ الوسِخة وأُريدُ منكَ ثمَن سكوتي وإلا وجَدتَ نفسكَ وراء القضبان، أيّها القذر! سأتّصلُ بكَ لاحقًا لِنتّفق على المبلغ وكيفيّة تحويلكَ المال لي". كِدتُ أصرخُ مِن كثرة إندهاشي، فمَن كان يُريدُ إيذاء إنسان كالسيّد نعيم الذي لَم يقترِف خطأً واحدًا في حياته؟ أرجَعتُ الورقة إلى مكانها وبقيتُ حزينة طوال النهار. ثمّ عدتُ إلى منزلي وأخبرتُ زوجي بالأمر لأنّه كان الإنسان الوحيد الذي أثقُ به وبحكمته. وهو قال لي بعدما استمَع إليّ جيّدًا:

 

ـ مِن الواضح أنّ ربّ عمَلكِ لدَيه ما يُخيفه، فلَن يُرسل أحد تهديدًا كهذا مِن دون ركيزة. إضافة إلى ذلك، إحتفاظ السيّد نعيم برسالة إبتزاز يعني أنّها جدّيّة.

 


ـ لكنّه إنسان طيّب ونظيف ومؤمِن بربّه وتعاليمه... إنّه يُصلّي ويصومُ ويُساعد المحتاجين!

 

ـ أنتِ الطيّبة يا حبيبتي.

 

ـ ما عليّ فعله الآن؟

 

ـ لاشي، فذلك لا يعنيكِ. دعي رئيسكِ يحلّ مشاكله بنفسه.

 

لَم أنَم جيّدًا في تلك الليلة، وفرِحتُ كثيرًا لدى رؤية السيّد نعيم وراء مكتبه في الصباح. لَم يبدُ لي مريضًا، فاستنتجتُ أنّه إدّعى النزلة الصدرّية بسبب عمليّة الإبتزاز التي هو ضحيّتها. كنتُ أودّ تقديم دعمي له، إلا أنّني تراجعتُ عن ذلك، فلَم يكن مِن المفروض بي أن أعلَمَ بشأن الرسالة.

تفاقمَت حالة السيّد نعيم النفسيّة يومًا بعد يوم، إذ أنّه باتَ كالضائع طوال الوقت وينسى أمورًا مهمّة كنتُ أُذكّرُه بها بسرعة. وذات يوم، طلَبَ منّي دخول مكتبه وإقفال الباب ورائي ليقول لي:

 

ـ سأُسلّمُكِ حاسوبي المحمول لتُبقيه عندكِ في البيت إلى حين أطلبُه منكِ مُجدّدًا... لكن إيّاكِ أن تفتحيه! على كلّ الأحوال، وضعتُ كلمة سرّ عليه لتجنيبكِ إغراء الدّخول في التجربة.

 

ـ لكن سيّدي...

 

ـ خُذي الحاسوب ولا تسألي أيّ سؤال.

 

فعلتُ ما أمرَني به وخبّأتُ الحاسوب حتى عن زوجي للحفاظ على سمعة الذي عاملَني باحترام وعَدل خلال عشر سنوات.

بعد يومَين، دخَلَ المكتب رجال شرطة بلباس مدنيّ، وفتّشوا المكان جيّدًا ثمّ رحلوا فارغي اليدَين. رأيتُ الخجَل على وجه صاحب الشركة والإستهجان على وجوه الموظّفين. وحدي حافظتُ على هدوئي، عالمةً تمام العلم أنّ ما يبحثون عنه هو في بيتي.

وفي اليوم التالي، حين طلَبَ منّي السيّد نعيم إسترجاع حاسوبه، قلتُ له:

 

ـ سيّدي، أكنُّ لكَ فائق الإحترام، إلا أنّكَ مدينٌ لي بتفسير، فأنا خاطرتُ كثيرًا في تخبئة ما جاءَت الشرطة تُفتّش عنه.

 

ـ إنها صدفة بحت... لا دخل للحاسوب بالتفتيش.

 

ـ سيّدي... لقد وجدتُ رسالة الإبتزاز. يُمكنكَ الوثوق بي.

 

أمسَكَ الرجل رأسه بيدَيه وبدأ بالبكاء. لَم اتصوّره باكيًا في حياتي فامتلأ قلبي بالحزن. إنتظرتُ أن يلتقط أنفاسه ويقصّ لي ما يجري، إلا أنّه طلَبَ منّي العودة إلى عملي. وعدتُه بإعادة الحاسوب له في اليوم التالي وخرجتُ مِن مكتبه.

ما لَم يكن يُدركه مُديري، هو أنّني أعرفُ كلمة السرّ التي وضعَها على الحاسوب. فهو، كالعديد مِن الناس، يستعملُها في كلّ حساباته تفاديًا لنسيانها. وسمحتُ لنفسي بفتح الحاسوب ليس بداعي الفضول كما قال لي، بل بالفعل لكثرة إنشغال بالي على الرجل. كنتُ حقًّا أخافُ عليه وأعتبرُه بمثابة أب لي.

 


إنتظرتُ حتى غرِقَ زوجي في النوم لأذهب إلى الصالون مع الحاسوب، وأرى ما في داخله وماذا يُرعِبُ صاحبه إلى هذه الدرجة ويدفع بالشرطة للمجيء إلى مكتبنا. وما وجدتُه أشعرَني بالغثيان، فلقد أقشعرّ بدَني لرؤية الصوَر التي لا تُحصى الموجودة في أحد الملفّات. لا أجدُ الكلمات المُناسبة لوصف خذلاني بالسيّد نعيم وكيف أنّه خبّأ بشكل بارع سواد نفسه. وسألتُ نفسي لماذا هو يتكبّد عناء الصلاة يوميًّا والصوم والزكاة. هل للتكفير عمّا في قلبه؟ لكن مَن يطلبُ مِن ربّه الغفران لا يُعيدُ الكرّة! أغلقتُ الحاسوب بهدوء وعدتُ إلى الفراش.

وبعد ليلة قضَيتُها أفكّرُ بالذي عليّ فعله وقوله، رحتُ إلى المكتب. لَم أقصد السيّد نعيم على الفور، بل صِرتُ أٌراقبُ الموظّفين جيّدًا لأعرف أيًّا منهم بعَثَ رسالة الإبتزاز، فلا بدّ أنّ أحدهم رأى صدفة تلك الصوَر، وإلا كيف علِمَ بسرّ مديرنا ووشى به حين رفَضَ دفع ثمَن سكوته؟ كانت هناك موظّفة واحدة تدخل مؤخّرًا مكتب السيّد نعيم، بعد أن أوكلَها بالعمَل معه على ملفّ مهمّ بسبب إتقانها لغة إضافيّة دون الباقين. فتوجّهتُ نحوها وهمستُ في أذنها: "أعرفُ أنّكِ صاحبة الرسالة... وافيني إلى المطبخ". وفكّرتُ لو كانت حقًّا هي فستوافيني على الفور، وإن كنتُ مُخطئة فهي ستتجاهل ما قلتُه لها مُعتبرةً أنّني مجنونة.

بعد دقائق، دخلَت الموظّفة المطبخ قائلة:

 

ـ ماذا تريدين؟ حصّتكِ؟ هو لَم يدفَع شيئًا!

 

ـ على الإطلاق، أريدُ فقط أن أعرفَ إن كنتُ على حقّ، وأن أسألكِ كيف لكِ أن تفكّري بالإستفادة مِن الذي علِمتِه بدلاً مِن إيجاد طريقة لِردعه عن الذي يفعله.

 

ـ لقد بعثتُ له الشرطة!

 

ـ أجل، لكن ليس بدافع أخلاقيّ بل إنتقامًا منه لعدَم الدفع. أنتِ لستِ أفضل منه يا عزيزتي... إنّكما سيّان! عودي إلى عملكِ قبل أن أفضحكِ، فالإبتزاز هو جرم يُعاقبُ عليه القانون!

 

ثمّ دخلتُ مكتب السيّد نعيم حاملة الحاسوب بِيَدي وقلتُ له:

 

ـ لقد رأيتُ ما في داخله يا سيّدي وبدَّلتُ كلمة السرّ، فليس بإمكانكَ دخوله بعد الآن. على كلّ حال، سيبقى حاسوبكَ معي حتى إشعار آخَر.

 

ـ أنتِ أيضًا تبتزّيني؟

 

ـ لا، بل أُريدُكَ أن ترى طبيبًا نفسيًّا وتشفى. هل اكتفَيتَ بالتفرّج على صوَر فتيان صغار عراة، أم قمتَ بالتحرّش بأحد؟ أجِبني وإلا صرختُ عاليًا!

 

ـ لا! لا! إنّه سرّي الدّفين... أتفرّجُ فقط ولا ألمس... لا أدري لماذا رؤية هؤلاء الصغار تستهوني هكذا... لا أدري! فأنا مُتزوّج ولدَيّ أولاد، وفكرة تعرّض أحد أولادي لشخص مثلي تُرعبُني. أعلَمُ أنّ هناك خطبًا ما في رأسي إلا أنّ...

 

ـ إلا أنّكَ لَم تُحاول التخلّص مِن تلك الأفكار لأنّها تُعجبُكَ! لماذا لَم تستشِر طبيبًا؟!؟ هل تعلَم أنّ هناك خطوة صغيرة بين الإستلطاف والتحرّش؟ ما ذنب هؤلاء الأبرياء؟؟؟

 

ـ لا تفضحيني أرجوكِ!

 

ـ لو أردتُ فضحكَ لفعلتُ... فلستُ مَن طلَبَ لكَ الشرطة بل إحدى الموظّفين لدَيكَ. ولكن أريدُ وعدًا منكَ بأن تذهَب للعلاج، وبأقصى سرعة قبل أن تصبَحَ مُتحرّشًا حقيقيًّا.

 

في اليوم التالي بالتمام، علِمتُ حين وصلتُ المكتب أنّ الشرطة قبضَت على السيّد نعيم في منزله، بعد أن اعترَفَ مُرسِل تلك الصوَر بأسماء كلّ الذين طلبوها منه، موقفين شبكة كبيرة في الآن نفسه. إعترفَ مديري هو الآخر بشرائه الصوَر وزُجَّ في الحبس بانتظار مُحاكمته. إنتابَني مزيجُ مِن الإرتياح والحزن. فمِن جهة لَم يعُد بمقدور السيّد نعيم الوقوع في إغراء خطير، ولَم أكن التي تسبَّبَت له بدخول السجن، ومِن جهة أخرى كنتُ آملُ أنّ العلاج النفسيّ قد ينزعُ منه ميوله الشاذّة ليُعيدُه إنسانًا متوازنًا ونظيفًا.

أُقفِلَ المكتب بعد ذلك ووجدتُ عملاً آخر، لكنّ شيئًا تغيّرَ لدَيّ وهو إيماني بالناس وثقتي بهم. فكَم مِن الذين أعرفُهم يملكون في قلوبهم أسرارًا سوداء؟ يا إلهي... لا أجرؤ حتى على التفكير بالأمر!

لكنّ سؤالاً يُحيّرُني: هل بإمكان المرء الشفاء كلّيًّا مِن الشذوذ النفسيّ، أم أنّه يبقى كالقنبلة الموقوتة التي قد تنفجرُ في أيّ وقت وتُدمّرُ مَن حولها؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button