كيف لِمرَيم أن تنتحِر؟!؟ لَم أٌصدِّق الخبَر، فتلك الصبيّة كانت مليئة بالفرَح والحيويّة وأنا كنتُ أعرفُها منذ أكثر مِن عشر سنوات. صحيح أنّنا لَم نرَ بعضنا مؤخّرًا بسبب زواجي ولأنّها سافرَت لمدّة سنة بكاملها، لكنّنا كنّا في أكثر الأحيان على تواصل. لا، لا يُعقَل هذا!!!
إتّصلتُ بباقي الشلّة، واتّفقنا أن نجتمع كلّنا عندي في البيت لنتباحث بهذا الخبَر المُفجِع والمؤلِم. وحين وصلَت صديقاتي، جلَسنا بصمت دامَ لدقائق تقطّعَه صوت بكائنا. ثمّ أعرَبنا جميعًا عن مُفاجأتنا الكبيرة، وتشاركنا الذكريات مع مرَيم وضحكتها التي كانت ميزتها الخاصّة. هل يُعقَل أن يكون سفَرها إلى الخارج أثَّرَ بها؟ شعرتُ بالذنب لأنّني لَم أُعطِها الاهتمام اللازم خلال السنة الفائتة، لكن كيف لي أن أعرِف أنّ صديقتي ستُلقي بنفسها مِن طابق عالٍ؟ فلا شيء كان يُنذِرُ بذلك على الاطلاق. ثمّ سألتُ إحدى الموجودات:
ـ أنتِ التي نقَلتِ لنا الخبَر... مِن أين أو مِمَّن علِمتِ بموت مرَيم؟
ـ مِن أبيها.
ـ أبوها؟!؟ خلتُه ميّتًا! ألَم تقُل لنا مرَيم إنّه ماتَ حين كانت لا تزالُ مُراهقة وإنّ أمّها رحمها الله، هي التي ربَّتها لوحدها قبل أن تموتَ بدورها؟
ـ هكذا ظننتُ أنا الأخرى. إلا أنّ الرجُل إتّصَلَ بي بعدما وجَدَ رقمي في هاتفها.
ـ أعطِني رقمه!
خابَرتُ أب مَريم على الفور، وأدَرتُ مُكّبِر الصوت لتسمَعَ صديقاتي أيضًا ما سيقوله الرجُل. وبعدما عرّفتُه عن نفسي، هو قال:
ـ أجل، لقد قرّرَت إبنتي إنهاء حياتها، للأسف.
ـ أعذرني سيّدي... لكنّني ظننتُكَ... أقصد...
ـ ميّتًا، أليس كذلك؟ أعلمُ أنّ إبنتي كانت قد فضّلَت أن تقول ذلك للناس بدلاً مِن أن يعرفَ أحد أنّني تركتُ عائلتي. أجل، لَم أستطِع البقاء مع زوجتي حتى لو عنى ذلك التخلّي عن مرَيم. لكن دعينا مِن هذا الموضوع، فصغيرتي ماتَت وبأفظَع طريقة. ولا أعرفُ المزيد.
ـ هل أنتَ مُتأكّد مِن أنّكَ قلتَ لي كلّ شيء عنها؟
ـ أنا آسِف لكن لدَيّ عمَل عليّ أن أقومَ به. الوداع.
لَم يُعجِبني حديث ذلك الأب، فكان مِن الواضح أنّ هناك ما يُخفيه وكان عليّ أن أفهَم كامل القصّة. لذلك قرّرتُ التقصّي. لَم يُوافقني زوجي الرأي، فبنظره تلك الأمور هي عائليّة ولا شأن لي بها، إلا أنّني أردتُ فهم ما دفَعَ بصديقتي إلى ذلك الحدّ مِن اليأس. فمَن يُقدِم على الانتحار يكون قد فقَدَ كلّ أمَل بالحياة، وذلك الوصف لَم ينطبِق على مَريم.
أخذتُ أتفرّج على صوَر الشلّة التي أخذناها خلال مُناسبات عديدة، وذرفتُ دموعًا حارّة، ثمّ تحضّرتُ للخروج للبحث عن أجوبة. لذلك قصدتُ مقرّ عمَل مرَيم وتحدّثتُ مع زميلة لها كنتُ قد رأيتُها مرّة أو إثنَتين معها. سألتُها إن هي شعرَت بأنّ مَريم تُعاني مِن خطب ما فأجابَت:
- لاحظتُ أنّ حالتها النفسيّة تغيّرَت قبل سفرها بقليل، لكنّني ردَدتُ الأمر إلى كونها ستترك البلد وصديقاتها لعام أو أكثر.
ـ هي غادرَت بداعي العمَل أليس كذلك؟
ـ أبدًا، بل قدّمَت إستقالتها لأنّها وجدَت وظيفة مُغرية في الخارج. حاوَلَ مُديرنا إبقاءها معنا وعرَضَ عليها علاوة لكنّها بقيَت مُصرّة.
ـ أمر غريب... قالَت لي مرَيم إنّ المدير نفسه أرسلَها لفرعكم في الخارج.
لماذا تكذب عليّ مرَيم؟ ولماذا قتلَت نفسها بعد عودتها مِن السفَر بقليل؟ الجواب كان حتمًا لدى أبيها، لكن كيف أحمله على التكلّم؟ يا لَيت جدّتها لا تزال على قَيد الحياة، فهي التي اهتمَّت بها بعد موت والدتها وكانت لتُساعدَني على فهم الكثير.
ماذا لو أقصد تلك الجارة المُقرّبة مِن جدّتها؟ أذكُرُ أنّني رأيتُها مرارًا عند العجوز عندما كنتُ أزورُ مرَيم.
إستقبلَتني تلك المرأة والدموع في عَينَيها، فهي كانت قد واكبَت مرَيم مِن سنّ المُراهقة إلى حين كبرَت لتصبح إمرأة شابّة مليئة بالحياة. صحيح أنّ مرَيم إنتقلَت للعَيش وحدها بعد موت جدّتها، إلا أنّها بقيَت تسأل عن تلك الجارة مِن حين لآخَر. قدّمَت لي القهوة وسألتُها إن تفاجأت بخبَر الانتحار أم أنّها شعرَت بشيء:
ـ أبدًا... بل كانت ضحكتها تصلُ إليّ عبر الجدران. وقلتُ لنفسي مرارًا إنّه مِن الجيّد أنّ تلك الفتاة فرِحة بالرغم مِن الذي عاشَته سابقًا.
ـ تعنين رحيل أبيها عن البيت، أليس كذلك؟
ـ أجل، وموت أمّها. فالعجوز، أي والدتها، بكَتها كثيرًا وعمِلَت جهدها لتُنسي مرَيم تلك الفاجعة.
ـ كيف ماتَت أمّ مرَيم؟ هل مرضَت؟
ـ ألَم تُخبركِ مرَيم كيف ماتَت أمّها؟
ـ للحقيقة لا.
ـ إذًا سأحترمُ خصوصيّاتها بعدَم الكلام.
ما بهم كلّهم يصمتون فجأة؟!؟ غضبتُ كثيرًا وزادَ تصميمي على اكتشاف الحقيقة. إتّصلتُ بأب مرَيم وطلبتُ منه مُقابلته بحجّة إعطائه بعض الصوَر الخاصّة بابنته. إتّفقنا على موعد في مكتبه ورحتُ إليه في اليوم التالي.
وبعد أن جلستُ قُبالة الرجُل، قلتُ له:
ـ يحقُّ لي معرفة سبب موت صديقتي، فعليكَ أن تُنيرَني. لستُ أسأل عن أسرار عائليّة، بل فقط عن معلومات تُريحُ قلبي. ما الذي قلَبَ حياة مرَيم لدرجة أنّها قرّرَت إنهاءها؟ أرجوكَ سيّدي، قُل لي ما تعرفه.
ـ لستِ تبحثين عن معرفة أسرار عائليّة، لكنّ السبب هو بالفعل عائليّ.
ـ أتعني تركَكَ لعائلتكَ؟
ـ ليس ذلك هو السبب، على الأقلّ مُباشرة.
ـ ما السبب إذًا؟!؟
ـ السبب هو أمّ مرَيم. فزوجتي، رحمها الله، كانت تُعاني مِن مشاكل نفسيّة، أو بالأحرى عقليّة.
ـ وما دخل ذلك بانتحار مرَيم؟
ـ عندما تزوّجنا، كانت عروستي في السابعة عشرة مِن عمرها ولَم يظهر عليها شيء، بل كانت عاقلة وطيّبة ومُحبّة. لكن بعد سنوات وخصوصًا بعد ولادة مرَيم، بدأَت زوجتي تُعاني مِن إضطرابات بدأت خفيفة.
ـ أيّ نوع مِن الاضطرابات؟
ـ كانت تتراءى لها أمور غير موجودة، وتتصوّر أنّ الناس يُريدون أذيّتها. رددتُ الأمر إلى أسباب عديدة وغير مُهمّة، إلى أن زادَت حالتها وباتَت الحياة معها لا تُطاق. عرضتُ عليها أخذها إلى طبيب لكنّها رفضَت، فبرأيها أنا الآخَر كنتُ أعمَل ضدّها. مرَّت السنوات وكنتُ أعمَل جهدي للبقاء خارج المنزل قدر المُستطاع، كَي لا أشهد على نوبات زوجتي واتّهاماتها وتصوّراتها المرَضيّة.
ـ يا إلهي... وماذا حصَلَ بعد ذلك؟ وهل صبَّت زوجتكَ هلوَساتها على مرَيم.
ـ للحقيقة ليس كثيرًا، فهي كانت مُركّزة عليّ وعلى بعض الناس. إنتهى المطاف بي بأن شعرتُ كالغريب في بيتي وكالعدوّ الدائم لامرأة ترفضُ الاعتراف بأنّها ليست على ما يُرام... ففضّلتُ الرحيل. عرضتُ على مرَيم مُرافقتي إلا أنّها رفضَت أن تترك أمّها لوحدها مع هواجسها. المسكينة إبنتي، كانت مُراهقة عندما... عندما ألقَت زوجتي نفسها مِن النافذة.
ـ ماذا؟!؟ إنتحرَت هي الأخرى؟ يا إلهي... إختارَت مَريم الطريقة نفسها... لكن لماذا؟!؟
ـ لأنّ مَريم ورثَت عن أمّها ذلك المرَض. فبعد أن أخذَتها جدّتها لتهتمّ بها، بدأَت تشعرُ مرَيم بعوارض شهدَتها لدى أمّها.
ـ كيف علِمتَ بذلك يا سيّدي؟
ـ لأنّها اتّصلَت بي بعد إنقطاع طويل. كانت حتى ذلك الحين ترفضُ الاجابة على إتصالاتي أو رؤيتي، لكنّها خابرَتني حين أدركَت أنّ باستطاعتي مُساعدتها على فهم ما يحصلُ لها. تقابَلنا وأجَبتُ على أسئلتها في ما يخصّ ما حصَلَ مع أمّها. الدلائل كانت نفسها لكن بدرجة أخف. كنتُ أعلَم ما يعني ذلك، لِذا توسَّلتُ مرَيم أن تتعالج قبل أن يتفاقَم الوضع وتفقدُ بدورها عقلها. تعِبتُ كثيرًا لاقناعها، وتطلّبَ الأمر سنوات قبل أن تقبَل رؤية طبيب.
ـ لكنّني لَم ألاحِظ شيئًا عليها!
ـ حالتها كانت في بدايتها، وهي عرفَت كيف تُخفي عن الناس ما يدورُ في حياتها. لكنّ وضعها تفاقَمَ بشكل ملحوظ في السنة الأخيرة.
ـ حين كانت في الخارج؟
ـ بل في البلد. فهي لَم تُسافِر إلى إيّ مكان بل كانت في مؤسّسة تُعنى بالأمراض العقليّة.
ـ يا إلهي! لكنّني كنتُ أتواصل معها مِن وقت لآخَر.
ـ خطّيًّا... وكنتُ الذي يردُّ على مُراسلتكِ لها وعلى كلّ المُراسلات الأخرى، كي لا يشكّ أحد بأنّها مريضة، فكان لدَيّ أمَل كبير بشفائها. أخذتُها إلى بيتي بعد خروجها مِن المؤسّسة، وعندما تبيّنَ لي أنّها بخير، سمحتُ لها بالعودة إلى شقّتها. وعلى ما يبدو عادَت إليها علامات المرَض، وهي فضّلَت أن تُنهي حياتها كما فعلَت أمّها قبلها. ربّما هي لَم تشأ أن تفقد عقلها كلّيًّا وتقضي باقي حياتها في المؤسّسة.
بكيتُ بصمت، فكيف لصديقتي أن تُعاني هكذا مِن دون أن يعرفَ أحد بشيء؟ هل لهذا السبب كان فرَحها عارمًا طوال الوقت؟ فلقد أعطَت الجميع إنطباعًا عن نفسها مُعاكسًا لِما كان يجري في داخلها. أخفَيتُ سرّ مَريم عن صديقاتي، فلا داعٍ لأن يعرف أحد الحقيقة. كانت مرَيم قد ماتَت ولا يهمّ السبب.
بقيتُ على إتّصال بوالد مرَيم وكنّا نتبادل القصص الظريفة عنها، مِن دون أن نتطرّأ للجزء الأليم والحزين. فالرجُل كان يشعُر بالذنب حيال زوجته وإبنته، لكنّ القليلين يعرفون كيف يتعايشوا مع مرَض بهذه الصعوبة والخطورة.
أعطَيتُ اسم مريَم لإبنتي الأولى، وكلّما علَت ضحكة صغيرتي، يتراءى لي سماع ضحكة مرَيم. رحمكِ الله يا صديقتي.
حاورتها بولا جهشان