سرَقتُ أهلي

لقد دخلتُ عالمًا لَم يكن عليّ دخوله، ففتاة في الثالثة عشرة مِن عمرها عادة ما تكون منشغلة بدرسها أو بشكلها الخارجيّ أو بأمور بريئة تناسبُ سنّها. لكنّ جارتنا أمَيمة رأت فيّ مزايا استغلَّتها لِدَفعي إلى سرقة أهلي. كيف انجرَرتُ لخيانة ثقة الذَين جعلاني أبصر النّور وربّياني؟ بالطبع بسبب سنّي اليافع وحاجتي إلى الإندماج في عالم الرّفاهيّة، وخاصّة بسبب قوّة تأثير أمَيمة عليّ.

دعوني أبدأ مِن الأوّل، أي بالعائلة التي كنتُ أعيشُ وسطها وقوانينها. فبالرّغم مِن أنّنا كنّا مرتاحين مادّيًّا، فقد أرادَ والدَيَّ أن أتعلّم تقدير تعَب أبي الذي صَنَع نفسه بنفسه، وقيمة المال الذي لا يأتي مِن دون جهد. لِذا، كنتُ أتقاضى مصروفًا متواضعًا، ولَم أكن أحصل على مطالبي إلا مقابل علامات جيّدة في المدرسة. أي أنّ تربيتي كانت صالحة وبنّاءة، لكنّني لم أجد ذلك كافيًا أبدًا. فزميلاتي وصديقاتي كنّ تتصرفنَ كما شئنَ بالمال وتشترَينَ الملابس الأنيقة وتلتقَينَ في أفخم الأماكن. وبالطبع أرَدتُ التماثل بهنَ، الأمر الذي كان يتسبّب بيني وبين والدَيَّ بشجارات عديدة وأحيانًا عنيفة. فالحقيقة أنّني لم أكن فالحة في المدرسة، ليس لأنّني غبيّة، بل كسولة، بعد أن وعدتُ نفسي بالعمل لاحقًا في مؤسّسة أبي. لِذا لم أرَ منفعة مِن التعب طالما كانت وظيفتي المستقبليّة مؤمّنة، خاصّة أنّني كنتُ الإبنة الوحيدة لرجل نجَحَ في الحياة.

علِمَت جارتنا أميمَة باستيائي الدّائم مِن أهلي مِن الأصوات المتعالية التي كانت تصل إليها، ومِن الذي شهدَته خلال زياراتها لنا. لِذا، إنتظَرت تلك المرأة حتى كان أبوايَ خارج المنزل لتدقّ بابنا وتجلس معي على انفراد. عندها قالت لي:

 

ـ قلبي يوجعُني عليكِ يا صغيرتي... فأنتِ تعيشين وكأنّكِ فقيرة مع أنّ أباكِ رجل ثريّ... أنا متأكّدة مِن أنّ خادمتكم تعيش أفضل منكِ. أين هي؟ في المطبخ؟

 

ـ أجل، ماذا تريدين منها؟

 

ـ أرسليها إلى السوبر ماركت، هناك حديث خاص أريدُ أن أجريه معكِ.

 

تخلّصتُ مِن "مينا"، وحين أصبحتُ لوحدي مع جارتي قالت لي:

 


ـ لو كنتُ أمّكِ، لأعطَيتُكِ كلّ ما أملكُ، هكذا تكون الأمّهات. يا للمسكينة... أنا متأكّدة مِن أنّكِ تشعُرين بالعار وسط صديقاتكِ الأنيقات.

 

ـ وأخيرًا وجدتُ مَن يفهمُني! أحاوُل إفهام أهلي أنّني لا أستطيع العيش هكذا! لكن مِن دون جدوى. يا ليتكِ أمّي! أظنّ أنّ عليّ الإنتظار سنوات طويلة قبل أن أعيش كما أريد!

 

ـ ولِما الإنتظار يا صغيرتي؟ كلّ ما يملكُه أبواكِ هو لكِ، المشكلة هي أنّكِ لا تدركين ذلك بعد. لماذا تظنّين إذًا أنّ والدكِ يعمل طوال النهار؟ مِن أجلكِ طبعًا! سأعطيكِ الحلّ الأنسب والأسرع، لكن عليكِ أن تُقسمي لي بأنّ يبقى الموضوع سرًّا بيننا وإلا تركتُكِ تتخبّطين بفقركِ!

 

ـ أقسمُ لكِ!

 

ـ حسنًا... بما أنّ مال والديكِ هو أوّلاً وآخرًا لكِ، يُمكنكِ أخذه منذ الآن... أنا متأكّدة مِن أنّ أهلكِ لا يعدّان نقودهما بل يتركونها هنا وهناك أو في حقيبة يَد مرمية في خزانة. خُذي ما تريدينَه.

 

ـ لكنّها سرقة!

 

ـ أبدًا! إنّه استقراض! أو إن شئتِ دفعة على الحساب. هل ستنتظرين حتى تشيخي لِتستمتعي بالحياة؟

 

ـ بالطبع لا!

 

ـ فكّري بالموضوع وحين تقرّرين التصرّف، أخبريني. ولا تنسي إتفاقنا!

 

للحقيقة أعجبَتني الفكرة كثيرًا، فقد كانت أمَيمة على حق، بشأن مال أبوَيَّ الذي هو لي، فما الضرر بأخذ قسم منه الآن؟ ركضتُ أفتّش في حقيبة أمّي وسراويل أبي ولَم أجد سوى القليل مِن المال، فقرّرتُ التفتيش يوميًّا مِن دون إثارة الشبهات، حتى أجمع مبلغًا كافيًا لشراء ما أريدُه.

نجحَت مهمّتي بعد أيّام، وركضتُ أشتري عقدًا كان قد لفَتَ نظري في واجهة إحدى المحلات. سُرَّت جارتي للأمر، لكنّها قالَت لي إنّ ما أخذتُه ليس كافيًا بل أستطيع فعل أفضل مِن ذلك وتجميع مبالغ أكبر بكثير.

 

بدأتُ أُعِدُّ الخطط، ولَم يعد هناك مِن شيء آخر في بالي، وصِرتُ مُحترفة. لَم ينتبه أحد لشيء، لأنّني لم أكن آخذ سوى بضع ورقات نقديّة كلّ مرّة إلى أن أصبح لدَيّ مبلغ لا بأس به. عندها ركضتُ إلى الجارة التي نصحَتني بشراء هاتف جوَّال جديد. كانت فرحتي لا تُقاس، لِذا توجَّهتُ على الفور إلى محل الهواتف واشترَيتُ الموديل الأحدث. لكنّني أدركتُ في طريق العودة أنّني لا أستطيع دخول البيت مع جوّالي الجديد، فلَم أكن قادرة على تبرير كيفيّة شرائه. عندها عَرَضتَ أمَيمة عليّ أن تُبقيه معها حالما نجدُ قصّة مُقنعة. وهي لم تنسَ أن تضيف أنّ عليّ الإستمرار بالـ "الإستعارة" مِن أهلي.

 


لم أعد أشتري شيئًا بالمال المسروق، بل أُعطيه على الفور لأمَيمة التي كانت تضعُه لي جانبًا. وحين لم أكن أجدُ ما يكفي في جيوب أبي وحقائب أمّي، كنتُ آخذ أغراضًا مِن البيت وأعطيها لجارتي لتبيعها نيابة عنّي. ومع أنّني لَم أستفد فعليًا مِن هذه المسروقات، كنتُ أعدّ في بالي النقود التي كانت تتكدّس عند جارتنا.

في تلك السنة، رسبتُ بصفيّ لكنّني لَم أُبالِ أبدًا، فأنا كنتُ أعتبرُ نفسي فتاة ذكيّة تُجمعُ المال مِن دون عناء، ورأيتُ أنّ ذلك أفضل مِن أيّ شيء قد يُدرّسونَه لي في أعظم المدارس.

لكن كان لا بدّ أن ينتبه أهلي يومًا لِما يجري، فهما كانا يشعران بأنّ المال الموجود بحوزتهما كان ينقص. في البدء ظنّا أنّهما صرفا منه ونسيا أو أنّهما أضاعاه، لكن عندما تكلّما سويًّا بالأمر، أدركا أنّ أحدًا يسرقُهما. وأوّل شخص أثار شكوكهما كان أنا. غضبتُ منهما كثيرًا لأنّهما لم يشكّا بالخادمة بل بابنتهما الوحيدة، لِذا انتقمتُ مِن الجميع باتّهامي "مينا". لَم أفكّر بمصير المسكينة التي تركَت بلدها وأهلها للعمل عند غرباء، وأنّها سوف تواجه مصيبة كبيرة لو رجعَت إلى موطنها، بل فكّرتُ فقط بإبعاد الشبهات عنّي وتعليم والدَيَّ درسًا مفاده أنّ عليهما اتّهام الغريب وليس القريب. قلتُ لوالدَيَّ إنّه مِن البديهيّ أنّ "مينا" هي التي تسرقُهما، لأنّها متواجدة دائمًا في البيت ولأنّها فقيرة وغريبة، بعد أن أقسمتُ عاليًا أنّ لا دخل لي بشيء، وأنّه مِن العار أن يُفكّر أحد بأنّ صبيّة راقية مثلي قد تُقدم على سرقة ذويها.

بكَت "مينا" كثيرًا ونفَت نفيًا قاطعًا أن تكون قد مدَّت يدها إلى مقتنيات البيت، لكنّها لم تستطع إقناعهما ببراءتها. طُلِبَ منها أن تجمع أمتعتها للعودة إلى ديارها، الأمر الذي صَعقَها لأقصى درجة.

فما لم نكن نعلمُه هو أنّ "مينا" مُضطهَدة في قريتها، وهناك خطر على حياتها لو عادَت إليها. ففضّلَت المسكينة إنهاء حياتها بنفسها.

وحين وجدناها سابحة في دمائها بعدما قطعَت معصمها، نقلناها على الفور إلى المشفى حيث تمكّن الأطبّاء مِن إيقاف النزيف. رؤية تلك الكميّة الهائلة مِن الدّماء، أيقظَت فيّ ضميرًا كان نائمًا منذ فترة طويلة. فأدركتُ أنّ إنسانة كادَت أن تموت بسببي وأنّني لم أكن سارقة وحسب بل قاتلة.

لِذا قرعتُ باب أمَيمة طالبةً منها إعطائي المال الذي خبّأتُه لدَيها لأرجِعُه لأهلي وأعترفُ لهما بذنبي. لكنّ جارتنا اللعينة لم تقبل بإرجاع المال لي ونفَت حتى أن أكون قد أعطَيتُها شيئًا. ووصلَت وقاحتها إلى تهديدي بإبلاغ الشرطة عنّي بحجّة أنّني أضايُقها وأحاول إلصاق تهمة بها. عُدتُ إلى البيت باكية وحائرة. لم يكن لدَيّ حلّ لإنقاذ "مينا" سوى الإعتراف بما قمتُ به، وكان ذلك الجزء الأصعب. فلَم أكن سأعترفُ لأهلي بأنّني سارقة وحسب، بل كاذبة ومعدومة الإنسانيّة لأنّني اتّهَمتُ إنسانة بريئة كادَت أن تموت بسببي.

لكن ما لَم أكن أعلمُه، هو أنّ للأهل صدر برحابة الكون بأسره، وأنّ حبّهما لأولادهما يتغلّب على كلّ المسائل، وأنّهما قادرَين على مسامحة فلذات كبدهما.

كانت جلسة الإعتراف صعبة ومؤلمة، وتفادَيتُ النظر إلى والدَيَّ كي لا أرى الخيبة في عَينَيهما. لَم أنسَ طبعًا ذكر الجارة، فلَم أرَ منفعة في كتمان الأمر، خاصّة أنّها كانت المحرِّضة الوحيدة على ارتكابي السرقة.

لكن بغياب الأدلّة، لم يستطع أيّ منّا المسّ بأمَيمة، واكتفَينا بالإبتعاد عنها وعدَم استقبالها في بيتنا.

وأغرب ما في الأمر، هو أنّني، باعترافي بذنبي، إستعَدتُ قوّة قد افتقدتُها منذ صغري وثقة بالنفس كبيرة جدًّا، وكأنّني أزلتُ عنّي قشرة سميكة مِن الكسل والإتكاليّة، وأصبحتُ بعد ذلك مِن أوائل صفّي، ربمّا لأنّني أدركتُ أنّ العمل الدؤوب وجني المال مِن عرق الجبين، له طعم جميل مقارنة بأخذ ما ليس لنا. كان أبي على حق بكلّ ما قالَه لي وحاولَ فعله معي، لأصبَحَ إنسانة مسؤولة تقدّر الناس وتعبهم وتحاول دائمًا الوصول إلى الأفضل. وكبرتُ لأصبح تلك الإنسانة بالذات، وباتَت قصّة السرقة ورائي لكنّني أُبقيها في زاوية مِن ذاكرتي كي لا أنسى أنّني كدتُ أفقد نفسي يومًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button