سرقَت كنّتي طعامي

لماذا تزوّجتُ مِن رجل أرمل وله ولد؟ لأنّ للمرأة الشرقيّة مدّة صلاحيّة مُحدّدة للأسف، فبعد سنّ الأربعين، هي تُعتبَر بضاعة غير طازجة ومُخصّصة للحالات الخاصّة فقط.

هل أحببتُ زوجي وكمال إبنه؟ للحقيقة نعَم لكن بعد مدّة مُعيّنة، أي حتى اعتدنا على بعضنا وتعلّمنا كيف نتعايش سويًّا.

عامَلتُ كمال وكأنّه إبني، فهو كان ولد صغير آنذاك وصارَ مُتعلّقًا بي بعدما نسيَ أمّه الأساسيّة التي توفَّيت بسبب مرض عُضال.

لَم نكن أثرياء لكنّ عمَل زوجي أمَّنَ لنا حياةً مُريحة، فلَم أندَم كثيرًا على هكذا زيجة. هل كان لدَيّ حرّيّة الخيار؟ للحقيقة لا، فأنا تماشَيتُ مع الأوضاع حتى اعتَدتُ عليها. وبالطبع لَم أذِق طعم الحبّ الذي تحلمُ به كلّ فتاة، الأمر الذي أثَّرَ أيضًا على حياتي الحميمة وزوجي.

مرَّت السنوات بهدوء وكانت مُتشابهة لِدرجة أنّ رغباتي وأحلامي تخدّرَت لتختفي أخيرًا.

قد تتساءلون لماذا بقيتُ عزباء إلى سنّ الأربعين، في حين كنتُ إنسانة يسكنُها الشغف والحماس، وسأُجيبُكم: إنتظرتُ حتى لَم يعد يحتاجُني أحد مِن أفراد عائلتي، فكنتُ العمود الفقري لها كَوني الإبنة الأكبر والأكثر تعلّمًا. صرفتُ عليهم جميعًا وتكفّلتُ بوالدَيَّ حتى مماتهما. وحين تزوّجَت أصغر أخت لي، تسنّى لي أخيرًا أن أفكّر بنفسي. كان لي حبيب لكنّه لَم يستطع الإنتظار ومِن الجيّد أنّه لَم يفعَل، وإلا لكان هدَر عمره عليّ. بدلاً مِن ذلك، هو تزوّج ليؤسّس عائلة جميلة وسعِدتُ مِن أجله.

هل ذهَبَت تضحياتي سُدىً؟ ستعرفون الجواب لدى قراءتكم لباقي أحداث حياتي.

فبعد عشرين سنة على زواجي، ماتَ زوجي فجأةً، واكتشفتُ وإبنه أنّه توفّيَ مديونًا، لِذا وجدنا نفسَينا مِن دون شيء سوى البيت الذي كان، لحسن حظّنا، ملكنا. ومِن الجيّد أنّ كمال كان قد صارَ شابًا مُتعلّمًا ويعملُ في أحد المصارف وإلا مُتنا جوعًا.

بعد ذلك، تتالَت الأحداث بسرعة وكأنّ القدر كان مشغولاً عنّي في مكان آخر وتذكّرَني فجأة. ويا لَيته لَم يفعل!

 


فقد أُصِبتُ بجلطة دماغيّة شلَّتني نصفيًّا وأصبَحَ كمال مُسعفي الوحيد. لكنّني كنتُ أبقى بانتظاره طوال اليوم، أي حتى يعود مِن عمله، ليُساعدني على قيامي بأبسط حاجاتي. وصَفَ لي الطبيب علاجًا فيزيائيًّا كنتُ سأخضعُ له لتتحسّن حالتي... لولا قدوم سمَر. فتلك المرأة كانت ولا تزال تمثّل الشرّ بحدّ ذاته. أقسمُ أنّني لَم أفعَل شيئًا لها بل استقبلتُها في البيت بذراعَين مفتوحَين، لكنّها ما أرادَتني قط.

عمِلَت سمَر على إبعاد كمال عنّي شيئًا فشيئًا، لِذا لَم أنتبِه لِما كانت تحوكه لي. ماذا قالَت لإبن زوجي بالتمام؟ لن أعرِفَ يومًا لكنّه صارَ يهملُ واجباته تجاهي، أي أنّه لَم يعد يُساعدُني كما في السابق ولَم يذكر بعد ذلك شيئًا عن علاجي الفيزيائيّ.

إنتظرتُ طبعًا أن تُساعدني زوجة كمال بالقيام بأقلّ قدر مِن الإهتمام بي وأنا نصف مشلولة، لكنّها تجاهلَتني بشكل فظيع. كان الأمر وكأنّني غير موجودة بتاتًا، حتى صرتُ أزحفُ إلى الحمّام لتنظيف نفسي كي لا تفوحَ منّي رائحة بشعة، فلَم أعتَد على ذلك اطلاقًا بل كانت النظافة أمر لا أساوم فيه.

عندما فاتحتُ كمال بامتعاضي بالذي لا تفعله سمَر، صرَخَ بي:

 

ـ زوجتي ليست خادمة لأحد!

 

ـ كلّ ما أطلبُه هو بعض المساعدة ريثما أتعافى.

 

ـ ستتعافين لوحدكِ.

 

ـ ما هذا الكلام يا كمال؟ هل قصّرتُ معكَ يومًا؟ إعتبرتُكَ بمثابة إبني.

 

ـ لستُ إبنكِ ولستِ أمّي! أمّي ماتَت منذ زمَن بعيد!

 

بدأتُ بالبكاء وشعَرَ كمال بالذنب لِما قالَه لي، لكنّ سمَر ركضَت وسحَبَته إلى غرفتهما. بعد حوالي الساعة، عادَ كمال وقال لي:

 

ـ لا أُريدُ مشاكل بينكِ وبين زوجتي... هناك غرفة بٕرسم الإيجار في المبنى المُقابل... ستنتقلين إليها... وسأهتمّ بحاجاتكِ.

 

ـ لكن يا بنيَّ، هذا هو بيتي.

 

ـ بل بيت أبي!

 

في اليوم التالي نقَلَ كمال وزوجته أمتعتي إلى المبنى المذكور، وإلى غرفة صغيرة فيها حمام ومطبخ صغيران. لَم أتفوّه بكلمة بل اكتفَيتُ بالبكاء بٕصمت. وضَعَ كمال بعض الطعام في الثلاجة الصغيرة ووعدَني بالعودة لاحقًا، إلا أنّه زارَني مرّات قليلة ثمّ اختفي. كنتُ قد اتّصلَتُ بشقيقاتي لأخبرُهنّ عن وضعي، فصرنَ تضعنَ يوميًّا الأكل المحضَّر في الثلاجة، لكنّهنّ لَم تجدِنَ الوقت للمكوث معي ولو قليلاً.

مِن حسن حظّي أنّ جيراني كانوا مُحبّين، فأحدهم سأَلَ إبن عمّه الذي هو مُعالج فيزيائيّ عن بعض التمارين لأقومُ بها، وإلا بقيتُ مُلقاة في الفراش لوقت غير مُحدّد.

 


إلا أنّني كنتُ أقضي وقتًا طويلاً في فراشي بسبب الأقراص المنوّمة التي كنتُ أبتلعُها كي لا أشعر بالوحدة، فلَم أكن أصحى عندما تأتي إحدى شقيقاتي لتوصيل الأكل لي... ولا حين تأتي سمَر لتأخذه لنفسها وزوجها بواسطة مفتاح إضافيّ أخذَته مِن المالك بحجّة الإطمئنان عليّ. أجل... قرأتم صحيحًا، كانت كنّتي تحرمُني حتى مِن الطعام!

كنتُ قد لاحظتُ أنّ شقيقاتي بتنَ تُقلّلنَ مِن كميّة الطعام ووتيرة توصيله لي. إلا أنّني رددتُ الأمر إلى الأوضاع المعيشيّة فصرتُ آكلُ الوجبة على دفعات عديدة.

مِن حسن حظّي أنّ التمارين التي قمتُ بها أفادَتني، فبتُّ قادرة على غسل بعض الأطباق والملابس لوحدي، وتنظيف الأرض بعدما صارَت الغرفة وسخة للغاية.

ثمّ انقطعَت الوجبات نهائيًّا.

في بادئ الأمر انتظرتُ طبعًا قدوم الأكل، إلى حين ضربَني الجوع. إتّصلتُ بكمال الذي لَم يصرف عليّ قرشًا منذ تخلَّصَ منّي، بل اكتفى بتسديد إيجار الغرفة التي أسمَيتُها "منفايَ". وتحجّجَ كمال بأنّه غير قادر بتاتًا على مُساعدتي فقلتُ له:

 

ـ أنا لا أطلبُ منكَ المال أو حتى أن تزورَني يا كمال... فقط أن تُطعمُوني كي لا أموت جوعًا... إعتبرني هرّة أو كلبة صادَفتها في الطريق.

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟

 

ـ لا تصرف عليّ بل إبعث لي قسمًا مِن الطعام الذي تُحضّره سمَر.

 

ـ قلتُ لكِ إنّ زوجتي ليست خادمة عند أحد!

 

ـ ليُسامحكَ الله.

 

بعد سماع ذلك الحديث المؤذي، تمنَّيتُ لنفسي الموت ولَم يعُد يهمُّني إن أكلتُ أم لا. فبعد نفاذ آخر قطعة خبز لدَيّ، إنتظرتُ المنيّة لتأخذني مِن عالم حيث لا خَير في شقيقاتي ولا في إبن زوجي، الذين تعبتُ عليهم وأعطَيتُهم كلّ حبّي واهتمامي.

أغرَبَ ما في الأمر هو أن الغرباء هم الذين أنقذوني مِن موت محتوم، أقصدُ بذلك الجار الذي أعطاني التمارين الفيزيائيّة. فبالرغم مِن أنّ ذلك الرجل وعائلته لا يمتوّن لي بأيّ صلة أو حتى صداقة، فهم الذين فضحوا الذي كانت تفعله زوجة كمال. فقد كان ذلك الجار يرى الأكل الذي تجلبُه لي شقيقاتي، ورأى سمَر وهي تأخذُ على مهلها الأطباق لنفسها، وشعَرَ أنّ شيئًا مُريبًا يحصل. لِذا جاء يدقّ بابي ليسألَني لماذا أردُّ الأكل وإن كنتُ أفضّلُ أن تطبخ لي زوجته ما قد أحبُّه أكثر. إستغربتُ السؤال فأطلعَني على الذي رآه يحصل. عندها طلبتُ منه أن يأتي لي بمَن يُغيّر قفل بابي، فلَم أكن على علم بأنّ سمَر تملكُ مُفتاحًا لغرفتي.

إتّصلتُ بعد ذلك بشقيقاتي لإعطائهنّ نسخة مِن المفتاح الجديد، وأخذتُ على عاتقي عدَم تناول المنوّم لأعرف ما يجري. وفي اليوم نفسه، سمعتُ مُفتاحًا يُحرَّك في القفل الجديد ومَسكة الباب تُهتزّ بقوّة. تصوّرتُ غضَب سمَر وهي تكتشفُ ما فعلتُه. لكنّها لَم تكتفِ بمحاولة دخولها غرفتي بل صرَخَت مِن وراء الباب:

 

ـ تبًا لكِ أيّتها العجوز المشلولة! لماذا لا تموتي؟!؟ موتي!!! فما حاجتكِ للأكل وأنتِ بحالتكِ؟ تبًا!!!

 

زعلتُ كثيرًا، ليس مِن كلامها المُجرّٕح وحسب، بل على هذا الكمّ مِن الكره المجانيّ. ماذا فعلتُ لها كي تحمِل إبن زوجي على التخلّص منّي وعلى أخذ الأكل مِن طريقي؟

لَم أقل شيئًا لكمال بل تركتُه يُكملُ حياته مع التي اختارَها وفضّلَها على إنسانيّته، وطلبتُ مِن شقيقاتي إيجاد مكان آخر لي. وهذا ما حصل بالفعل.

أنا اليوم أعيشُ في مكان متواضع ولكن جميل، وأتمتعُّ بصحّة جيّدة والفضل يعود لله. تزورُني شقيقاتي باستمرار، وكذلك جاري القديم وعائلته الذين أصبحوا أعزّ الأصدقاء. عدتُ وأخرَجتُ سنانيري لِصنع الكروشيه وبَيع ما أصنع، وأنا مسرورة لأنّني صرتُ مُنتجة.

ماذا حصَلَ لكمال وزوجته؟ لا شيء يُذكر إلا أنّهما أنجبا أولادًا سيربّونهما حتمًا على الكره والأنانيّة. لكنّني واثقة مٕن أمر واحد: هؤلاء الأولاد سيرمون والدَيهما لحظة ما سيُشكّلون عبئًا عليهم... فالإنسان يحصدُ ما يزرعه!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button