سر عائلي كبير

يوم ماتَت عمّتي، بكيتُ كثيرًا عليها، فهي كانت بمثابة أمّ لي، لأنّها ربَّتني واعتنَت بي وبأبي بعدما أُصيبَت والدتي بداء خبيث وفارقَت الحياة بعد أوجاع رهيبة. كنتُ في السادسة مِن عمري آنذاك.

وصلَت عمّتي يُسرى إلى بيتنا حاملة حقائبها وعلى وجهها علامات الإحراج. لَم أسمع بها قبل ذلك لأنّها كانت تعيش في بلدة نائية لوحدها بعدما توفَّى جدّاي. هي حاولَت المكوث حيث هي، لكنّ وضعها كسيّدة عزباء لم يُساعدها على التّصرّف وتدبير نفسها لوحدها. لِذا، طلَبَ منها أبي المجيء للعَيش معنا، وهي فعَلَت.

وجود يُسرى عندنا ساعدَنا كثيرًا لتخطّي فترة مرض أمّي، فهي كانت وكأنّها ممّرضتها الخاصّة. وفارقَت والدتي المسكينة الحياة مُطمئنّة البال عليّ وعلى أبي.

وبعدما كبرتُ، بدأتُ أحثُّ عمّتي على الزواج لكنّها بقيَت ترفض قائلة: "لدَيَّ عائلة، فماذا أطلبُ أكثر مِن ذلك؟" هكذا كانت عمّتي، تُفني نفسها للآخرين.

وكَم كان حزني قويًّا عندما أخَذتُ أرتّب أمتعتها بعد مراسم الدّفن والتعزية! كنتُ أودّ أن يقوم شخص آخر بذلك، لكن لَم يكن هناك غيري، فأبي كان لا يزال مصدومًا مِن موت أخته التي رحلَت فجأةً جرّاء نوبة قلبيّة. وأسفتُ على رجل فقَدَ أهله ومِن ثمّ زوجته ومِن بعدها أخته. كنتُ كلّ ما تبقّى له، فوعدتُ نفسي أن أكرّمه إلى أقصى درجة.

جلستُ في غرفة عمّتي أتفرّج على أغراضها. كان ممنوعًا عليّ دخول هذا المكان عندما كنتُ صغيرة، وبقيتُ أمتثلُ لذلك الأمر بعدما كبرتُ، إحترامًا لإرادة عمّتي.

جلبتُ معي كراتين لضبّ الأمتعة وإرسالها لجمعيّة خيريّة، وصِرتُ أعبّئ الملابس فيها والأحذية وما شابه. ولفَتَت نظري علبة جميلة مُخبّأة بين الملابس، وحاولتُ فتحها إلا أنّها كانت مُقفلة. شاورتُ نفسي بخصوص حقيّ بفتحها بالقوّة، ورأيتُ أنّ مِن البديهيّ أن أفعل، فقد يكون فيها شيء ثمين لا يُمكننا إعطاؤه للجمعيّة.

 


وبواسطة سكّين، خلَعتُ القفل وفتحتُ العلبة. لَم أجد فيها المجوهرات كمَا تخيّلتُ، بل مجموعة مِن الأوراق الخاصّة القديمة. كنتُ سأعيدُ إقفال العلبة وأعطيها لأبي، عندما لفتَت نظري إحدى الأوراق التي تحمل عنوان "شهادة زواج". فعمّتي لَم تتزوّج يومًا وسألتُ نفسي لمَن تكون هذه الشهادة. وعندما قرأتُ ما كُتِبَ عليها، كدتُ أقع أرضًا!

كانت تلك شهادة زواج عمّتي... وأبي! كيف يُعقل ذلك؟ وهل مِن المسموح أن يتزوّج الأخوة؟ بالطبع لا. ركضتُ مع المُستند إلى أبي الذي كان جالسًا في الصالون على كرسيّه المُفضّل يُحدّق في الحائط لكثرة حزنه. ولحاجتي المُلحّة لمعرفة ماهيّة الأمر، صرَختُ به مُلوّحة بالورقة:

 

ـ لقد تزوّجتَ مِن أختكَ؟ ماذا يعني ما قرأتُه؟ كيف حصل ذلك؟!؟

 

أخَذَ أبي منّي المُستند وقال بهدوء:

 

ـ كنتُ أخشى هذا اليوم.

 

ـ لأنّ عليكَ تبرير خطيئة بشعة إسمها سفاح القربى؟!؟ أيّ مُنحرف رضيَ أن يُزوّجكما؟

 

ـ إقرئي شهرة عمّتكِ جيّدًا وسترَين أنّها ليست أختي.

 

ـ ليست أختكَ؟ ولماذا تسمّيها عمّتي إذًا؟

 

ـ سأقول لكِ كل شيء، لا تخافي.

 

قبل أن يُكمِل، نظرتُ إلى شهرة عمّتي قبل الزواج، وكانت بالفعل لا تمتّ لعائلة أبي بشيء! فعمّتي أو تلك الإنسانة كانت لقيطة وتحمل شهرة أمّها. وجلستُ أحاولُ فَهم ما يحدث. لماذا تزوّج أبي مِن إمرأة غريبة قالوا لي إنّها عمّتي؟ نظرتُ إلى والدي الذي أخَذَ نفَسًا عميقًا وقال:

 

ـ أمّكِ، رحمها الله، كانت إنسانة ذكيّة للغاية وتعرفُ كيف تدبّر الأمور. كان لدَيها إصرار وتصميم لَم أرَهما في حياتي، وكانت تُجيد إقناع الآخرين بوجهة نظرها وتحملُهم على تنفيذ ما تُريد. يا ليتكِ عرفِتها أكثر!

 

ـ بالكاد أتذكّرُها. لكن أكمل مِن فضلكَ.

 

ـ علِمَت أمّكِ بأنّها مُصابة بداء السرطان قبلي، وأبقَت الأمر سرًّا ليتسنّى لها تنفيذ ما في رأسها، أي أن تؤمّن لي ولكِ بديلة. فهي كانت خائفة مِن أن أبقى لوحدي مِن بعدها أو أن آتي بزوجة تُسيء معاملتكِ. لِذا قرَّرَت أن تجد الإنسانة التي ستحلّ مكانها بعد أن تُفارق الحياة.

 

ـ أمّي هي التي زوّجَتكَ؟!؟

 

ـ نعم يا حبيبتي. وأقسمُ أنّني لَم أكن على علم بشيء. راحَت أمّكِ تسأل سيّدات الحَي عن عروس لابن صديقتها، فهي لَم تقل لأحد طبعًا أنّ البحث هو لي. ولقد رأَت فتيات وسيّدات كثر، لكنّها لم تجد فيهنّ الأوصاف التي تُريدُها. لِذا، خطَرَت ببالها فكرة: قصَدَت دور الأيتام للفتيات على أمل أن تجد إحداهنّ قد بقيَت في المؤسّسة لتعمل فيها بصورة دائمة.

 

ـ ولماذا تفعل ذلك؟

 


ـ قلتُ لكِ إنّ أمّكِ إنسانة ذكيّة جدًّا، فهي أرادَت إمرأة ليس لها أحد وتتوق إلى عائلة وتعرفُ قيمتها الفعليّة. وبعد بحث طويل، وجَدَت يُسرى التي كانت آنذاك قد بلغَت الثلاثين مِن عُمرها، وقضَت حياتها كلّها في المكان نفسه بعدما تركَتها أمّها هناك واختفَت. قالَت لها والدتكِ: "ليس لدَيكِ شيء وأنا بإمكاني إعطاؤكِ كل الذي تتمنّاه امرأة بوضعكِ: بيتًا وزوجًا وسيمًا وكريمًا وإبنة جميلة وذكيّة. ستعيشين بأمان ورخاء. فأنا أموتُ ببطء ولا أريدُ تَرك هذه الدنيا مِن دون أن أرتّب كلّ شيء قبل رحيلي. إن وافقتِ، ستأتين إلى بيتنا وكأنّكِ أخت زوجي، وسأختبرُكِ لأرى إن كنتِ طيّبة وأمينة وإن كانت إبنتي ستحبّكِ. وإذا وجدتُكِ أهلاً لهذه المهمّة، فسأزوّجكِ زوجي، لكن على الأمر أن يبقى سرًّا طوال حياتكِ، فلا أريدُ أن تعرف ابنتي بشيء.

ووافقَت يُسرى لأنّها كانت إمرأة وحيدة منذ ولادتها... أعطَتها أمّي حياةً جديدة بينما هي كانت على وشك فقدان حياتها. أكمل.

بقيَ على أمّكِ إقناعي، وهذا كان الأصعب. فالصّدمة الأولى كانت معرفتي بحالة والدتكِ الصحّيّة، الأمر الذي أحبطَني إلى أقصى درجة. فكنتُ أعشقُها! ثمّ قالَت لي إنّها تودّ تزويجي وإنّها وجَدَت لي العروس المُناسِبة. أثارَ ذلك استنكاري وغضبي ورفضتُ رفضًا باتًا. لكنّ أمّكِ طلبَت منّي أن أعتبره طلبها الأخير. تظاهرتُ بالقبول كي تهدأ ولا يُؤثّر ذلك على صحتّها الهشّة، لكنّني كنتُ لا أزال رافضًا. على كلّ حال، لا أظنّ أنّني كنتُ سأتزوّج بعد موت والدتكِ... جلَبَت أمّكِ يُسرى، وعلِمتُ حينها أنّها لَم تكن تمزح. فأخذتُ العروس جانبًا وأطلعتُها على رأيي بصراحة تامّة وهي تفهّمَت موقفي. إتّفقنا على أن نقبل برغبة أمّكِ صوَريًّا، لكنّني لم أكن أبدًا أنوي الزواج منها. وساءَت حالة زوجتي الحبيبة، فاهتمَّت يُسرى بها وبنا وكأنّها فعلاً أختي. وسُرَّت والدتكِ منها كثيرًا، لأنّها وجَدَت فيها الحنان اللازم لأخذ محلّها. وقبل أن تتوفّى المسكينة، أصرّت عليّ أن أتزوّج مِن يُسرى. كنتُ في حيرة مِن أمري، هل أرفضُ طلَب أعزّ إنسانة على قلبي وهي على فراش الموت؟ إتّفقتُ مع يُسرى على أنّ ذلك الزواج لن يكون إلا صوَريًّا وهي قبِلَت. عقدنا قراننا وماتَت أمّكِ بسلام.

 

ـ لكنّ يُسرى بقيَت معنا.

 

ـ أجل، وبسببكِ. فعندما ماتَت أمّكِ، كنتِ أنتِ قد تعلّقتِ كثيرًا "بعمّتكِ" وصِرتِ تُلازمينها طوال الوقت. حتى أنّكِ لَم تعودي تذهبين إلى الفراش مِن دون أن توافيكِ وتبقى معكِ حتى تنامي.

 

ـ صحيح... أتذكّر ذلك الآن.

 

ـ أرادَت يُسرى أن تنفّذ اتّفاقنا، أي أن أُطلّقها وترحل، إلا أنّني طلبتُ منها البقاء معنا. كنتُ واثقًا مِن أنّ رحيلها سيُحدِثُ لدَيكِ صدمة كبيرة ولَم أكن أريدُ ذلك.

 

ـ وكيف لَم يعرف أحد بأنّ يُسرى ليست أختكَ؟

 

ـ لم يعرف أحد بشيء لأنّني ولد وحيد كما تعلمين، وقد ماتَ والدايَ قبل سنوات قليلة. أمّا باقي الأقارب، فكانوا مُنتشرين هنا وهناك ولَم تربطني يومًا بهم صلة وطيدة.

 

- هل أحبَبتَ يُسرى؟

 

- أجل، أحبَبتُها لكن حقًّا كأخت لي. إسمعي حبيبتي، لَم تعودي صغيرة، فعلاقتي بيُسرى لم تتخطّ حدود الأخوّة، لذا بقينا ننامُ في غُرف مُنفصلة. لقد أحبَبتُ امرأة واحدة في حياتي وهي أمّكِ ولَم أرِد غيرها يومًا. عاشَت يُسرى حياة كريمة معنا وهي لَم تطمَح إلى أكثر مِن ذلك. عرضتُ عليها أن أطلّقها لتجد لنفسها زوجًا حقيقيًّا، لكنّها رفضَت، فهي اعتبرتكِ فعلاً إبنتها. يا لَيت الله أطال عمرها! لكن هذه مشيئته ولا نستطيع إلا قبولها. أنا آسف لأنّني خبّأتُ عنكِ هذه الحقائق، فهذه كانت رغبة أمّكِ ولَم أجد طريقة مناسبة عندما كبرتِ لأقول لكِ إنّ عمَتكِ ليست إلا زوجتي. سامحيني.

 

بكينا سويًّا على أمّي ويُسرى لأنّهما كانتا امرأتَين استثنائيّتَين. فكلاهما ضحَّتا بكل شيء مِن أجلنا، ودافعهما كان الحبّ. هذا الحبّ النادر الوجود الذي ملأ قلبي بالفخر والسعادة. بقيتُ أستعملُ كلمة "عمّتي" كلّما تكلّمتُ عن يُسرى، ولا تمرّ ليلة مِن دون أن أذكرُها وأمّي بصلواتي. ومعرفتي بتلك القصّة العجيبة علّمَتني كيف أحبّ وأضحّي وأفكّر بالغَير قبل نفسي، وهذا ما أفعلُه مع زوجي وأولادي كلّ يوم.

هذه قصّتي التي أضعُها بين يدَيكم، على أمل أن تترحّموا على أمّي ويُسرى بعد قراءتها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button