سر رانيا ورامي (الجزء الأول)

كَم أنّ الانسان شرّير وحاقد... فيكفي أن يكون الآخرون مُختلفين ولو بعض الشيء، لِتبدأ الألسُن بِبَثّ الأذى. أين يذهب إيمانهم بِدياناتهم التي توصي جميعها بالحبّ والرفق؟ كفّوا عن الصلاة والصوم أيّها الماكرون، فقلوبكم السوداء لن تُدخلكم يومًا الجنّة!

أعذروني على كلامي القاسي، لكنّني كنتُ شاهدة مُباشرة على الذي حصَلَ لِرامي ورانيا. ومع أنّ أحداث قصّتهما حصلَت منذ سنوات طويلة، إلا أنّ تأثيرها النفسيّ عليّ لا يزال حيًّا.

كلّ شيء بدأَ عند موت أبوَي رامي ورانيا اللذَين رحلا الواحد تلوَ الآخَر. كانوا يسكنون جميعًا بيتًا قديمًا عند مدخل البلدة، وكان لا بدّ لأيّ منّا المرور يوميًّا بالقرب منه ذهابًا وإيابًا. قامَ أهالي البلدة بواجباتهم حيال اليتيمَين، بِتعزيتهما وإحضار بعض الأكل والحلوى لهما، فرامي كان في العشرين مِن عمره ورانيا تصغره بِسنتَين. ترَكَ رامي الجامعة على الفور لإيجاد عمل، ولو مُتواضعًا، لإعالة نفسه وأخته، فلَم يترُك لهما والداهما شيئًا سوى الديون.

كنتُ أحبّ رانيا إذ كنّا مُتشابهتَين مِن حيث السنّ والأفكار، وحزنتُ للتغيّر المُفاجئ الذي حصَلَ في حياتها، فهي كانت تنوي مُتابعة دراستها لتصبَح مُحامية. خجلتُ مِن نفسي يوم دخلتُ كلّيّة الحقوق، فكان يجدرُ بِرانيا مُرافقتي. أحبَبتُ أيضًا رامي، لكن بطريقة مُختلفة... أجل، كنتُ مُغرمة به، عن بُعد، فقد كان ذلك الشابّ جدّيًّا وغامضًا، الأمر الذي ساهمَ كثيرًا في ما حصَلَ له ولأخته. هل كان رامي يشعرُ بِشيء تجاهي؟ للأسف لا، لكنّ ذلك لَم يمنَعني مِن الارتباك كلّما تواجدتُ معه.

قضَيتُ فرصة الصيف مع رانيا وتحضّرتُ لِدخول الجامعة، وبعد ذلك انشغلتُ بِدروسي ولَم أعُد أرى صديقتي وأخاها إلا نادرًا. وفي تلك الفترة بدأ انعزالهما الذي سبَّبَ لاحقًا بولادة الإشاعات.

لكن ما الذي حمَلَ صديقتي وأخاها على الانقطاع عن الناس هكذا؟ فيوم دقَّيتُ بابهما ودخلتُ بيتهما، شعرتُ بأنّ شيئًا تغيَّر. جلَسنا في جوّ مِن الصمت تخلَّلَته مُداخلات مِن جانبي، وفضّلتُ الرحيل بعد أقل مِن نصف ساعة. إعتقدتُ أنّ رامي ورانيا كانا قد تشاجرا لسبب ما، ووثقتُ طبعًا أنّهما سيتصالحان بعد فترة قصيرة.

 


إلا أنّني سمعتُ أمّي تقول لأبي حين عدتُ إلى البيت: "شيء ما ليس على ما يرام لدى هذَين اليتيمَين، فهما يقضيان وقتهما بين جدران ذلك البيت القديم". فهمتُ أنّ الجميع كان قد لاحظَ ذلك التغيّر وأنّ الأمر ليس عائدًا لِشجار ما. إلا أنّني صمَّمتُ على كسر ذلك الصمت بالتكلّم مع صديقتي حين تكون لوحدها. لِذا، إنتظرتُ أن يذهَبَ رامي إلى عمله ورحتُ أرى رانيا بعد أن قرّرتُ أخذ فرصة مِن جامعتي.

أجلسَتني رانيا في الصالون وقدَّمَت لي القهوة وسكَتنا. بعد دقيقة طويلة قلتُ لها:

 

ـ أعرفُكِ منذ سنوات يا رانيا، وأستطيع القول إنّ شيئًا أو أشياءً قد تغيّرَت في الأواني الأخيرة.

 

ـ أيّ أشياء؟

 

ـ أين ذهبَت بهجتكِ وبهجة أخيكِ؟ ولِما العُزلة؟ ماذا يجري؟

 

ـ أنتِ تتصوّرين أمورًا لا وجود لها يا صديقتي... ها أنا جالسة معكِ ونتحدّث بكلّ راحة... أمّا بالنسبة لِما أسمَيتِها عُزلة، فلقد فضّلنا الابتعاد قليلاً عن الأمور التي لا تُفيدُنا، فلدَينا ما يكفينا مِن هموم ومسؤوليّات. أؤكّدُ لكِ أنّ أموري بألف خَير.

 

ـ لقد اطمأنَّ بالي الآن.

 

للحقيقة، لَم أرَ شيئًا مُريبًا في كلام صديقتي، فأنا الأخرى صرتُ أنزعجُ مِن أمور عديدة بعدما صارَت لي هموم أخرى، كتحضير مُستقبلي لِمواجهة العالم ومشاكله. لكنّني لمَستُ تأثير رامي على أخته، فهو كان مُختلفًا تمامًا عنها، وأظنُّ أنّه تأثَّر بشكل ملحوظ بموت أبوَيه والتغيير الجذريّ الذي حصَلَ لِحياته. فكما نعلَم، لا يتأثّر الناس بالشكل نفسه عند حصول كارثة أو مأساة. وتمنَّيتُ أن يستطيع ذلك الشاب الوسيم والعاقل تخطّي محنته ليعود كما في السابق، أي إنسانًا مرِحًا ومليئًا بالأمل.

فترة امتحاناتي في الجامعة أبعدَتني عن باقي الأمور ومنها صديقتي رانيا، وحين بدأَت الفرصة الصَيفيّة، قرّرتُ مُتابعة صداقتي حيث انقطعَت، لكنّ الأمر لَم يكن سهلاً. في الواقع، لَم أستطِع رؤية رانيا إلا بعد مُحاولات عديدة. ففي كلّ مرّة، لَم يفتَح لي أحدٌ الباب أو، في أحسَن الحالات، كان رامي يقول لي إنّ أخته غير موجودة في الوقت الحاضر. لكنّني استطعتُ أخيرًا دخول ذلك المكان الذي صارَ بمثابة وكر اختبأ فيه الأخوان.

تفاجأتُ بالفوضى التي عمَّت المنزل، فالملابس كانت مُلقاة على الكراسي وحتى على الأرض، والصحون مُتراكمة في المغسلة. لكن ما فاجأني الأكثر، كانت الروائح الكريهة التي عمَّت المكان. لَم يكن مِن عادة رانيا أو رامي التهاون في النظافة والترتيب، وتذكّرتُ كلام صديقتي المُطَمئن الذي اتّضحَ أنّ لا أساس له مِن الصحّة.

بدَت لي رانيا وكأنّها تعِبة، لا بل مريضة مع أنّها لَم تكن تشكو فعليًّا مِن شيء، حسَب قولها. أمّا رامي، فجلَسَ معنا وعلى وجهه نظرة ذكّرَتني بنظرة المدرِّس الذي يُراقبُ تلاميذه أثناء الامتحان. أجل، كان ذلك الشاب يُراقبُ حديثي وأخته... لكن لأيّ غرَض؟

 


صمَّمتُ على إطالة زيارتي، فكان عليّ أن أفهَم قدر المُستطاع ما يجري. قد تقولون لي إنّ حياة رانيا ورامي ليست مِن شأني، لكنّكم على خطأ. فمِن واجب الصديق أو الصديقة الوقوف إلى جانب مَن هو في ضيقة، ومُساعدته للنهوض مِن المشاكل التي تعترضُه.

كان مِن الواضح أنّ وجودي لَم يكن مُستحبًّا لكنّني لَم آبَه لذلك على الإطلاق، بل دعوتُ نفسي إلى الغداء عندهما، الأمر الذي زادَ في إزعاجهما، إلا أنّهما لَم يرفضا طلَبي. ساعدتُ رانيا على غسَل الأطباق وتحضير الطعام، بينما راحَ أخوها إلى غرفته ولَم يخرج منها حتى لِتناول الغداء معنا. لَم يهمّني الأمر بل بقيتُ أتصرَّف على طبيعتي مع رانيا. وبعد أن انتهَينا مِن الأكل، قالَت لي صديقتي:

 

ـ مِن الأفضل ألا تعودي إلى هنا.

 

ـ ولماذا؟!؟

 

ـ لا أستطيع إخباركِ... لكن أمورًا... أعني...

 

ـ تكلّمي!

 

ـ رامي... هو بِحاجة إلى أن أفعل مِن أجله أشياء...

 

وفي تلك اللحظة خرَجَ أخوها مِن غرفته، وناداها، فدخلا الغرفة ثمّ أغلقا الباب وراءهما وسمعتُهما يتشاجران بِصوت خافت. ثمّ خرَجَ رامي لوحده طالبًا منّي الرحيل.

رحلتُ بالطبع بعد أن طُرِدتُ مِن دون مُقدّمات، وانشغَلَ بالي على رانيا، فكان مِن الواضح أنّ أخاها يُملي عليها ما تفعله. إضافة إلى ذلك، رأيتُ الخوف في عَينَي المسكينة حين تكلّمَت عنه. حفظتُ كلّ ذلك لِنفسي، خاصّة أنّ الناس كانت قد بدأَت تُلاحظُ أنّ شيئًا غريبًا يجري في بيت الأخوَين. لكن كَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين سمعتُ جارتنا تقول لأمّي أثناء إحدى زياراتها لنا:

 

ـ أقسمُ لكِ أنّ ما أقولُه صحيح.

 

ـ لا، يا سلام، لا يُعقَل ذلك!

 

ـ بلى، بلى... فشقيقة ابنة عمّ زوجي قرعَت يومًا باب الأخوَين، ففتحَت لها رانيا وملابسها مبلّلة بالماء.

 

ـ وإن يكن؟

 

ـ مهلاً، لَم أُنهِ كلامي! سألَتها قريبتي عن سبب تبلّل ملابسها هكذا، فأجابَتها رانيا: إنّني أُعطي الحمّام لأخي.

 

ـ ماذا؟!؟ هل أنتِ مُتأكّدة مِن ذلك؟

 

ـ مئة بالمئة... وسمِعَت قريبتي رامي يُنادي في تلك اللحظة أخته قائلاً: "أين ذهبتِ؟ فالماء سيبردُ الآن! تعالي!".

 

ـ يا إلهي... هذا يعني...

 

ـ أجل، والكلّ يظنُّ مثلي أنّهما... لا أستطيع قولها!

 

ـ يُمارسان الفحشاء سويًّا؟ قوليها!

 

لدى سماعي ذلك، إنتابَني غضبٌ كبير تجاه الجارة وأمّي التي وافقَت على كلامها، مِن دون أن تُفكّر بِمنطق ورويّة. كدتُ أن أُقاطعهما صارخة فيهما هما بِترك الناس وشأنهم، إلا أنّني سكتُّ إلى حين أجمَع المعطيات والأدلّة الكافية لتكذيب هذا الكلام البشِع.

لكنّ الأمور كانت ستتفاقَم بسرعة فائقة، كالنار التي تحرقُ كلّ شيء في طريقها.

 

يُتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button