سخر مني ثم قال أنّه يحبّني!

لم أكن أنوي الذهاب إلى تلك الحفلة ورؤية رفاق المدرسة القدامى. سبب تردّدي، كان أنّني كنتُ فيما مضى تلميذة خجولة ومحطّ سخرية زملائي بسبب وزني الزائد. وبالرغم أنّني أصبحتُ مع الوقت رشيقة، بقِيَت عندي المخاوف تجاه الذين لم يوفّروا نكتة أو وسيلة للضحك عليّ. وعندما دخلتُ قاعة التجمّع، تعرّفتُ إلى وجوههم جميعاً وكأنّني رجعتُ بالزمن إلى سنّ المراهقة. أمّا هم فنظروا إليّ بإستغراب وكأنّهم يرونني لأوّل مرّة ولو لم أعرّف عن نفسي لما حزِروا من أنا. حصلتُ على تهنئات على مظهري الرشيق وسألوني عن حياتي وأحوالي، فأخبرتُم أنّني أصبحتُ مديرة شركة إستثماريّة كبرى وذهلوا لِما حقّقته خلال السنين فلإنشغالهم بِوزني لم ينتبهوا أنّني كنتُ دائماً من أوائل صفّي وأنّ لا بدّ لِمستقبلي أن يكون لامعاً. ثم دخلَ القاعة شاب وسيم وبدأ قلبي يخفق بسرعة، فلطالما كنتُ مغرمة بجهاد، الذي لم يكن يحبّني أبداً، لا بل كان يحثّ الآخرين على الضحك عليّ. وعندما ألقى التحيّة عليّ وقلتُ له إسمي سكَتَ مطوّلاً وقال:

- لا أصدّق عينيّ... هذا أنتِ؟ كنتِ... كنتِ مختلفة... أخبريني عنكِ... ماذا تفعلين؟ هل تزوّجتِ؟ ألديكِ أولاداً؟

- إنشغلتُ كثيراً ونسيتُ حياتي العاطفيّة... لديّ عملاً مرموقاَ الآن وشقّة في وسط المدينة أعيش لوحدي فيها بعدما توفيّاً والديّ...

- أجل... أتذكّر والدكِ كان لديه ملحمة وكنّا...

- وكنتم تقولون أنّه سيخال يوماً أنّني إحدى بقراته ويذبحني...

- لا... لم نقل هذا! لا أتذكّر أنّنا قلنا هذا عنكِ!

- أنا أتذكّر جيّداً... على كل حال مضى وقت طويل منذ تلك الفترة ولم أعد آبه لما حصل.

- أنا آسف جدّاً... كنّا صغاراً... مراهقين أغبياء... أرجو منكِ أن تغفري لنا ولي بالذات... هل لي برقم هاتفكِ... أريد رؤيتكِ مجدّداً إن لم يكن لديكِ مانعاً.

وأعطيته رقمي لأنّني لم اصدّق أنّه قد يهتّم بي يوماً. وإتصلَ بي جهاد في اليوم التالي وتواعدنا حول فنجان من القهوة. أخبرَني عن حياته منذ ما تركَ المدرسة وعلِمتُ منه أنّ الحياة لم تكن سهلة معه، لأنّه إنشغلَ بِمرض أمّه بعد موت أبيه وإضطرّ إلى ترك الجامعة لتوفير ثمن العلاج الطويل الذي لم ينقذ حياتها. ومن ثمّ تنقّلَ من عمل إلى آخر بسبب عدم حصوله على أي شهادة تخوّله إيجاد وظيفة ثابتة. حزِنتُ لسماع هذا، فلطالما تصوّرتُ أنّه سيصبح رجلاً مهماً لأنّه كان دائماً لامعاً ومميّزاً. نظرَ إليّ ومسكَ يديّ وقالَ لي:

- أنا سعيد لكِ... لقد تغلّبتِ على سمنتكِ وحققتِ نجاحاً تكلّمَ عنه الجميع البارحة. غريبة هي الحياة...

- أجل... ولكن كفى تحدّثاً عنّي... قل لي... لماذا بقيتَ عازباً فأنتَ شاب وسيم وذكي.

- الإهتمام بوالدتي كان السبب... وعندما أصبحتُ لوحدي، لم يكن لديّ ما يكفي من المال لتأسيس عائلة. أظنّ أنّني سأموت وحيداً...

- لا تقل هذا! أنا متأكدّة أنّ ألف فتاة تتمنّاكَ.

- لا أريد ألف فتاة بل واحدة فقط... سعاد... هل تظنّين أنّ بإستطاعتكِ أن تحبّينني يوماً؟

عند سماع هذا إحمرّ وجهي وفقدتُ القدرة على الكلام. إبتسمَ جهاد وتركَني ألتقط أنفاسي وإستطعتُ أن أتمتم:

- أجل...

وهكذا بدأَت قصّتنا وكنتُ أسعد إمرأة على وجه الأرض، فبعدَ سنين طويلة حصلتُ على جهاد حبّ المراهقة وإنتصاري على الحياة كان عظيماً. ولكن كان لِريما صديقتي الحميمة رأي آخر، فعندما أخبرتُها عن حبيبي وعن وضعه وعمّا كان يفعله بي عندما كنّا في المدرسة قالَت لي:

- مسكينة أنتِ... ألا ترين أنّه يتلاعب بكِ؟ أنتِ إمرأة ناجحة وثريّة، أمّا هو فليس سوى إنسان فاشل يريد التمتّع بما حققتيه حتى الآن.

- أنا لا أؤمن بالفارق الإجتماعي... الحب لا يحسب حسابات... أنتِ لا تعرفينه جيّداً...

- لا أعرفه هذا صحيح ولكنّكِ أنتِ تعرفينه... كان قاسيّاً معكِ وجعلَ من حياتكِ جحيماً... أنتِ لستِ غبيّة وإلا لما وصلتِ إلى مركزكِ وحققتِ نجاحاتكِ... جهاد وصوليّ ويستغلّكِ وهذا واضح.

إستأتُ كثيراً من صديقتي وولِدَ بيننا جفاف، فبالنسبة لي كان حبّ جهاد أهمّ من صداقتِها وإعتقدتُ حينها أنّ سبب إعتراضها كان من دافع الغيرة من سعادتي. وحين طلبَ منّي جهاد أن أتزوّجه، طرتُ من الفرح وقبلتُ فوراً لأنّ حياتي كانت ستكتمل. وبدأتُ بالتحضيرات لزفاف أردتُه أن يكون مثاليّاً وتوجّهتُ إلى محل مصمّم أزياء مشهور لإختيار فستاني الأبيض. وهناك تفاجأتُ برؤية زميلة قديمة لي كانت موجودة ليلة التجمّع. ألقيتُ عليها التحيّة وعلِمتُ منها أنّها شريكة في المحل وعرضَت عليّ مساعدتي لإختيار ما يناسبني:

- سأجعل منكِ أجمل عروس... من سعيد الحظ؟

- جهاد!

- جهاد؟ أتعنين جهاد صديقنا؟

- أجل... لطالما كنتُ مغرومة به ولكن في حينها...

- في حينها كان يسخر منكِ علناً... أعلم... ولكن... هل أنتِ متأكدّة أنّه الرجل المناسب؟ أعني... أنتِ الآن في أحسن حال وألف شاب يتمنّاكِ وهو... إسمعيني يا سعاد لمَ لا تسألين عنه قبل أن تتزوّجيه؟

- لا داعي لذلك، فأنا واثقة منه. وبالنسبة للفستان سأرجع مرّة ثانيّة!

وخرجتُ من المحل بحالة غضب قصوى. ما بالهم جميعاً؟ أوّلاً صديقتي ريما والآن تلك المرأة؟ هل رؤيتي سعيدة تؤلمهنّ إلى هذه الدرجة؟ ورغم تصميمي على المضي بزواجي مِن حبيب العمر، وجدتُ أنّ السؤال عنه لن يضرّ أحد بل سيبرهن حسن إختياري. ومَن سيعرف جهاد أكثر من جيرانه الذين واكبوه منذ ما كان صغيراً؟ لذا توجّهتُ إلى الشارع الذي يسكن فيه ودخلتُ محل البقالة الموجود في أسفل المبنى. كان هناك رجلاً مسنّاً ينفض الغبار عن بضاعته. ألقيتُ التحيّة عليه وإخترتُ بعض الأشياء للمنزل وقلتُ له وأنا أحاسبُه:

- أبحث عن منزل جهاد س. أنا صاحبة شركة إستثمارات ولقد قدّمَ طلباً للعمل عندي...

- يسكن في الطابق الرابع شرقي.

- أرجو أن يكون إنساناً جاداً ونشيطاً.

ضحِكَ الرجل وقال:

- إن كان العمل لديكِ يتطلّب أن يكون موجوداً باكراً، فلن ترينه قبل ساعات الظهر... فهو لا يعود إلى البيت إلا متأخّراً بعد قضاء جلسات طويلة على طاولات الميسر... مسكينة أمّه... كانت مريضة جداً ولم يكن لديها المال لتتعالج لأنّه كان يبدّده في تلك السهرات... أذكر أن زوجتي كانت تساعدها بالتغاضي عن ديونها عندنا... وبعد وفاتها باع إبنها نصف الأثاث وقرّرَ أن المخرج الوحيد له هو الزواج من فتاة ثريّة... وأظنّ أنّ وسامته وكلامه المعسول سيساعدانه على إيجاد العروس التي يبحث عنها... لطالما كان هكذا... كسول وكاذب... مسكينة أمّه...

هنا أدركتُ أنّ الناس كانت على حق. رجعتُ إلى محل فساتين الأعراس وطلبتُ من زميلتي السابقة إخباري عمّا تعلم عن جهاد بعدما إعتذرتُ لها عن تصرّفي الفظّ معها. وهذا ما قالته لي:

- كل ما أعرفه أنّ ليلة تجمّعنا، كنتُ واقفة أتكلّم مع بضعة زملاء حين جاءَ جهاد وقالَ لنا: "أرأيتم بنت اللّحام؟ لا أصدّق أنّها أصبحت بهذه الرشاقة... ونجاحها الإجتماعي والمهني مذهل... لو علِمتُ أنّها ستصبح ثريّة، لما ضحكتُ عليها في الماضي... سأعمل جهدي لكسب ودّها فعليّ ديون كثيرة وهكذا نساء تقعنَ بسهولة... أظنّ أنّ حظّي السيء قد زال... أدعو لي بالتوفيق!". كان بودّي تنبيهكِ في حينها ولكنّنا لم نكن يوماً مقرّبتَين، فعندما جئتِ إلى هنا قرّرتُ أن أتكلّم ولكنّكِ غضبتِ ورحلتِ.

شكرتُها على صراحتها وذهبتُ فوراً أعتذر لريما وتصليح الوضع بيننا. ثمّ توجّهتُ إلى مكتبي لأفكّر مليّاً بكل ما سمعتُه عن جهاد وإستنتجتُ أنّ إصراري عليه لم يكن من دافع الحبّ بل للإنتقام من كل من ضحِكَ عليّ في المدرسة وللإثبات لهم أنّني قادرة على الحصول على الأكثر شعبيّة. ثمّ أخذتُ هاتفي وإتصلتُ بجهاد وأخبرتُه أنّ أسهم شركتي هبطت فجأة وأنّني خسرتُ مبالغ طائلة وأنّ الحلّ الوحيد للتعويض للمستثمرين كان بيع شقّتي. وكما توقّعتُ إختفى خطيبي بلحظة وإنقطعَت أخباره كليّاً. بكيتُ على نفسي بضعة أيّام، ثمّ تابعتُ حياتي ووعدتُ نفسي أن أجد مَن يحبّني أنا وليس مالي.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button