سافرَ زوجي وظنَّ أنّني غبيّة

عندما تزوّجتُ مِن قاسم كنّا في حالة غرام لا مثيل لها نَعِد بعضنا بشتَى أنواع الإلتزام والوفاء والتفاني. وأظنّ أنّ الوضع مماثل عند كل مَن إرتبطَ مع أحد في سنّ مبكّر لأنّ الإفتقار إلى الخبرة أو بعد النظر يزجّ المرء في عالم خياليّ ومثاليّ زهريّ اللون. ولكن الحياة ليست لعبة والأيّام ليست كلّها جميلة والحبّ وحده لا يكفي لمواجهة الصعوبات في حال كان الثنائيّ يفتقد الى عنصر التواصل والتفاهم.

وما أحبَبتُه بِقاسم كانت أوّلاً وسامته وقدرته على جذب كل الناس مِن حوله وإستقطاب الأنظار والإهتمام وشعرتُ بفخر كبير عندما إختارَني أنا بالذات. ومِن جهّة أخرى أحبّ هو نعومتي وخجلي وعينَيّ الواسعتَين التي كان يحبّ التحديق بها. وككل رجل أمِلَ أن أظلّ هكذا طوال حياتي ولكنّ الناس تتغيّر خاصة إن خابَ أملها بالآخر.

الأشهر الأولى لزواجنا كانت جميلة نقضيها خارج المنزل بِصحبة أصدقاء أو عند الأقارب وكان يدور معظم الحديث حول زواجنا وحفلة زفافنا التي أعجبَت الكل. ولكن بعد تلك الفترة بدأ وهج الإبتهاج يزول وشعرتُ بأنّ قاسم قد طمأنَ باله مِن ناحيَتي وباتَ ينشغل عنّي. وبالطبع تفهّمتُ الموضوع خاصة أن عملَه في المطعم كان يأخذ منه مجهوداً كبيراً كونه المدير والمسؤول عن سير الأمور. وعندما طلبتُ منه أن يعيرني إهتماماً أكبراً لأنّني كنتُ أشعر بالوحدة طوال النهار في شقتّنا الجديدة والبعيدة عن أهلي قال لي:

 

ـ وكيف ستتحملّين الوضع بعدما أسافر؟

 

ـ تسافر؟ إلى أين؟

 

ـ إلى إيطاليا... ألم أقل لكِ؟

 

ـ لا! ومنذ متى تنوي الرحيل؟

 

ـ منذ... مِن فترة... غير طويلة.

 

ـ مِن قبل أن نتزوّج؟

 

ـ أجل... ولكنّني لم أكن قد حصلتُ على القبول... لا تخافي... سآتي لرؤيتكِ كل شهر... هذه فرصة ذهبيّة... إنَه مطعم فخم في وسط نابولي... وإن ثبتُّ هناك ستلحقين بي.

 

ـ ولكن...

 

ـ لا تجادليني حبيبتي... لو لم يكن الأمر مهمّاً لما قبِلتُ بِترككِ... سترَين... سيأتي يوم وتشكريني على سفري.

 


ولأنّني تربّيتُ على عدم الوقوف بِوجه مستقبل رجل رضختُ للأمر الواقع وسافرَ زوجي بعد ستّة أشهر على زواجنا. وكما وعَدَني أصبحَ يأتي إلى البلد يومَين في الشهر. ولكن باقي الوقت كنتُ أقضي وقتي بالبكاء لأنّني كنتُ أشتاق إليه وأشتاق إلى وجود أحداً معي.

فكّرتُ بالإنتقال إلى منزل أهلي ولكنّني تراجعتُ عن قراري بعدما علِمتُ أنّ أخي يريد الزواج والعيش هناك فرأيتُ أنّ المكان سيضيق بنا ومِن الأفضل أن أبقى حيث أنا. وكان قاسم يبعث لي بالمال ولكنّني لم أكن أعلم ما أفعل به لأنّ مصروفي كان قليلاً ولا أشتري الكثير مِن الثياب بسبب قلّة خروجي. فبدأتُ أضع المال جانباً في حساب فتحتُه بإسمي لأنّه كان مخصّصاً لي وللمنزل. وبالرغم مِن مجيئه الشهريّ لم نستطع الإنجاب حتى بعد أن علِمنا أنّ لا خطب جسديّ فينا. وكلّ ما إستطاع الطبيب قوله كان:"عليكما الصبر... تستطيعان إنجاب دزينّة أولاد ولكن الوقت ليس مؤاةٍ... لا تزالان شباباً... أصبرا." ما زادَ مِن إكتئابي لأنّني كنتُ أحلم بأن يصبح لديّ طفلاً يملئ عليّ وحدَتي.

 

أمّا قاسم فلم يكن يبالي كثيراً خاصة بعدما أصبحَ مسؤولاً عن المطعم في إيطاليا. فمجيئ مولوداً في ذلك الوقت كان سيعيق عمله وإنتباهه. لِذا عمِلَ على تهدئتي قائلاً أنّ الله وحده يقرّر ما هو الأفضل لنا. وبما أنّني كنتُ بلا هدف معيّن أصبح عندي إهتماماً كبيراً في أمور المال وتوظيفه وأقرأ على الإنترنت وفي الصحف عن الأسواق وأسعار العملات فقرّرتُ أن أحوّل ما يبعثُه لي زوجي إلى ذهَب.

في البدء إشتريتُ سواراً وحلى ومِن بعدها ليرات ذهب وكل ذلك حسب الأسعار اليوميّة. وكنتُ كالطفل الذي وجَدَ وسيلة تسلية جديدة ولكنّني لم أخبر قاسم بالأمر لا لأخفي عنه الأمر بل لأنّني إعتبرتُ أنّ ذلك كان عالمي الخاص ولأنّه لن يفهم ولَعَي الجديد بالمال وسيفسّره بأنّني أصبحتُ جشعة أو شيئاً مِن هذا القبيل.

وما لم أكن أدركه بعد هو أنّ ذهني كان مبرمجاً على الأعمال ولكنّني لم أصادف مِن قَبل فرصة لأكتشف ذلك خاصة أنّني كنتُ أسمع منذ صغري أنّ "مستقبل البنت هو الزوج".

ومرَّت خمس سنوات على هذا النحو وأصبحَ لدَي مبلغاً لابأس به أفتخر به وأنوي الإفتخار به أكثر أمام زوجي عندما يعود نهائيّاً أو يدعوني لللحاق به حيث هو. ولكنّه بقيَ يردّد أنّه لم يركّز نفسه جيّداً بعد أو أنّه بحاجة لوقت أطول ليقرّر ما سيفعله. وما أبقاني صابرة هو شوقه لي كلّما أتى فكنّا نقضي أيّاماً جميلة مليئة بالحب والشغف وإعتقدتُ فعلاً أنّه كان يجبّي بقدر ما كنتُ أحبّه.

ولكن الأمر كان مغايراً لذلك ولم أشكّ بشيء حتى أن قصَدَني أخي وطلَبَ منّي أن أكلّم قاسم ليجد له عملاً بالمطعم بعدما خسِرَ عمله بسبب إقفال الشركة التي كانت توظّفه. وبعد أنّ نبّهتُ أخي عن مخاطر ترك زوجته وإبنه والرحيل بعيداً أوصَلتُ طلبه إلى زوجي. وردّة فعله كانت عنيفة وقاطعة: لن يوظّف أحداً معه أيّ كان. وتشاجرنا لأنّني لم أفهم سبب كل ذلك الغضب وخسرتُ طبعاً الجدل.

عندها بدأتُ أسأل نفسي أسئلة كثيرة أودَت كلّها إلى نتيجة واحدة: كان زوجي يخفي عنّي شيئاً أو أشياء. والطريقة الوحيدة لِمعرفة الجواب كانت أن أزور قاسم في إيطاليا. لِذا إنتظرتُ حتى إن نسيَ موضوع أخي حتى أطلب منه الذهاب إلى إيطاليا وأمكث بضعة أيّام هناك. عندها أيضاً بدأ يعطيني أعذاراً غير مقنعة ولكنّني كنتُ مصمّمة على تحدّيه مهما كلّفَ الأمر. وقَبِلَ قاسم على مضد بعدما وعدتُه أنّني لن أطول الزيارة ولن ألهيه عن عمله لأنّني كنتُ أنوي السياحة والتفرّج.

وسافرتُ إلى نابولي وأحببتُ المدينة فوراً. أحببتُ ناسها ومناخها وأكلها. وزرتُ المطعم وتعرّفتُ إلى المالك الذي كان مصريّ الجنسيّة وألى باقي الموظّفين. ومكثتُ في الشقّة الصغيرة التي كان يسكن فيها زوجي وبدأتُ أتخيّل أنّني أعيش هناك بِصورة دائمة وأعترف أنّ الأمر أغواني كثيراً. وعندما أخبرتُ قاسم بالذي أشعر به وأنّ لا مانع لدَي بالإنتقال إلى نابولي صَرَخَ بي:

 

ـ لا! لا أريدكِ أن تعيشي في هذا المسكن الصغير فهذا لا يليق بكِ... عليكِ الإنتظار حتى تتحسّن أحوالي.

 

ـ ولكنّني لا أمانع! على كل حال أصبحَ لدينا...

 


وسكتُّ فجأة لأنّني كنتُ على وشكَ أن أخبره بأمر الذهَب ولكن شعور دفيناً منَعَني مِن ذلك. وفي تلك اللحظة سألتُ نفسي لماذا قرّرتُ عدم إخباره فوجدتُ أنّ أموراً عديدة منعَتني مِن ذلك وأهمّها إصرار زوجي على إبعادي وإبعاد أيّ شخص أعرفُه عنه. ولأنّني لم أكن غبيّة قرّرتُ أن أكشفَ سرّ تصرّفه هذا. لِذا بعدما إنتهَت مهلة مكوثي تداعَيتُ الرحيل.

فبعد أن أوصَلني قاسم بنفسه إلى المطار ورأيتُ سيّارة الأجرة تبتعد أخَذتُ سيّارة أخرى وطلبتُ مِن السائق أن يأخذَني إلى أي فندق مُتواجد بالقرب مِن شقّة زوجي. وبعد أن وجدتُ أخيراً غرفة وضعتُ حقائبي نزلتُ إلى الشارع وبدأتُ أرسم خطّة لِمراقبة الذي لا يريدني بِقربه. ولأنّ خطأ كل محتال هو أن يعتقد أنّه أذكى مِن الآخرين فلَم يخطر على بال قاسم أنّ زوجته البريئة لا تزال في نابولي.

وفي صباح اليوم التالي بينما كنتُ جالسة على مقعد مقابل شقّة زوجي رأيتُه يخرج مِن المبنى بصحبة إمرأة. ومشيا سويّاً متعانقَين حتى المطعم حيث قضيا النهار. ولأنّني كنتُ أعرف دوام قاسم علِمتُ أنّه سيعود إلى مسكنه بعد الظهر ليرتاح ومِن ثمّ يرجع لإكمال عمله في الليل. وسأتوّقف قليلاً عند شعوري عندما رأيتُه مع تلك المرأة لأنّ الأمر مُلفت.

فالحقيقة كانت أنّني غضبتُ كثيراً ولكنّني لم أحزن كما كانت ستفعل أي زوجة في مكاني. ورددتُ الأمر إلى البعد الذي كان بيننا والوحدة التي تعوّدتُ عليها. فكنتُ قد تعلّمتُ أن أعيش مِن دون الذي أحببتُه عالمة بِقرارة نفسي أنّه لا يحبّني كما يجب. غضبتُ منّه لأنّه غشّني وإستغباني وإحتقرَ كياني وموقعي كزوجة. غضبتُ منه لأنّه إستبدَلني بسرعة بينما بقيتُ وفيّة له. غضبتُ لأنّه سمحَ لنفسه أن يعيش قصّة حبّ كان قد حَرَمَني منها بعدما حوّلَني إلى ناطورة بيت.

وفي المساء لبستُ ثياباً جميلة وتوّجهتُ إلى المطعم وجلستُ على إحدى الطاولات. ثم ناديتُ النادل وطلبتُ بعض الأكل. وركضَ هذا الأخير يخبر قاسم أنّني موجودة هناك. لن أستطيع وصف ملامح زوجي عندما خَرَج مِن المطبخ ورآني. كان وكأنّه رأى شبحاً. إصفرّ وجهه وتوجَه إليّ يصرخ:


ـ ماذا تفعلين هنا؟؟؟

 

ـ كما ترى... جئتُ لِتناول العشاء.

 

ـ لِما لَم تعودي أاى البلد؟ لقد أوصَلتُكِ إلى المطار!

 

ـ أجل... وغيّرتُ رأيي... لم أشبع مِن نابولي... يا للمدينة الجميلة!

 

ـ عودي إلى البلد الليلة!

 

ـ ليس قبل أن تعرّفني إلى عشيقتكَ... آه... ها هي واقفة هناك وراء الصندوق!

 

ـ ماذا تقولين؟ لا أسمح لكِ...

 

ـ أصمت! أنا لا أسمح لكَ أن تخونَني! أسمعتَ؟ عار عليكَ أن تتزوّجني وترميني في البيت هكذا!

 

ـ أنا رجل... وأشعر بالوحدة هنا...

 

ـ أمّا أنا فلا؟ ماذا لو أخذتُ عشيقاً لينسيني وحدتي؟

 

ـ هذا لا يجوز!

 

ـ أصمت! كفاكَ كلاماً فارغاً... عُد إليها فلا أريدكَ بعد الآن... لقد إشمئزّيتُ منكَ... هنيئاً لها بكَ... ما إسمها؟ أم تريدني أن أسألها بنفسي وأحدث جلبة؟

 

ـ إسمها ناهد... هي قريبة المالك.

 

ـ آه... جميعهم على علم بِخيانتكَ... برافو... سأرحل الآن لأنّني إمرأة محترمة... وعندما أصل البلد سأطلب الطلاق وإيّاكَ أن تصعّب الأمر عليّ وإلاّ كرّستُ حياتي لأنكّد عيشتكَ فليس لديّ شيء آخراً أفعله.

 

ورحلتُ وعلى وجهي بسمة عريضة لأنّني أنقذتُ شرَفي ولأنّ علبة مليئة بالذهَب كانت تنتظرني في الخزنة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button