صارَت هنادي محطّ سخرية الناس، بعد أن تطلّقَت للمرّة الثالثة ولا تزال تَعِدُ نفسها ومَن حولها أنّها ستجِدُ رجُل أحلامها يومًا. وهي كانت تصِفُ ذلك الرجُل بالتفاصيل المُملّة: شابّ ووسيم وذكيّ وعاقِل ومُحِبّ ووفيّ وكريم... وثريّ! صحيح أنّنا كنّا نحلُم جميعًا بهكذا عريس إلا أنّنا، على عكس هنادي، كنّا نعلمُ أنّه ليس موجودًا إلا في الأفلام والروايات. لكنّ هنادي كانت تؤمِن حقًّا بأنّ القدَر سيجمعُها به يومًا وأنّ زيجاتها السابقة ليست سوى "بروفات" بانتظار السعادة المُطلَقة. ومِن حسن حظّها أنّها كانت عاقِرًا، فتصوّروا لو هي أنجبَت مِن أزواجها الثلاثة!
للحقيقة، الكثيرات حسدنَها، خاصّة اللواتي لا تزَلنَ عازبات أو اللواتي تزوّجنَ مرّة واحدة ولَم تكنّ سعيدات في زواجهنّ. والأمر الذي زادَ مِن امتعاض الكثيرات تجاهها، هو أنّها كانت قد بلغَت الخمسين مِن عمرها ولَم تكن آية في الجمال، بل سيّدة عاديّة الملامِح والقوام.
أمّا أنا، فكنتُ أُحبُّها كما هي، فهي كانت في آخِر المطاف ابنة خالتي وأعرفُها منذ ولادتي، وهي لَم تتغيّر قط. وأظنّ أنّ ابتسامتها هي سرّ جذبها للرجال حتى لو كانوا يبحثون عن امرأة أجمَل وأصغَر سنًّا.
سافَرتُ وعائلتي إلى كندا بحثًا عن ظروف عَيش أفضل، واستقرَّينا هناك بصورة دائمة بعد أن وجَدتُ وزوجي عمَلاً ودخَلَ أولادُنا المدارس. كانت قد مضَت حوالي الخمس سنوات، حين وصلَني اتّصال مِن هنادي:
ـ أنا هنا!
ـ أين هنا؟
ـ في كندا! لقد وصلتُ البارحة... لستُ بعيدة عنكِ، هل لي أن أزورَكِ بعد فترة قصيرة؟
ـ بالطبع، فلقد اشتقتُ لكِ ولأيّ أحَد له صلة بالعائلة والبلَد! حدّدي موعد وصولكِ لأحضّرَ لكِ ملقىً مُناسبًا.
وفي اليوم المُحدَّد، وصلَت ابنة خالتي... وبِصحبتها رجُل! ومِن نظراتها الضاحكة لي، فهمتُ على الفور أنّه عريسها الرابع المُترقَّب! هزَّ زوجي برأسه مُبتسمًا وكأنّه يقولُ: "لن تتغيّرَ هنادي أبدًا!". أدخَلنا زائرَينا، وأدرَكنا أنّ "العريس" كنديّ الجنسيّة فحدّثناه بالإنكليزيّة وتفاجأتُ بطلاقة ابنة خالتي في تلك اللغة. يا لها مِن امرأة مُتعدِّدة المواهب! لَم أعلَم أيًّا مِن التفاصيل التي أدَّت لتعارفهما، إلا أنّني رأيتُ بوضوح كيف أنّ جون ينظرُ إليها ويُمسكُ بِيَدها كلّما أتيحَت له الفرصة. لكن مِن جهّة أخرى، كان مِن الواضح أنّه يصغرُها سنًّا وبعشر سنوات على الأقلّ. تفاجأتُ بفخامة سيّارته حين واكبناهما إلى الخارج عندما قرّرا الرحيل، وتمنَّيتُ لهما التوفيق مِن كلّ قلبي.
بعد أن عُدنا إلى الداخل، قال لي زوجي:
- لن يطولَ زواجهما، فهو أفضل منها حالاً مِن كلّ النواحي. أتُراهنين على فشل العلاقة أم نجاحها؟
فكّرتُ مليًّا وأجَبتُه:
- حسنًا... أقولُ إنّهما سيتزوّجان وسيكونان سعيدَين.. وإن بقيا سويًّا سنتَين، ستشتري لي سيّارة جديدة، وإن انفصلا قَبل ذلك الحين سأُنفُّذ لكَ كلّ طلباتكَ... مهما كانت!
قلتُ ذلك مُضيفةً غمزة باتجاهه ليفهَم ما أعنيه تمامًا، فابتسَمَ مِن كثرة فرحته وتأكّدِه مِن فشَل زواج هنادي. ومنذ ذلك اليوم، صارَ زوجي يشتري لي الملابس الداخليّة الجميلة والجريئة قائلاً: "تحضيرًا لخسارتكِ، يا زوجتي العزيزة!".
تواصلتُ مع هنادي بصورة دائمة، وهي أطلعَتني على تحضيرات الزواج الذي كان سيُعقَد في كندا وتطوّعتُ لمُساعدتها. لَم أسألها أيّ سؤال، بل تركتُها على سجيّتها عالمةً تمام العِلم أنّها ستتكلّم مِن تلقاء نفسها.
وفي أحَد الأيّام، هي جاءَت لزيارتي لوحدها، فجلَسنا سويًّا في غرفة الشتاء كما نُسميّها، وقدّمتُ لها الحلوى والشاي، ثمّ بدأَت ابنة خالتي بالكلام:
ـ كيف وجدتِ جون؟ كوني صريحة، أرجوكِ، فأنا أثِقُ بحكمكِ.
ـ يبدو أنّه رجلٌ مُحترَم ومُقتدِر ورأيتُ كيف هو مفتون بكِ.
ـ ولكن؟
ـ كيف علِمتِ...
ـ ولكن؟
ـ أعني أنّني أخشى أن يكون فارق السنّ...
ـ هاهاها... علِمتُ أنّكِ ستثيرين هذه النقطة!
ـ أخافُ عليكِ يا هنادي، فأنا أُحبُّكِ كثيرًا ولا أُريدُ أن يُحطِّمَ أحدٌ قلبكِ.
ـ يا حبيبتي، سأتزوّج للمرّة الرابعة، هل تخالين أنّ أحدًا باستطاعته أن يُحطّم قلبي؟
ـ قد تكونين على حقّ. على كلّ الأحوال، أتمنّى لكِ السعادة الدائمة!
حضَرنا حفل زفاف هنادي وجون والكوكتيل اللذيذ الذي تلا، وذهَبَ العريسان في شهر عسل في إحدى الجزُر الخياليّة الجمال.
أُطَمئنُ بالكم، حصلتُ على سيّارتي الجديدة وعلى اعتراف مِن زوجي بأنّني على حقّ! لكن دعوني أقصُّ لكم ما حصَلَ لهنادي وجون ولن تصدّقوا ما ستقرأونَه!
فلقد أسَّسَت ابنة خالتي، بِفضل مال زوجها، شركة مُستحضرات تجميل تصنعُ المساحيق والعطورات في الصين وتبيعُها للمُصمّمين تحت اسمهم. وبفضل خبرة زوجها في الأعمال ودعمه لها، لاقَت الشركة نجاحًا كبيرًا وأرباحًا سريعة وكبيرة. وبغضون سنوات قليلة، صارَت ابنة خالتي سيّدة أعمال ناجِحة ومُستقِلّة مادّيًّا، بعد أن كانت المُستفيدة الوحيدة مِن الذي تجنيه. مِن جانبه، تابَعَ جون أعماله وبقيَ يهوى هنادي كما في اليوم الأوّل، فتبيَّن أنّهما كانا مُتجانسَين تمامًا.
زرتُها يومًا في شركتها وذُهِلتُ بالمكان وعدَد الموظّفين، فهنّأتُ هنادي على إنجازاتها. سألتُها عن زوجها، وهي أجابَت:
ـ جون ليس على ما يُرام... إكتشَفنا أنّ لدَيه ورَمًا خبيثًّا.
ـ يا إلهي! وهل أنّه سينجو؟
ـ على الأرجَح لا، فهو بلَغَ المرحلة الأخيرة. سرطانه هو مِن النوع الصامِت والخبيث للغاية. لكنّه شجاع وليس خائفًا مِن الموت. خوفه الوحيد هو تركي لوحدي.
ـ أنا آسفة يا هنادي... كَم أنّ الحياة غريبة، وهو أصغَر منكِ سنًّا...
ـ وسيموتُ قَبلي، أعرفُ ذلك. وأعرِفُ أنّ عددًا كبيرًا راهَن على رحيلي قَبل جون، لكن وحده الله يعرفُ ما ينتظرُنا. أشكرُ ربّي أنّه أعطاني رجُلاً طيّبًا حتى لسنوات قليلة.
ـ ماذا ستفعلين بعد... أعني...
ـ لدَيّ شركتي التي تأخذُ منّي وقتًا كثيرًا، وسأرِثُ جون. لا تخافي، سأكون بخير، على الأقلّ مِن الناحية المادّيّة. المسكين...
حضَرنا بحزن مأتَم جون، ولَم أترُك ابنة خالتي إلا حين تأكّدتُ مِن أنّها ستكون بخير لوحدها. ثمّ هي سافرَت إلى البلد لتعودَ ولو لفترة لِجذورها ومكثَت هناك حوالي الشهر. عند عودتها، لاحظتُ تغيّرًا فيها لَم أستطِع تحديده لكنّه كان إيجابيًّا، وكان ذلك كافيًا بالنسبة لي.
وذات يوم، عادَ زوجي مِن عمله وصرَخَ عاليًا:
- ما بال قريبتكِ هنادي؟ لقد سمعتُ أنّها تنوي الزواج مُجدّدًا! إيّاكِ أن تطلبي منّي شيئًا في ما يخصّ نجاح أو فشَل هذا الزواج، فلقد كلّفَتني سيّارتكِ مبلغًا كبيرًا!
لكثرة مُفاجأتي، نسيتُ أن أذكِّرَه بأنّه هو الذي وضَعَ الشرط وليس أنا في المرّة السابقة. وأسرعتُ بالذهاب إلى إبنة خالتي لمعرفة صحّة الخبَر. ولحظة ما سألتُها عن الموضوع ورأيتُ ابتسامتها، فهمتُ أنّ الخبَر صحيح. هي قالَت:
ـ وهل تُريديني أن أقضي باقي حياتي وحيدة؟ بالطبع لا. إنّه رجُل مُمتاز وجذّاب للغاية! وهو ابن بلَدي.
ـ قد يكون يسعى وراء ثروتكِ يا هنادي، إحترسي!
ـ هاهاها... يضحكُ عليّ رجُل؟!؟ لقد شارطتُه بأنّ عليه التوقيع على مُعاهدة عدَم مُشاركتي مالي على الاطلاق.
ـ إذًا هو يُحبُّكِ بالفعل.
ـ بالتأكّيد! إسمعي، صحيح أنّني شارَفتُ على الستين مِن عمري، لكنّ ذلك مُجرّد رقم وليس إلا. الانسان لا يشيخُ إلا مِن الخارج، فأنا لا أزال صبيّة مِن الداخِل.
ـ لكنّ الرجال لا يُحبّون سوى الصّبايا.
ـ هؤلاء الذين تتكلّمين عنهم يُحبّون أنفسهم ويخافون مِن الشيخوخة، فيوهمون أنفسهم بأنّهم لا يزالون شبابًا. لكنّ الرجُل الحقيقيّ الذي يتحلّى بالنضوج والثقة بالنفس يبحثُ عن امرأة حقيقيّة تُقاسمه أفكاره وهواياته وميوله. الرجُل الحقيقيّ يرى المرأة مِن خلال قلبه وليس عَينَيه.
ـ كَم أنّكِ حكيمة يا هنادي.
ـ أنا تلميذة الحياة، وتعلّمتُ كلّ ذلك مِن أخطائي وأخطاء مُجتمع يحرمُ المرأة مِن حياتها إن كبُرَت قليلاً ويضعُها في سلّة المُهمَلات. إنّها حياتي وأعيشُها كما يحلو لي. وفي آخِر المطاف، كلّ علاقاتي هي بالحلال وصادقة. فإن كنتُ لا أُغضِبُ ربّي وحاصِلة على رضاه، فلماذا أبحثُ عن رضى الناس؟
حاورتها بولا جهشان