زوّجوني لِشاب مريض

أتذكّر تماماً ما حصلَ لي عندما أخبَرَتني أمّي أنّني سأتزوّج مِن سامر. نظرتُ إليها بِدهشة ومِن ثمّ ضحكتُ ظانّة أنّها دعابة. ولكن عندما أمعَنتُ بوجهها ورأيتُ حزنها عليّ أدركتُ أنّ الأمر حقيقيّ. عندها بدأتُ أصرخ وأهدّد وأستنكر ومِن ثمّ بكيتُ كثيراً.

والحقيقة أنّ ذلك الشاب كان ابن مدير أبي في العمل وبالرغم مِن ثراءه كان إنساناً عاديّاً يفتقر إلى حسّ الفكاهة والتواصل مع الناس. كنتُ قد التقَيتُه عدّة مرّات خلال حفلات أقامَتها الشركة وعندما أتى مع عائلته إلى منزلنا لتناول العشاء. وكنتُ قد سألتُ نفسي حينها لِما يأتي المدير وزوجته إلى مسكننا المتواضع وفهمتُ معنى هذا التقارب عندما علِمتُ نواياهم فيما يخصّني.

ومِن الغريب أن يودّ سامر الزواج منّي أنا بالذات، أوّلاً بسبب الفارق الاجتماعيّ وثانياً لأنّه لم يبدِ ولو مرّة أي اهتمام بي. وبالطبع حاولتُ التملّص مِن الارتباط الذي كان مخطّط له ولكنّني واجهتُ إصراراً صارماً مِن قِبَل والديّ وخاصة أبي. وعندما نفذَت حججهما قال لي أبي بكل صراحة:

 

ـ لا أستطيع الرفض... مديري يريد ذلك ولن أقدر رفض هكذا عرض... لا تزالين صغيرة ولا يمكنكِ فهم الحياة... نأكل ونشرب مّما أجنيه في عملي... ومِن المؤكّد أنّني سأفقد وظيفتي إن رفضنا ابنه فذلك يكون بمثابة إهانة عُظمة له.

 

ـ ولكنّني أستطيع العمل! لقد تخرّجتُ ومِن السهل عليّ إيجاد مورد رزق يكفينا فنحن نعيش ببساطة على كل الأحوال!

 

ـ كفى جدلاً! لن أبقى في البيت بينما ابنتي تُعيلني!

 

ـ ولن أتزوج مِن هذا الإنسان التافه!

 

وركضتُ أختبئ في غرفتي وأبكي على المستقبل البشع الذي أعدّه لي والدي. وحدها أمّي كانت تشعر بكآبتي ولكنّها لم تكن قادرة على الوقوف بوجه زوجها.

وبعد فترة قصيرة جاء سامر لِيَزورنا وأُجبرتُ على الجلوس معه ومحادثته. وكرهتُه أكثر مِن قبل لأنّني تخيّلتُ نفسي معه في مواقف حميمة وشعرتُ ببدَني يقشعّر مِن رأسي إلى أسفل قدَميّ. ولكن بالرغم مِن محاولاتي لم أنجح بالإفلات مِن مصيري.

وهكذا أُقيمَ لنا زفافاً خياليّاً لم أكن لأحظى به لو تزوّجتُ مِن آخر. ولكن في ذلك اليوم لم يجفّ دمع عينيّ واعتقدَ الجميع أنّني متأثّرة بأجمل يوم بحياتي. وعندما دخلنا غرفة الفندق أوضَحتُ الوضع لسامر:

 

ـ اسمع... صحيح أنّني أصبحتُ زوجتكَ ولكن على الورق فقط... إيّاكَ أن تقترب منّي وإلاّ بدأتُ بالصراخ وجلبتُ الناس كلّها على صراخي.

 

ـ لا داعي للتهديد فلم أردكِ أنا أيضاً.

 

ـ ماذا؟

 


ـ أجل... لقد فرضوكِ عليّ... لن ألمسكِ... كوني على ثقة بذلك.

 

ـ ولكن... لماذا أرادوا تزويجنا أذاً؟

 

لم يجب على سؤالي ولكنّني كنتُ متأكّدة أنّه يعرف الجواب. ومِن بعدما قضينا الليل وكل منّا على حِدى، سافرنا في الصباح التالي إلى باريس. هناك اكتشفتُ حسنات الثراء واستمتعتُ بوقتي كثيراُ بالرغم مِن جديّة سامر وقلّة تجاوبه مع رغبتي في اكتشاف المدينة على أقدامنا. وفي تلك الرحلة أطلقتُ عليه لقب "الكسول" واستعملتُه فترة قصيرة فقط لأنّني اكتشفتُ بِسرعة سبب خموله. حصلَ ذلك بعد زواجنا بِبضعة أشهر وبالرغم مِن عدم ممارستنا للجنس كنتُ قد بدأتُ أستلطفه قليلاً لأنّه كان طيبّاُ ومحبّاً. ولكنّني لاحظتُ أنّه يوقِع دائماً الأشياء مِن يدَيه وبعد أن سخرتُ منه مراراً قال لي بِصوت جديّ:

 

ـ لا أفعل ذلك قصداً بل بالرغم عنّي...

 

ـ أعلم ذلك فمَن يحب كسر الأواني والأشياء عمداً؟

 

ـ أقصد... أقصد أنّني لا أستطيع السيطرة على عضلاتي.

 

ـ ولماذا؟ هل مِن خطب ما فيك؟

 

ـ أجل.

 

وجلسنا سويّاً وأخبرَني أنّه مصاب بمَرض "شاركو" أي أنّه ولِسبب مجهول يفقد تدريجياً قدرته على السيطرة واستعمال عضَل جسمه. عندها صرختُ:

 

ـ ومنذ متى تعلم بِحالتكَ هذه؟

 

ـ منذ سنة تقريباً.

 

سكتُّ مطوّلاً ثم سألتُه عن تطوّر مرضه. فأجاب:

 

ـ سأفقد قدرتي على استعمال ذراعيَّ وقدميَّ... والقدرة على الكلام... ومِن ثم على الأكل ومِن بعدها على التنفّس... ومِن بعدها سأموت.

 

وبكيتُ. ليس عليه بل على نفسي وتمتمتُ:

 

ـ كيف تتزوّج وأنتَ في هذه الحالة؟ ولماذا؟

 

ـ هذا ما أراده أبي... يريد أن أنجب قبل أن... أن أرحَل.

 

ـ ما هذه الأنانيّة!

 


وفي تلك اللحظة خطَرَ على بالي أن أسأله إن كان والدَيّ على علم بكل ذلك فأجابَني:

 

ـ أجل... لا تغضبي منهما فأبي عرضَ عليهما صفقة مربحة: تتزوّج ابنتهما مِن شاب سيموت بعد سنوات قليلة وترِث كل ماله... مَن باستطاعته رفض هكذا عرض؟

 

ـ أنا! كيف يمكن لأحد أن يفكرّ بالإنجاب وهو مريض؟ ألا تخاف أن يرث ولدكَ داءكَ؟؟؟

 

وخرجتُ مِن المنزل وقصدتُ منزل أهلي ودخلتُ كالمجنونة أصرخ عليهما وأتّهمهما بِبَيعي. وبعدما هدأتُ قليلاً نظرتُ إلى وجهَيهما ورأيتُ اليأس والحزن وأدركتُ أنّهما ضحايا مثلي. فقرّرتُ العودة إلى منزلي لاستيعاب ما يجري. ووجدتُ سامر جالساً في الصالون يحدّق في الحائط. اقتربتُ منه وقلتُ له:

 

ـ أنا آسفة على ردّة فعلي ولكن...

 

ـ أفهمكِ جيّداً... أنا آسف لأنّنا غشّيناكِ... ولكنّني لم أكن موافقاً على زجّكِ معي في رحلتي المؤلمة إلى الموت... إذا أرَدتِ ذلك سأعطيكِ الطلاق.

 

ـ عليّ التفكير بالأمر.

 

ولكن بعد حديثنا بأسبوعَين بدأت حركة زوجي تتباطأ وأصبح يجد صعوبة في التنقّل. عندها وجدتُ أن بقائي معه قد يفيده خاصة أنّ معنويّاته كانت متدّنية جدّاً.

 

وقرّرتُ البقاء معه لأنّ ضميري لم يكن لِيسمح لي بتركه هكذا. وبدأ صراعنا اليومّي فأبسط الحركات كانت مؤلمة وصعبة عليه. وبالرغم مِن وجود مدبرّة منزل كنتُ التي رافقَته مِن الصباح إلى المساء. ولأنّنا كنّا نمضي وقتنا كلّه سويّاً أصبحنا نتكلّم كثيراً ونتبادل آراء عديدة وتعرّفتُ إلى شخصه وشخصيّته واحببتُ ما اكتشَفتُه به. وشعرتُ أنّني أتعلّق به والذي خشيتُه حصل: وقعتُ بِغرمه. عندها أصبح هدفي الوحيد أن أسهّل حياته بكل إمكانيّاتي.

وعشنا أيّاماً وأسابيع جميلة نضحَك سويّاً حتى عندما كنتُ أمسك به ليتنقّل مِن مكان إلى لآخر أو ألبسه ثيابه. ولكن حياتنا الجنسيّة كانت لا تزال معدومة بالرغم مِن مشاعري نحوه لأنّني كنتُ أخاف لبَل أرتعِب مِن أن أحمل منه وأنجب منه خاصة بعدما قال لي طبيبه أنّ المرض قد يكون وراثيّاً وأنّ الأمر غير متأكّد. لِذا فضّلتُ الابتعاد عن أي تواصل جسديّ معه.

وبعد حوالي السنة لم يعد سامر قادراً على الاعتناء بنفسه بتاتاً وجلبنا ممّرضاً لينقله إلى الحمّام لأنّني لم أكن أتحلّى بالقوّة اللازمة لذلك. وفي تلك الفترة كنتُ أبكي عندما أجد نفسي لوحدي لأنّني كنتُ أعلم أنّ الرجل الذي بدأتُ أحبّه سيموت قريباً ولم يكن أحد قادراً على تغير ذلك رغم الدواء الذي كان المفروض به أن يؤخّر النهاية.

والذي كنّا نخاف منه حصلَ فبعد سنة أخرى لم يعد سامر قادراً على التنفّس لوحده وأصبح بحاجة إلى مكنة يبقى مربوطاً بها طوال الوقت. عندها قال لي:

 

ـ شكراً على لطفكِ... لقد عانيتِ معي كثيراً مع أنّكِ كنتِ قادرة على الرحيل...

 

ـ بقيتُ لأنّني أحببتُكَ فعلاً... أنتَ حبيبي... وسأظلّ معكَ طالما بقيَ فيكَ نفساً واحداً.

 

ومسكتُ يده وابتسمنا لِبعضنا. وفارقَ سامر الحياة بعد ستّة أشهر خلال نومه. بكيتُ كثيراً عليه لأنّه كان إنساناً مميّزاً. وسألتُ نفسي مراراً كيف كانت ستكون حياتي معه لو لم يكن مريضاً.

والذي عّزاني هو أنّه شعَرَ بحبّي له وبِوجودي الدائم معه وإيماني بأنّنا سنجتاز الظروف الصعبة. وعندما ورثتُ ثروته كلّها أعطيتُ نصفها لِمختبر يهتمّ بالبحث عن علاج لهذا المرض المخيف على أمل أن أساهم في تخفيف ألم الناس.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button