زوّجتُ إبنتي لِلصّ سابق

كيف قبِلتُ بتزويج إبنتي الوحيدة لخرّيج سجون؟ للحقيقة لَم أتردَّد ولو للحظة في إعطاء برَكتي لتلك الزيجة، والسّبب يكمنُ في الأحداث التي سبقَت والتي سأرويها لكم بالتفاصيل.

كلّ شيء بدأ قَبل ست عشرة سنة، حين كنتُ مُدرّسًا في القسم التكميليّ لإحدى المدارس المُجاورة. وكان قد لفَتَ انتباهي تلميذ لدَيّ إسمه مازن. هو اتّسَم بالهدوء والذكاء والتهذيب، أي كان حلم كلّ مُدرِّس ومُدرِّسة. وأذكرُ حتى أنّني تمنّيتُ لو تُنجِبَ لي زوجتي إبنًا مثله لأفتخرَ به، فقد كان لدَينا إبنة ولا ننوي تركها وحيدة. إلا أنّ الله لَم يُرزقنا بذلك الولد، ربمّا لأنّه كان لدَيه خطّة مُغايرة. فالخالق يرسمُ لنا حياتنا بأسرها لحظة ما نولَد، لنتعلّم مِن تجاربنا ونرتقي يومًا بعد يوم.

درّستُ مازن ثلاث سنوات مُتتالية إلى حين لَم أعُد أراه فجأة. بالطبع سألتُ عنه لدى إدارة القسم فقيلَ لي إنّ أمّه توفّيَت، وراحَ يسكنُ عند جدّته بينما يُتابع والده عمله في الخارج. وبما أنّ بيت جدّته بعيد بعض الشيء، فهو اضطرّ لتغيير مدرسته. أسفتُ كثيرًا لتغيّبه عن صفّي إلا أنّني تمنّيتُ له مُستقبلاً يُشبهه، أيّ رائعًا وناجحًا. وعلى مرّ الأشهر والسنوات نسيتُ أمره، فتصوّروا عدَد التلامذة الذين أُصادفُهم خلال مسيرتي المهنيّة!

إلتقَيتُ بمازن ثانيةً بعد أكثر مِن خمس سنوات. أنا مُتأكّد الآن مِن أنّ الأمر، الذي كان صدفة بحتة، كان بالفعل محتّم الحصول. فما الذي أخذَني إلى تلك المنطقة في ذلك اليوم بالذات؟ كان مِن المُقرَّر أن آخذ عائلتي في نُزهة إلى الشاطئ، لكنّني غيّرتُ رأيي فجأة وقلتُ لزوجتي: "ما رأيكِ لو نُبدّل خطّتنا ونتّجه نحو الجبَل؟". وحدها إبنتي عارضَت ذلك، إذ أنّها كانت قد جلبَت معها ثياب السباحة وكلّ ما يلزم لقضاء النهار على الرمال الدافئة. إلا أنّها لَم تُرِد إزعالي وقبِلَت التنزّه في أعالي بلادنا الجميل.

كان الطقس رائعًا فقرّرنا التوقّف لشراء بعض المأكولات وتناولها وسط الطبيعة. وجدنا بقعة جميلة فأنزلتُ مِن صندوق السيّارة غطاءً أُبقيه دائمًا معي لهكذا مُناسبات. وبعد الأكل، إستلقَينا للتمتّع بالنسيم الناعم حين سمعنا صوتًا يصرخُ لنا:

 

ـ لا تتحرّكوا بل أعطوني ما لدَيكم مِن مال وحلى!

 


وقفتُ على رجليَّ بغضون ثانية ونظرتُ باندهاش إلى ذلك الشخص المُقنّع. ليس لأنّه ينوي سلبَنا... بل لأنّني تعرّفتُ إلى صوت مازن! هو أيضًا تفاجأ بي، الأمر الذي أربكَه للغاية فأخَذَ يُغيّرُ صوته. لكنّني كنتُ مُتأكّدًا مِن هويّته فنظرتُ إليه بأسف شديد وهزَزتُ برأسي. كان ذلك الشاب لصًّا صغيرًا بدلاً مِن أن يكون شخصًا لامعًا وناجحًا وشريفًا كما كان مُقدّرًا أن يحصل. أمّا هو، فأنزلَ رأسه ورأيتُ لبرهة دموعًا في عَينَيه. تراجَع مازن ببطء، ثمّ ركضَ إلى سيّارة كانت تنتظرُه على حافة الطريق فركِبَ فيها وقادَ به رفيقه بعيدًا. جلستُ ثانية على الغطاء وأمسكتُ رأسي بيَدَيّ مُحاولاً فهم الذي حصَلَ لتلميذي القديم حتى يُمسي على هذه الحال. كَم أنّ الحياة غريبة! عُدنا إلى البيت بصمت، فكانت زوجتي وابنتي قد فهمتا ما جرى واحترمتا جدّيّة الموقف.

في اليوم التالي رحتُ إلى مكتب التسجيل في المدرسة، وبحثتُ عن ملفّ مازن لأعرف عنوان تلك الجدّة التي اهتمَّت به بعد موت والدته. إنتظرتُ فرصة نهاية الأسبوع لأزور العجوز، واصطحبتُ معي إبنتي عن قصد لأريها كيف أنّ حياة المرء تأخذ منحىً مُختلفًا جذريًّا لأسباب لَم نحسِب لها حسابًا.

إستقبلَتنا الجدّة بالترحيب، فقد كنتُ قد اتّصلتُ بها مُسبقًا مُعرِّفًا عن نفسي. جلسنا في صالونها وهي قالَت لنا بعد أن قدّمَت لنا القهوة:

 

ـ أجل، لقد ضاعَ مازن بعد وفاة أمّه، أيّ إبنتي. كان في أوّل سنين المُراهقة وهو شعَرَ أنّ العالَم قد تحالفَ ضدّه، فامتلأ قلبه بالبغض والقساوة تجاه كلّ شيء وكلّ إنسان. حاولتُ جهدي يا سيّدي، صدّقني. ومِن ثمّ تعرّف حفيدي إلى هؤلاء الشبّان الذين يعتقدون أنّ كلّ الأمور مُتاحة لهم. نبّهتُه منهم ووصَلَ الأمر بي إلى حبسه في البيت، إلا أنّه هرَبَ ذات ليلة مِن دون عودة. كان في السادسة عشرة مِن عمره، أيّ منذ سنة بالتمام. بحثتُ عنه في كلّ مكان مِن دون أن أجده. وصلَني اتّصال منه مِن شهر تقريبًا يقول فيه إنّه بخير، وإنّ عليّ التوقّف عن البحث عنه فهو سعيد حيث هو مع رفاقه. أرادَ مازن أن يُرسل لي بعض المال إلا أنّني رفضتُ ذلك بشدّة، فمِن أين يأتي بالمال مع هكذا معشَر سوى مِن الرذيلة؟ لَم أُغضِب ربّي يومًا ولَم أكن أنوي تلطيخ نفسي بمال حرام.

 

إستمعتُ إليها بصمت، ثمّ بعد أن طلبتُ منها الرقم الذي بعَثَ لها مازن منه رسالة، شكرتُها وعدتُ وابنتي إلى البيت. وفي طريقنا سألَتني سلوى:

 

ـ ألهذه الدّرجة تُحبُّ مازن يا بابا؟

 

ـ أجل يا حبيبتي، وبالقدر نفسه أنا حزين مِن أجله.

 

ـ ماذا ستفعل الآن؟

 

ـ سأجده... وأحمله على إيجاد نفسه التي أضاعَها.

 

ـ وإن رفَضَ ذلك؟

 

ـ سأُحاول مِن جديد.

 

ومنذ ذلك اليوم، صارَ مازن هو هدَفي. لماذا هذا الإصرار؟ أوّلاً لأنّني مُدرِّس وعمَلي ليس فقط تلقين تلاميذي المعلومات، بل أيضًا تحضيرهم للحياة وتحصينهم ضدّ الإنحراف، وثانيًا، وما هو أهمّ، لأنّ ضياع مازن يعني ضياع الخَير مُقابل الشرّ وأنّ كلّ ولد ومُراهق بمَن فيهم سلوى يُمكنُه الانغماس في بحر الرذيلة. وتلك الفكرة كانت لا تُطاق.

 


حين سجّلتُ رقم مازن على هاتفي، بانَ إسم آخَر بفضل تطبيق يُظهِر تلقائيًّا صاحب الرقم الأساسيّ، وتبّيَنَ أنّه ملك شخص يُدعى أ. م. فتحتُ الفيسبوك وكتبتُ ذلك الإسم فظهرَت مجموعة مِن الحسابات أمامي. تصفّحتُها كلّها حتى وجدتُ صورة شاب يُشبه إلى حدّ كبير الذي كان يقودُ السيّارة حين حاوَلَ مازن سلبنا. فتّشتُ في حساب أ.م ورأيتُ أين يعمل والأماكن التي يتردّد إليها. لو يعرف الناس كم هو خطِر أن يعرضوا حياتهم هكذا على مواقع التواصل الإجتماعيّ، لكانوا توقّفوا على الفور عن فعل ذلك!

ركنتُ سيّارتي امام الكاراج الذي يعمل فيه أ.م وراقبتُه لأيّام عديدة. كان ذلك الشاب يُنهي عمَله مساءً ويقصدُ منزله، ثمّ يخرجُ منه ليتوجّه إلى مكان آخر، وهو مبنى قديم في حيّ قديم أيضًا ومُكتظّ بالسكان. لَم أتجرّأ على الصعود وراءه، فكان مِن الواضح أنّه إنسان سيّئ. ولكن في إحدى المرّات، رأيتُه يخرجُ مِن ذلك المبنى مع مازن، واستنتجتُ طبعًا أنّ تلميذي القديم يسكنُ هناك، وهذا ما كنتُ أُريدُ معرفته.

كان مِن الواضح أنّ مازن لا يُعاشرُ سوى ذلك الصديق في الوقت الحاضر، أي أنّه هو بالذات الذي يحملُه على القيام بالرذيلة، الأمر الذي كان سيُسهّل عليّ حلّ المُشكلة. لِذا قصدتُ يومًا ما ذلك الحّي باكرًا، وصعدتُ سلالم المبنى وقرعتُ على جميع الأبواب إلى أن فتَحَ لي مازن أخيرًا.

وقفنا صامتَين وجهًا لوجه دقيقة بكاملها، ثمّ دخلتُ مِن دون أن يدعوني هو للدخول. كان المكان صغيرًا للغاية وتعمُّ فيه فوضى لا توصَف وروائح كريهة. جلستُ على كرسيّ بعد أن أزلتُ عنه الملابس المُلقاة عليه وقلتُ له:

 

ـ لن أُلقيَ عليكَ المواعظ يا مازن، فأنتَ تعلَم تمامًا ما سأقولُه لكَ، بل سأذكّركَ فقط بمازن الذي عرفتُه سابقًا... مُراهق مُهذّب وذكيّ وذو طموح كبير.

 

ـ لقد ماتَ ذلك المُراهق.

 

ـ أنتَ قتَلتَه.

 

ـ بل الحياة التي قتلَته وليس أنا.

 

ـ تلومُ الحياة لأنّها أخذَت أمّكَ، لكن ليس كلّ من يتيَتَّم يقومُ بسلب الناس والمشي على طريق الخطأ. أنا لا أستخفُّ بألمكَ وضياعكَ، إلا أنّ اختلاق الأعذار أمر سهل. أنا مُتأكّد مِن أنّ تعرّفكَ إلى ذلك الشاب الفاشل أتى في وقت كنتَ بحاجة إلى رفيق، بينما كنتَ تعيشُ مع جدّتكَ العجوز وفي ظلّ غياب أبيكَ عنكَ. لكن إعلَم أنّ مِن السهل التخلّي عن رفقة لن تودي بكَ سوى إلى الهلاك الجسديّ والروحيّ. ستأتي معي الآن ولن تعود إلى هذه الشقّة... ستسكنُ معي وعائلتي. هيّا، إحزِم حقائبكَ.

 

بكى مازن بحرارة إلا أنّه رفَضَ عرضي بتهذيب. غادرتُ وقلبي حزين. تركتُ له رقم هاتفي في حال بدَّلَ رأيه.

إختفَت أخبار مازن لأكثر مِن خمس سنوات، إلى حين تلقَّيتُ منه إتّصالاً هاتفيًّا:

 

ـ سيّدي... لقد خرجتُ للتوّ مِن السجن. أجل، قمتُ بأعمال بشعة لكن تسنّى لي مطوّلاً وأنا وراء القضبان التفكير بما آلت إليه حياتي. وتمكّنتُ أيضًا مِن مُتابعة الدروس وتعلّم مهنة جيّدة. لقد خجلتُ مِن نفسي إلى حدّ لَم أتصوّره مُمكنًا ولا أُريدُ العودة إلى الحبس. هل ما زال عرضكَ لي قائمًا؟ أعدُكَ بألا أُطيلُ المكوث عندكَ، فقط ريثما أتشبّع قليلاً مِن محبّتكَ وتشجيعكَ لي حتى أتمكّن مِن رسم طريقي الجديد. لن تشعر بوجودي، أعدُكَ بذلك

 

إستقبلَت زوجتي وإبنتي مازن برحابة صدر، فهما كانتا قد تابعتا قصّته منذ البدء، وسرعان ما صارَ ذلك الشاب يشعرُ وكأنّه وسط عائلته. وبعد فترة، وجَدَ عملاً ومكانًا للعَيش فيه وودّعناه والدمع في عيوننا.

ما لَم أكن أعلمُه هو أنّ حبًّا كان قد نشأَ بين مازن وإبنتي الوحيدة، حبّ نظيف وشريف، على صورة تربيتي لوحيدتي، فتفاجأتُ بعد سنتَين بمازن يزورُني مُرتديًّا ثيابًا أنيقة وحاملاً باقة مِن الورود. قال لي:

 

ـ لَم أتقدَّم بطلبي هذا إلا حين تأكّدتُ مِن نفسي ومِن مسار باقي حياتي، فلا يُمكنُني إيذاءكَ يا سيّدي أو أذيّة مَن تُحبّ... وأُحبّ.

 

ـ ماذا ومَن تقصد يا مازن؟

 

ـ سأفهمُ تمامًا دوافعكَ لو رفضتَ طلبي يا سيّدي، وسأقبلُ به واعدًا بالرحيل نهائيًّا مِن حياتكم. إنّكَ تعني الكثير لي... الكثير، فلولاكَ لكنتُ لصًّا حقيرًا وليس أكثر.

 

ـ ما الأمر؟ تكلّم!

 

ـ جئتُ اليوم أطلبُ يَد سلوى إبنتكَ يا سيّدي. لا تغضب منّا أرجوكَ، فحبّنا مبنيّ على الإحترام المُتبادل. بمقدوري الآن تأمين حياة شريفة لوحيدتكَ وسأفعلُ جهدي لإعطائها كلّ ما لدَيّ. أطلبُ منكَ أن تؤمِن بي الآن كما آمنتُ بي منذ البدء، ولن أخذلكَ أبدًا.

 

ذرفتُ الدّموع يوم فرَح إبنتي ومازن، فهما أعزّ ما لدَيّ، وكنتُ واثقًا مِن أنّها لن تجِد أفضل منه عريسًا.

أنا اليوم أسعد جِدّ على الإطلاق، وبالي مُطمئنّ على سلوى وعائلتها الجميلة. وحين أرى البسمة على وجهها وفي عَينيها، أسألُ نفسي كيف كانت ستكون حياتها لولا مازن.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button