خسِرتُ والدتي بعد أن صارعَت الموت بشجاعة، وبكَيتُها كأيّ إبن وحيد يبكي أمّه، لكنّ همّي الأكبر كان والدي الذي كان سيعيشُ مِن دون نصفه الآخَر، مِن دون رفيقة حياته التي أحبَّته وفهِمَته وتقاسمَت معه الحلو والمرّ بصمت وقناعة. كنتُ شابًّا أعزبًا آنذاك فلَم أترُكه بل أعطَيتُه كلّ وقتي واهتمامي، وعملتُ جهدي كَي لا يشعُر بالوحدة قدر المُستطاع. وعلى مرّ الأشهر، رأيتُ كيف أبي بدأ يتغلَّب على حزنه ويتقبّل واقعه، فارتاحَ بالي قليلاً.
ثمّ تعرّفتُ إلى يُسرى، صبيّة حسناء وعاقلة، وذلك بفضل أصدقاء مُشتركين. وكَونها إبنة وحيدة هي الأخرى قرّبَنا مِن بعضنا. هي كانت تعيشُ مع أمّها الأرملة، وهمّها الأكبر كان تركها بعد زواجنا.
عندها خطَرَت ببالي فكرة عمليّة للغاية: لماذا لا نُزوِّج أمّها لأبي؟!؟
في البدء لاقَيتُ تحفّظًا مِن قِبَل حبيبتي، لكنّني أقنَعتُها بأنّ علينا المحاولة، فهكذا نكون قد أمّنّا لكلا والدَينا رفيقًا، ونستطيع الزواج وبالنا وضميرنا مُرتاحان. لِذا إتّفقنا أن نجمَع "العريس والعروس" بطريقة بريئة جدًّا، أيّ في مطعم، ليتعرّفا إلى بعضهما، فالجدير بالذكر أنّني لَم أتكلّم بمسألة زواجي مِن يُسرى رسميًّا لا لأمّها ولا لأبي، بل أنّني وحبيبتي لا نزال ندرسُ الموضوع جدّيًّا. وخلال تلك المأدبة، سُرِرتُ ويُسرى بأمّها وأبي يتبادلان الكلام بارتياح وكذلك الضحك والدعابات البريئة. إبتسمتُ في سرّي، فقد أكونُ جمعتُ شخصَين وحيدَين وفتحتُ أمامهما أبواب السعادة.
تمّ عقد الخطوبة بأجواء فرحة، وبدأتُ أُخطِّطُ للزواج القادم فالتقَينا كلّنا مرّات عديدة عندنا أو عندهما، وخرجنا بنزهات ورحلات كثيرة إلى أن صِرنا نشبهُ العائلة الحقيقيّة. تفاجأتُ بأنّ حماتي المُستقبليّة وأبي كانا قد تبادَلا في إحدى المرّات أرقام الهاتف، وبأنّهما يتحدّثان سويًّا مع بعضهما بشأن زفافنا. حسنًا، حسنًا!
وباتَ محوَر حديثي مع خطيبتي يدورُ حول تزويج أهلنا لبعضهما، لكنّنا لَم نكن نعلَم بعد إن كنّا قد نجَحنا في تقريبهما لدرجة الإقتران. وما لَم نكن ندركُه آنذاك، هو أنّ مودّة واضحة إستقرَّت بينهما وكذلك فكرة الزواج. إلا أنّهما خجِلا منّا وأبقيا الأمر سرّيًّا. وعندما كنتُ أُفتِّش عن مسكن لي ولعروسي المُستقبليّة، عرَضَ علي أبي العَيش معه، كَون المنزل كبيرًا للغاية ومُحاطًا بحديقة جميلة يستطيع الأولاد الذين سنُنجبهم اللعِب فيها. لكنّني أجبتُه:
ـ شكرًا يا بابا... لكن مِن الأفضل أن نعيشَ في مكان مُحايد، كَي لا تنزعِج أم يُسرى لو اختَرنا العَيش معكَ.
ـ ماذا لو... أقولُ ماذا لو... أعني لماذا لا تأتي أمّ يُسرى هي الأخرى إلى بيتنا؟
ـ فكرة جيّدة لكن ماذا سيقولُ الناس؟
ـ لن يقولوا شيئًا يا بُني، لأنّني سأتزوّجها!
عندها أطلعَني على الذي كان يجري بينهما منذ فترة وأضافَ:
ـ زواجي القادم لن يستطيع محوَ ذكرى أمّكَ مِن ذهني وقلبي، لكن على الحياة أن تستمرّ، ولا أُريدُ أن أجِد نفسي وحيدًا أو أن يُؤثِّر وضعي على سعادتكَ. وكذلك أم يُسرى. وأنا مُتأكّد مِن أنّ أمّكَ، رحمها الله، ستكون سعيدة لي مِن حيث هي، فعروستي ستهتمّ بي بالنيابة عنها.
ذرَفنا الدموع وبدأنا نتباحَث بشأن زواجه الذي كان سيحدثُ قَبل زواجي، لنستطيع السكن جميعًا في بيت واحد. هل كنتُ سعيدًا؟ بالطبع!
ويوم وجَدنا نفسنا كلّنا في المسكن نفسه، شعرتُ بالفخر والقوّة كأيّ إنسان يجدُ حياته قد اكتملَت وحقَّقَ حلمه حتّى الآخِر. إضافة إلى ذلك، كلّ منّا وجَدَ مكانته ووظيفته داخل تلك الأسرة الجديدة، فعمَّ التناغم بيننا وكأنّنا نعرفُ بعضنا منذ أعوام طويلة.
حمِلَت يُسرى بسرعة، وذرفتُ وأبي دموع الفرح، خاصّة بعدما علِمنا أنّ المولود القادم هو صبيّ فنالَت زوجتي دلالاً فائقًا منّا جميعًا. ويوم جاء إبني إلى الدنيا، أقَمنا حفلاً كبيرًا حضرَه عدد كبير مِن الأقارب وأهالي الحي.
وبعد ذلك... إنقلبَت حياتنا رأسًا على عقَب.
فلقد أحسَّت يُسرى بقوّة هائلة كَونها أنجبَت، ونفوذ لاحدود له بعد الدلال الذي لاقَته والثناء على جَلب ولَد جميل وصحيح البنية، فبدأَت تفرضُ رأيها وتُطالِب بطاعة تامّة مِن قِبَلي وأبي. وساعَدتها في ذلك طبعًا أمّها، لا بل شجّعَتها على المضيّ بفرض نفسها، وسرعان ما شكّلَتا جبهة في وجهنا. وهكذا إنقسَمَ البيت إلى فريق النساء وفريق الرجال ودارَت المُناكفات بيننا. فلَم أكن مُستعدًّا للتنازل عن مكانتي في البيت وكذلك أبي، خاصّة أنّنا حاوَلنا إحتواء المشاكل بشتّى الطرق.
فعلى سبيل المثال، لَم نعُد قادرَين على إختيار طعامنا أو تحرّكاتنا في البيت أو ما نشتريه لأنفسنا أو للبيت. وكلّ صغيرة كانت تُدرَس مِن جانب زوجتي وحماتي ولا يُنفَّذ القرار إلا بعد موافقتهما. وفي حال الرفض، كانت هناك وعود جدّيّة بإتّخاد التدابير اللازمة بحقّنا وكأنّنا تلميذان يُعاقبان في الصفّ. إضافة إلى ذلك، إختفى الحبّ والتفاني والأنوثة التي تجذُب الرجل للمرأة، فصرنا نعيشُ في جوّ مِن التوتّر الدائم واستباق المشاكل والعتاب.
تشاوَرتُ مع أبي لنجِد حلاً لمُشكلتنا اليوميّة، فرأينا أنّه مِن الأفضل لو أنتقِلُ مع زوجتي إلى مسكن خاصّ بنا، فبهذه الطريقة نفصلُ بين المرأتَين ونكسر التحالف الخطير الذي يُدمّرُ حياتنا. وافقَني أبي الرأي وبقيَ عليّ زفّ الخبَر لزوجتي. لكنّها مانعَت بشدّة وطالبَت بأخذ أمّها معها إن سكنّا في بيت آخَر، الأمر الذي رفضتُه طبعًا. وهكذا عُدنا إلى نقطة الصفر وأصابَني اليأس.
بعد ذلك لَم أعُد أهوى يُسرى على الاطلاق، بل إختفى حبّي لها بعد أن أدركتُ أنّها ليست المرأة التي أحبَبتُها على الاطلاق، فقرّرتُ السفَر.
عرضتُ على أبي مُرافقتي إلا أنّه لَم يشأ ترك بيته للمرأتَين، وكنتُ مُنشغِل البال في ما يخصّه. كيف أتركُه بين أفعتَين لوحده؟ لِذا قرّرتُ الابتعاد لفترة ليست طويلة على أمَل أن يُحدِث غيابي تغيّرًا في قلب وعقل زوجتي. رحتُ إلى فرع الشركة في الخارج لدورة تدريبيّة، وكانت أوّل مرّة أخرج فيها مِن البلاد. تفاجأتُ بطريقة عَيش الأجانِب، إذ أنّ المرأة هناك تعمَل وتصرفُ على نفسها وعلى البيت تمامًا كشريكها، وكيف أنّ الإنجاب بالنسبة لتلك النساء هو فعل مُشترَك لا يجعَل منها ملكة على عرش لا يطالُه أحَد.
إسِفتُ أن أكون زوجًا لامرأة تظنّ أنّها أنجزَت شيئًا عظيمًا مِن خلال الولادة، في حين جميع الكائنات تتكاثَر كل يوم وكلّ دقيقة. هل الحيوانات تُمنِّن أحدًا بأنّها حمِلَت وأنجبَت وربَّت؟ بل هذه دورة الحياة الطبيعيّة. هل أُمَنِّن زوجتي لأنّني أعمَل لساعات طويلة لتأمين حياة مُريحة لها؟ بالطبع لا.
في تلك الأثناء، وقَعَ أبي ضحيّة طغيان يُسرى وأمّها، فرضَخَ لهما بسرعة وسهولة كَونه وحيدًا بينهما. ولدى عَودتي، وجدتُه كئيبًا ومكسورًا تمامًا، لا بل مُنزويًا والدمع يملأ عَينَيه. أسِفتُ بشدّة مِن أجله، لأنّني إختَرتُ له زوجةً كأمًّ يُسرى. لكنّني عدتُ مِن السفَر رجُلاً مُختلفًا، فرأيتُ بوضوح كيف تتصرّف زوجتي ولماذا، ووقفتُ في وجهها وقفة رجُل:
ـ إسمَعي يا يُسرى... أحبَبتُكِ في ما مضى لكنّ حبّي لكِ إختفى بسبب فجوركِ الدائم واستيائكِ المُستمرّ. أين ذهبَ صوتكِ الناعم ودلالكِ؟ أين ذهَبَ حبّكِ لي وافتخاركِ بي؟ أنا لَم أتزوّجكِ لتقلبي حياتي جحيمًا بل لتُسعديني. أمامكِ خياران: إمّا أن ترحَلي وأمّكِ على الفور أو أن تعودان كما في السابق. لن أدَعَ أحدًا يتحكّم برجولتي، وكذلك بأبي. سأعطيكِ ساعتَين للتفكير بالأمر واعلَمي أنّني سأحتفِظ بإبننا.
راحَت زوجتي إلى أمّها وتعالَت الأصوات، وسمِعتُ حماتي تصرخُ في يُسرى وتقولُ لها: "إيّاكِ أن ترضخي له! أنتِ سيّدة البيت وعليه هو الرحيل! أنسيتِ ما فعلَه بنا أبوكِ؟!؟". فهمتُ عندها سبب تصرّفات المرأتَين لكنّ ذلك لَم يكن عذرًا على الاطلاق. فلستُ والد يُسرى ولا أبي، والرجال لا يتشابهون وليس علينا دفع ثمَن أخطاء غَيرنا.
بكَت زوجتي لأنّها كانت تُحبّني، لكنّها لَم تشأ إزعال أمّها، حليفتها. فهي خافَت أن أُعاملها كما عامَلَ أبوها أمّها إن هي بقيَت لوحدها معنا. لكنّها لَم تكن قادرة على التخلّي عن إبنها على الاطلاق، فغابَت عن الوعي مِن كثرة خوفها. وحين هي استفاقَت قالَت لي:
ـ لا أعرفُ ما عليّ فعله. أُحبّكَ لكنّني خائفة منكَ. قد تكون أمّي على حقّ ولا أُريدُ أن تنقلِب حياتي إلى جحيم.
ـ أتَت لأمّكِ فرصة ذهبيّة بزواجها مِن أبي، فهو كان مُستعدًّا لمُعاملتها كالملِكة لو هي بادلَته حبّه وآماله. لكنّها استفادَت مِن الوضع لتملأ رأسكِ بالأفكار والتصرّفات السيّئة للهَيمنة على أسرتنا. أرى أنّكِ مرَرتِ بأوقات صعبة مع أبيكِ... لماذا لَم تُخبريني بالأمر؟ فلقد صوّرتِه لي وكأنّه رجُل عظيم ومُحِبّ. كنتُ لأُطَمئنَكِ وأهتمّ بكِ أكثر وأُبعدُكِ عن أمّكِ. ماذا عن مُستقبل إبننا؟ هل فكّرتِ به للحظة أم أنّ همّكِ كان كسري وتحطيمي لتحمي نفسكِ منّي؟ ماذا فعلتُ لكِ لتظنّي أنّني سأُسيء معاملتكِ، ماذا بدَرَ منّي؟ لا شيء على الاطلاق. إن كنتِ لا تزالين تُحبّيني فتعالي معي إلى مسكن آخَر. هذه فرصتكِ الأخيرة.
ـ وأمّي؟
ـ لتتدبّر أمرها مع أبي، فهما راشدان وعليهما حلّ مشاكلهما لوحدهما.
أخذتُ يُسرى وإبننا وسكنّا في مكان آخَر، بالرغم مِن مُحاولات حماتي الوقوف في دَربنا. عندها، صبَّت تلك الأفعى كلّ سمّها على أبي الذي طلّقَها بسرعة، فعادَت إلى بيتها لتعيشَ فيه وحيدة.
هدأَت الأمور بسرعة بيني وبين زوجتي، وأنجَبنا بنتًا جميلة وقسَمنا وقتنا بين أمّها وأبي. صحيح أنّ حماتي بقيَت تُحاولُ التدخّل في حياتنا الزوجيّة، لكنّ يُسرى لَم تعُد تتأثّر بها على الاطلاق. وجَدَ أبي تسلية في ولدَينا وفي زراعة حديقته، وهو يعيشُ بهناء في بيته بين ذكرى المرحومة أمّي وصوَرها. فالزواج ليس دائمًا الحلّ للوحدة إن كان للمرء مُحاطًا بالمُحبّين ولدَيه هوايات واهتمامات تملأ حياته.
حاورته بولا جهشان