كانت الأجواء في منزل أهلي لا تُطاق.
تُوفّي والدي منذ زمنٍ بعيد فكان على أمّي أن تربّي ستّة أطفال وحدها وسط ظروفٍ معيشية رديئة. لاحقاً، عندما أصبح أشقّائي في عمرٍ يسمح لهم بإعالة العائلة، أخذوا يضيّقون الخناق علينا حتّى إنّني ما عدت أتحمّل العيش مع هذه العائلة الكبيرة التي سعت إلى تحطيمي. فرحتُ ألتجئ إلى قراءة الكتب وأفرغ حزني الكبير في دفتر يوميّاتي، صديقي الوحيد.
كانت لي صديقة واحدة في المدرسة اسمها سهام أُغرمت بشابّ وتزوّجته ثمّ سافرت معه إلى أستراليا.
دخلت إلى الجامعة لأدرس علم التربية وبقيت على اتّصالٍ مع سهام التي كانت تطلعني باستمرار على أخبارها. في إحدى المرّات، حدّثتني عن سلفها حبيب ومدحته كثيراً وأخبرتني أنّه شاب جذّاب وميسور يملك شركة تاكسي. فتعارفنا من خلال الصور ورحنا نتراسل ونتكلّم عبر الهاتف عن كلّ التفاصيل اليومية من حياتنا وتقرّبنا جداً على الرغم من آلاف الكيلومترات التي كانت تفصلنا. أنهيتُ دراستي ولم أتعرّف إلى حبيب وجهاً لوجه، لكنّه، بعد فترة، قدم إلى لبنان وانتظرته بلهفةٍ على المطار وحين رأيته علمت أنّه رجل حياتي فأمضيت معه أسبوعين من العمر.
قبل رحيله، قرّرنا أن نتزوّج في أسرع وقت ونظّمنا عرسنا في خلال أيّامٍ قليلة. سافر هوَ وانتظرت أنا أن يحضّر لي معاملات السفر إلى أستراليا. كنت أطير من الفرح لأنّني أخيراً وجدت فتى الأحلام الذي سيخرجني من منزل العائلة التي حرمتني السعادة.
وصلت إلى أستراليا، وكانت الصدمة الكبيرة أن أدركتُ أنّ زوجي لم يكن سوى سائق تاكسي وأنّ المنزل الذي رأيته في الصور لم يكن منزله بل منزل صديقٍ له سافر وأوكل إليه مهمّة الاعتناء ببيته. كان بيتنا صغيراً يقبع في حي شعبي، لكن هذا لم يؤثّر فيّ لأنّنا كنّا متحابّين كثيراً. بعد فترةٍ وجيزة، طرت من الفرح حين علمت أنّني حامل. رُزقنا بفتاة رائعة ولكن سرعان ما فقد زوجي وظيفته وانقلبت كلّ حياتي حين بدأ يعتاد الإفراط في شرب الكحول. أخذ الوضع يسوء لدرجة أنّني كنت أخاف من التحدّث معه وأمنع ابنتي من إحداث الضجة كي لا يصاب بالجنون. في بعض الأحيان، كان يجد عملاً يخفّف من أزمتنا لكنّ الأمر لا يدوم طويلاً.
في بلدي، ظنّ الجميع أنّني أعيش حياة الأميرات. لم أنوِ إخبارهم بأنّني وقعت ضحية الغش والخداع. وجّهتُ لومي لسهام التي علمت بوضع زوجي منذ البداية وخدعتني على الرغم من أنّها صديقتي المفضّلة. وازداد الأمر سوءاً حين حملت من جديد ورفضت إجهاض الجنين لأنّ هذا كان مخالفاً لمبادئي. رزقنا بفتاةٍ أخرى وازدادت علينا المصاريف فعشنا على حساب الحكومة الأسترالية التي ساعدتنا قليلاً. أردت أن أعمل لكنّ شهادتي تتطلّب تعديلاً وكان الأمر صعباً جداً بوجود طفلتين. راح حبيب يغرق تحت تأثير الكحول أكثر وأكثر فصار عدائياً جداً. وكانت الصاعقة لمّا طلبت منه التوقّف عن شرب الكحول، فمنذ ذاك الحين، راح يضربني بقوة ثمّ يعود ليقبّلني ويطلب منّي السماح ويعدني بأنّه لن يعيد الكرّة. ولكنّه ينكث بوعده.
في أحد الأيام وبينما كان خارج المنزل، وضّبت الحقائب والتجأت مع ابنتيّ إلى مأوى للنساء المعذّبات حيث مكثنا مدّة شهرٍ تقريباً، إلى أن وجدَنا. أمضى عدة أيامٍ على الرصيف المقابل وحين خرجت للتبضّع قدم إليّ متوسّلاً أن أعود معه إلى المنزل فقد كفّ عن الشرب ووجد وظيفةً وأقنعني بأنّ المياه ستعود إلى مجاريها.
صدّقته، فهو كل ما لديّ في تلك البلاد، ولكن كالعادة لم يفِ بوعدِه بل أكثر من ذلك، لامني لأنّني تخلّيت عنه واتّهمني بخطف ابنتَينا.
ثمّ حدث ما لم يكن في الحسبان! في أحد الأيّام عند الصباح، كنت أعدّ الفطور فدخل إلى المطبخ. لم ألحظ ما كان يحمل في يديه إلى أن شممت رائحة غريبة. استدرتُ ووجدت حبيب مبللاً بالبنزين ويحضّر لسكبه على الفتاتَين اللّتين كانتا مرعوبتين. لقد خطّط لحرقنا ونحن على قيد الحياة! أمام هذا الواقع انهارت أعصابي ولكنّني حين سمعت ابنتيّ تصرخان "ماما!" استجمعت قواي واستيقظت فيّ غريزة الأمومة فانقضضت عليه كالوحش الكاسر وصرخت كالمجنونة: "لا تلمس ابنتيّ!" ثمّ دفعته إلى خارج المنزل وأغلقت الباب واستدعيت الشرطة التي حضرت على الفور وأصدرت مذكّرة توقيف بحقّه، لكنّه كان قد اختفى.
عند المساء، بعدما نظّفت الفتاتين ووضّبت حقائبي للذهاب إلى المأوى وجدته جثّة هامدة على مقود السيارة في المرأب وقد اختنق من غاز السيارة. ثمّ تبيّن لاحقاً من خلال التشريح أنّه ابتلع المهدّئات فقد فضّل الموت على أن يسبّب المزيد من الإساءة.
عندئذٍ كان لا بدّ لي من التصرّف لإعالة عائلتي. ولهذه الغاية، عملت مساعدةً في حضانة للأطفال وعدّلت شهادتي ما خوّلني العمل في إطار التربية في السنة اللاحقة.
بعد سنوات العذاب فُتحت أمامي أبواب النعيم حين تعرّفت إلى رجلٍ أسترالي رائع عبر الانترنت. لم أعتد على السعادة، لذا خفت كثيراً في البداية لكنّه كان حنوناً على الفتاتين ومحبّاً معي ما شجّعني في النهاية على الزواج به.
طالت إقامتي في الجحيم ولكّنني أخيراً تمكّنت من إيجاد مفاتيح أبواب الجنّة على يد رجلٍ عرف كيف يمحو مخاوفي ويدعمني ويقدّم لي الحماية والحب اللّذين حرمت منهما طويلاً.
حاورتها بولا جهشان