إهمال زوجي لي باتَ أمرًا معروفًا لدى الجميع، وكنتُ أرى في أعيُن أهلي وأصدقائي نظرات شفقة أكملَت إحباطي. فقد خطَرَ ببال جهاد أن يُسافرَ بعيدًا بحجّة تأمين مُستقبل أفضل لنا، وتركَني أحمِلُ لوحدي مسؤوليّة البيت والأولاد. صحيح أنّه بقيَ يبعثُ لنا المال، إلا أنّه لَم يأتِ لِرؤيتنا ولو مرّة واحدة. كان مِن الواضح أنّه وجَدَ سعادته بعيدًا عنّي، الأمر الذي لَم يُفاجئني كثيرًا لأنّ جهاد تزوّجَني فقط لِبناء عائلة وليس حبًّا بي. لكن بعد ولادة أولادنا، وجَدَ أنّ أيًّا منّا لم يعنِ شيئًا له، وأنّ سكّان بيته كانوا مُجرّد غرباء بالنسبة له.
وصلَتني أخبارٌ بأنّ زوجي يعيشُ حيث هو علنًا مع إمرأة أخرى، وحزِنَ قلبي ليس لأنّه يخونُني، الأمر الذي كان يفعلُه منذ بدء زواجنا، بل لأنّه لَم يعد يتكبّد عناء إخفاء علاقاته. لِذا ركّزتُ على بيتي وعائلتي، وبحثتُ عن عمل خوفًا مِن أن يُقرّرَ زوجي يومًا قطع إمداداته عنّا. فمَن يدري ما بإمكان رجل مثله أن يفعل؟ وجدتُ عملاً كسكرتيرة في إحدى الشركات، لكنّ العمل كان شاقاً إذ يشملُ أيضًا مهامًا عديدة لأنّ جميع الموظفين، إلى جانب المدير، ألقوا الحَمل كلّه عليّ. لَم أتذمَّر لأنّني كنتُ أبني لي ولأولادي مُستقبلاً متينًا.
حاوَلَ مُديري التحرّش بي بعد أن لاحظَ غياب رجل إلى جانبي، فأمثاله يظنّون أنّ المرأة هي ضعيفة حين تكون مِن دون زوج، إلا أنّني أرَيتُه كيف يلزم حدوده معي. أنا متأكّدة مِن أنّه فكَّر بِفصلي على الفور لِجلب موظّفة "أكثر تعاونًا"، إلا أنّه أبقاني لأنّني، كما ذكرتُ، لا أتذمّرُ مِن كثرة العمَل.
أيّامي باتَت مُتشابهة وقلبي فارغًا، وكنتُ أستمدُّ القوّة مِن أولادي حين أعودُ في المساء مُنهكةً إلى البيت. وحدتنا كانت أمَلي الوحيد في الحياة ولَم أُظهِر لهم يومًا مدى حزني. فما ذنبهم إن كان والدهم إنسانًا سافلاً لا يتّصل حتى بهم لِسؤالهم عن حالهم؟ هم فهموا طبعًا أنّ عليهم إكمال حياتهم مِن دونه فأعطوني الحنان اللازم للمُتابعة.
الأمر الوحيد الذي كان يُعزّيني ويُشعرُني بأنّني امرأة، كان وجود ذلك الموظّف الوسيم الذي إسمه ماهر والذي كان يحملُ قلبي على الخفقان. لَم أجرؤ طبعًا على إظهار ذلك الإعجاب، ففي آخر المطاف كنتُ لا أزالُ مُتزوّجة ولو كان ذلك على الورق فقط. فمجتمعاتنا تسمحُ بكلّ شيء للرجل وتغفرُ له خطاياه بسهولة بينما تُدينُ المرأة على أيّة سهوة. كنتُ أعلمُ ذلك ولَم أرِد أن أُلطّخَ سمعة أولادي. لِذا كتمتُ سرّي وصرِتُ أكتفي بالنظر إلى ماهر وتصوّره معي وهو يقولُ لي إنّه يُحبّني. كنتُ بحاجة إلى حنان رجل، الأمر الذي افتقدتُه طوال حياتي.
مِن جانبه، بقيَ ماهر يتجاهلُني ويتصرّفُ كأنّني إما غير موجودة أو سكرتيرة بسيطة تقومُ باللازم في المكتب. الوحيد الذي انتبَه إلى نظراتي للموظّف الوسيم كان مديري الذي استاءَ كثيرًا أن أُعجَب بِغيره بعدما صدَّيتُه. لِذا بدأ يُحمّلُني أعباءً كثيرة لِمعاقبتي بالطريقة التي يملكُها.
بعد حوالي الثلاثة أشهر، أقامَ الموظّفون حفل تكريم لإحداهنّ بمناسبة تقاعدها، وتسنّى لي أخيرًا أن أتواجدَ مع ماهر في مطعم، أي بعيدًا عن أجواء العمل. تصوّرتُ أنّنا في موعد غراميّ بالرغم مِن وجود الآخرين. كنتُ في أوجّ أناقتي، فتفاجأ زملائي بِمظهري وحصلتُ على بضع مُجاملات أفرحَت قلبي. وحده ماهر لَم يقل شيئًا فاقتنعتُ باستحالة ولادة أيّ شيء بيننا. إلا أنّه أمسكَني فجأة بِيَدي وجرَّني إلى حلبة الرقص لحظة بدأَت الموسيقى قائلاً: "هل ظنَنتِ أنّكِ ستفلتين منّي؟". لَم أُجِب مِن كثرة خجَلي فبدأنا بالرقص وهو تابَعَ: "صحيح أنّكِ بغاية الجمال الليلة لكنّني أحبُّكِ كيفما كنتِ". كدتُ أن أقعَ أرضًا فضحِكَ ماهر وأنا أدرتُ وجهي كي لا يرى مدى إرتباكي. وقَبل أن تنتهي الرقصة، همستُ في أذنه: "أنا سيّدة مُتزوّجة وسمعتي أهمّ مِن أيّ شعور قد ينتابُني. أراكَ في المكتب غدًا يا سيّد ماهر."
فضّلتُ العودة إلى البيت قبل أن أبدّلَ رأيي، وأتذكّر أنّني بكيتُ في فراشي في تلك الليلة. في اليوم التالي قصدتُ الشركة على أمل ألا يُحاول ماهر التكلّم معي. إلا أنّني وجدتُ وردة حمراء على مكتبي وعلمتُ على الفور أنّها منه. وضعتُها جانبًا وبدأتُ بالعمل.
مرَّت أيّام عديدة قبل أن يتّصل بي ماهر هاتفيًّا. تفاجأتُ كثيرًا فأنا لَم أُعطِه رقمي بل هو أخذَه مِن ملفّي لدى الشركة. تبادَلنا بضع جمل عن العمل والأحوال الجوّيّة ثمّ قال لي:
ـ أعلمُ أنّكِ مُتزوّجة وأعلمُ أيضًا أنّ زوجكِ بعيد عنكِ منذ فترة وقد لا يعود.
ـ كيف...
ـ سألتُ عنكِ يا صونيا، فأنتِ في بالي منذ فترة.
ـ قلتُ لكَ أنّ سمعتي...
ـ أجل، أتذكّرُ ما قلتِه لي جيّدًا لكن لديّ سؤال واحد لكِ: هل تُبادليني شعوري؟
ـ أيّ شعور هذا؟
ـ أقصد هل أنا في بالكِ طوال الوقت؟
ـ إجابتي لن تغيّر شيئًا في قراري.
أقفلتُ الخط وامتلأت عينايَ بالدموع. فكّرتُ بالأمر جيّدًا، ووجدتُ أنّ الحلّ الأنسَب هو العثور على عمل آخر. لكنّ فرَص العمل لَم تكن كثيرة ولَم أجِد شيئًا مُناسبًا.
في تلك الأثناء كان مديري قد عمَّمَ في المكتب خبرًا مُسيئًا لي، وهو أنّني على علاقة غراميّة وجسديّة مع ماهر وباتَ الجميع يُراقبُني ويهمسُ مِن وراء ظهري. لاحظتُ تغيّرًا في مُعاملة زملائي لي لكنّني لَم أعرِف السبب. وبقيَ الوضع يتفاقم إلى أن تلقَّيتُ اتّصالاً مِن جهاد زوجي:
ـ أهكذا تصونين شرَفي؟
ـ ماذا تقصد؟ وأين كنتَ طوال تلك الفترة؟ هل تذكَّرتَني الآن؟ وماذا عن أولادكَ؟
ـ وصلَتني أخبار عن قلّة أخلاقكِ يا سيّدة! أذكّرُكِ بأنّكِ لا تزالين زوجتي.
ـ وأنتَ زوجي... إلا أنّني لا أفعل أيّ شيء مُشين.
ـ بل تُعاشرين زميلاً لكِ في العمل. مِن الواضح أنّكِ أُمٌّ سيّئة ولا يجدرُ بكِ الإحتفاظ بالأولاد.
ـ ماذا؟!؟ إيّاكَ أن...
ـ أتركي عملكِ وامكثي في البيت وإلا أخذتُ الأولاد منكِ.
وأقفلَ جهاد الخط. كيف علِمَ بأمر ماهر؟ ولماذا يهمُّه أن يكون هناك أحد في حياتي بينما هو الذي تركَني وسافَرَ بعيدًا ويقومُ بعلاقة علنًا؟
بعد تفكير عميق، قرّرتُ تقديم إستقالتي، فأولادي كانوا طبعًا الأولويّة في حياتي ولَم أكن لأسمح لأحد بأن يأخذهم منّي. تركتُ العمل مِن دون إحداث أيّ ضجّة وكان مديري مسرورًا لِرحيلي بعدما وجَدَ أنّ لا منفعة منّي بِما يخصّه. وعندما علِمَ ماهر بأستقالتي، حاوَلَ الإتّصال بي إلا أنّني لَم أجِب على مكالماته. بعد فترة فهِمَ الرسالة وتركَني وشأني.
مرَّت الأشهر وكنتُ قد بدأتُ خلالها بالعمل في دار حضانة حيث أساعدُ المسؤولة بِتسجيل واستقبال الأطفال الجدد. كان العمل جيّدًا ومُريحًا لكنّ الراتب كان قليلاً. ساعدَني الأمر على نسيان ماهر والأحلام التي بنيتُها، وعلى نسيان زوجي اللعين الذي لا يُحبّ سوى نفسه.
إلا أنّني لَم أتوقّع أبدًا أن أرى ماهر واقفًا أمام مكتبي في الحضانة... ولا هو! فهو وقَفَ أمامي صامتًا لا يدري ماذا يقول وأنا حدّقتُ به. ظنَنتُه بحثَ عنّي ووجدَني في هذا المكان، لكنّني رأيتُه مُمسكًا بِيَد ولد صغير وفهمتُ أنّه إبنه. لَم أكن أعلمُ أبدًا أنّ ماهر مُتزوّج، وكان الأمر بِمثابة صدمة كبيرة لي. وسألتُه:
ـ إبنُكَ؟
ـ أجل... أُريدُ تسجيله في الحضانة... أنا آسف، فلقد نسيتُ إخباركِ بأنّني...
ـ مُتزوّجٌ؟ لا أحسدُ زوجتكَ عليكَ فأنتَ على ما يبدو خائن يتقرّب مِن النساء لنَيل مراده.
ـ لا تُسيئي فهمي... لستُ خائنًا بل أحبّ زوجتي.
ـ لَم أُسئ فهمكَ عندما أعرَبتَ عن إعجابكَ القويّ بي، يا ماهر!
ـ كانت تلك مسألة مُدبَّرة، صدّقيني... دعيني أُخبرُكِ كلّ شيء... فجهاد هو صديقي، أقصد أنّنا كنّا زملاء في الجامعة وبقينا على اتّصال منذ تلك الفترة. زوجكِ يعرفُ كلّ شيء عنكِ وعن تحرّكاتكِ، فهناك حتمًا مَن يُزوّده بالمعلومات، لِذا هو علِمَ أنّنا نعمل في الشركة نفسها وطلَبَ منّي الإيقاع بكِ بحجّة أنّكِ أمّ سيّئة ويُريدُ دليلاً قاطعًا على ذلك. لَم أقبَل في بادئ الأمر إلا أنّه طلَبَ منّي أن أضَع نفسي مكانه.
ـ وماذا وجدتَ؟ هل أنا أمٌّ أو زوجة سيّئة؟
ـ أبدًا! بل العكس وهذا ما حملَني على عدَم الإصرار، فبعد أن امتنَعتِ عن الإجابة على اتّصالاتي فهمتُ أنّ هناك ما يُثير الشكّ في كلام جهاد.
ـ لا أفهمَ ما حاجته لِفعل ذلك، فهو يعيشُ حياته مع إمرأة أخرى بعيدًا عنّا. هو مُرتاح مِن دون أولاده فلماذا يُريدُ أخذهم منّي؟ هل ستقبل عشيقته بِتربيتهم؟
ـ إسمعي... أنا رجل وأفهمُ الرجال... جهاد لا يُريدُ أخذ الأولاد منكِ لتربيتهم بل يُريد إيذاءَكِ.
ـ لَم أفعَل له شيئًا لينتقمَ منّي!
ـ الإنسان المؤذي لا يحتاج إلى ذرائع... سامحيني أرجوكِ... ستلحقُ بي زوجتي إلى هنا بعد دقائق مع ابننا البكر و...
ـ وهل هي تعلم بالذي فعلتَه معي؟
ـ لا! ولا يجدرُ بها أن تعلم أبدًا، فهي لن تصدّق أنّها كانت لعبة بل ستظنُّ أنّني أركضُ وراء النساء!
ـ حسنًا... لِنعقد إتّفاقًا إذًا... لن أُخبر زوجتكَ إن كنتَ مستعدًّا لِقَول الحقيقة في حال احتجتُكَ، فأنا أنوي طلَب الطلاق مِن ذلك السافل والاحتفاظ بِجميع أولادي طبعًا. كُن جاهزًا للإدلاء بِشهادتكَ عند اللزوم.
ـ حاضر.
لَم أحتَج لِشهادة ماهر، ففي المساء نفسه إتّصلَتُ بِجهاد على الرقم الذي استعملَه لِتهديدي، وقلتُ له:
ـ أعرفُ كلّ شيء... أعرفُ كيف حاولتَ الإيقاع بي وفشلتَ... أُريدُ الطلاق وعلى الفور وإن رفضتَ، فسأشنّ حربًا ضاريةً عليكَ.
ـ ما هذه الثقة المُكتسبة؟
ـ الفضل يعودُ إليكَ يا زوجي العزيز! فمنذ رحيلكَ صرتُ أحمل جميع المسؤوليّات، الأمر الذي قوّاني للغاية. إضافة إلى ذلك، معرفتي بِمكركَ ودناءة نفسكَ حملَتني على الرغبة بالدفاع عن نفسي وعن أولادي بأيّ ثمن. لَن تفوزَ يا عزيزي فأنا أمّ ولن تسرق صغاري منّي أبدًا! أنا جاهزة للمعركة ساعة تشاء!
تفاجأَ جهاد بي وخافَ منّي، فكان مِن الواضح أنّني لَم أعُد تلك المرأة الضعيفة والضائعة بل صرتُ إنسانة مسؤولة وعاملة، والأهم أنّني امرأة مُصرّة على تحقيق ذاتها للوصول إلى السعادة.
حاورتها بولا جهشان