زوجي المُتنمِّر

لَم يتزوّجني ماهر بسبب حبّه لي، بل لشعوره بالذنب، وأنا قبِلتُ به لأنّه كان منذ البدء محطّ اعجابي ولاحقًا حبّي. وأمِلتُ أن تنمو لدَيه المشاعر نفسها، بعدما نسكنُ في بيت واحد ونتشارَك كلّ شيء.

فالحقيقة أنّ ماهر كان منذ البدء صديق أخي وكان يُلازمه على الدوام، فكبِرتُ برفقته وقُمنا بنشاطات عديدة سويًّا... إلى حين جاء ذلك اليوم الرهيب، حين هو أخذَني وأخي في نزهة في سيّارته الحديثة والسريعة. إلا أنّه لَم يستطِع السيطرة على المركبة بسبب سرعته، فاصطدمَ بشجرة إلى جانب الطريق. طِرتُ مِن السيّارة على بُعد أمتار، بينما لَم يحصل شيء يُذكَر للراكبَين الباقيَين. ونتَجَ عن ذلك إعاقة دائمة لذراعي الأيسَر وضعف في عَيني غير قابِل للشفاء. قضَيتُ وقتًا طويلاً في المشفى ولاحقًا في الجلسات الفيزيائيّة، إلا أنّ حالتي لَم تتحسّن. لَم أُحمِّل ماهر أيّة مسؤوليّة، فكنتُ مُغرمة به. غضِبَ كلّ مِن أبوَيّ وأخي مِن ماهر، وحصَلَ بينهم شجار كبير وتمّ التوافق على أنّه مِن الضروريّ أن يتزوّجني. لَم أعلَم بالأمر، وفرِحتُ لأقصى درجة حين أخبرَني ماهر أنّه ينوي ربط حياته بي إلى الأبد، لكنّ أمَلي خابَ حين عرفتُ الحقيقة، فرفضتُ بقوّة! أردتُه أن يُحبَّني تمامًا كما أحبُّه، أيّ مِن دون أيّ فرض أو شرط، فوقفتُ في وجه أهلي الذين حزِنوا مِن أجلي، فمَن سيُريدُ الزواج منّي وأنا بهذه الحالة؟

والذي أقنعَني أخيرًا بالقبول كان ماهر نفسه، بعدما شرَحَ لي أنّه لن يستطيع تذوّق طعم السعادة وهو يعلمُ أنّه دمَّرَ مُستقبلي. سألَني إن كنتُ أحبّه، فأجبتُ بـ "نعم" خجولة، وهو حلّفَني بحبّي له بأن أقبَل به زوجًا لي. رأيتُ الدموع في عَينَيه وتشجَّعتُ بسلاح الحبّ الرومانسيّ الذي قرأتُ عنه، وأقنعتُ نفسي بأنّ إنسانًا شَهمًا كهذا سيكنُّ لي المشاعر نفسها حالما يُدرِك أنّنا ولِدنا لنكون سويًّا. تمّ الزواج ورحنا نعيشُ في شقّة أردتُها أن تكون عشّ سعادتنا الدائمة.

كان ماهر لطيفًا معي واهتمّ بي كما تصوّرتُ أن يفعل، وكان جميع أهلي ومعارفي سعيدين لنا، لدرجة أنّهم سامحوه لأنّه تسبَّبَ لي بما سيعوّقُ حياتي إلى الأبد. كان ماهر في نظرهم بطلًا شجاعًا مليئًا بالمروءة والأخلاق. لكن أيّا منّا لم يكن يعرفُ ماهر جيّدًا... على الأقلّ في تلك الفترة. فالواقع أنّ الانسان يُشبه صندوقًا مُقفلًا ومُزيّنًا بالذهب والأحجار الكريمة، ولا نعلَم ما في داخله حقًّا إلّا حين نفتحه. عندها فقط نعرفُ حقيقة ذلك الانسان، حقيقة جميلة أم بشِعة. لكنّ المُشكلة الحقيقيّة هي أنّنا، حتّى لو أقفَلنا الصندوق، لن نستطيع أبدًا إعادة ما خرَجَ منه والبدء مِن جديد.

فعَلَ ماهر جهده لتفادي الإنجاب تحت ذرائع عديدة لَم أشكّ بها في البدء، وأهمّها أنّنا لا نزال صغيرَين على تربية الأولاد، وأنّ عليّ التأقلم مع حالتي الجسديّة التي كانت تُعيقُني. صدّقتُه لأنّه كان على حقّ في كلتَي الحالتَين. لِذا، فعلتُ جهدي لتدبّر أموري لوحدي، لأثبتَ له أنّني لستُ امرأة مُعوّقة ضعيفة وجديرة بالشفقة، بل إنسانة قويّة ومُستقلّة. وأعترفُ أنّ ماهر ساعدَني، من غير قصد، على تقوية نفسي جسديًّا ومعنويًّا، الأمر الذي كان مُفيدًا لي لاحقًا. لكن في تلك الفترة لَم أُدرك أنّني سأضطرّ للوقوف في وجه مُجتمع قاسٍ وزوج مُتنمِّر، بل حسبتُ أنّني سأعيشُ حياة هنيئة زهريّة اللون. ألَم يُصّرّ ماهر على الزواج منّي؟

لَم نخرُج سويًّا كثيرًا، أو بالأحرى فعلنا ذلك نادرًا تحت حجّة أنّه لا يُريدُ ارهاقي، لكنّني كنتُ أودّ لو اختلَطنا مع أصدقائنا أو عائلته أو صارَت لنا معارِف جديدة. إلّا أنّني بقيتُ مُعظم الأحيان لوحدي في البيت، بينما ذهَبَ زوجي مِن دوني لرؤية ما كان يُسمّيها "الشلّة". وفي تلك الأثناء، كنتُ أتمرّن على الطهو والتنظيف بِيَد واحدة، وتركيز نظري على العَين الصالِحة لدَيّ. وحين كان يعودُ في آخِر الليل، كنتُ أقصُّ له ما فعلَت وهو يدّعي أنّه يستمِع إليّ.

لا أدري كيف استطاعَ أن يقلبَ أخي ضدّي، أيّ صديقه، إلّا أنّني سمِعتُ ملاحظات قاسية مِن قِبَله بشأن زواجي، وحصَلَ مرارًا أنّ أخي أسمعَني أنّ عليّ أن أكون مُمتنّة لِماهر لأنّه "سَتَرَ" عليّ، بينما كان بإمكانه أن يعيش حياة "طبيعيّة" مع امرأة أخرى. أحزنَني كلامه كثيرًا، فحتّى ذلك الحين، حسبتُ نفسي زوجة "طبيعيّة" باستثناء بعض الصعوبات التي بتُّ أجتازُها شيئًا فشيئًا. ومنذ ذلك الحين، صِرتُ أرى نفسي ناقِصة بالفعل وبدأَت ثقتي بنفسي تتراجَع.

أهل زوجي كانوا أيضًا قاسيين عليّ، لكن بشكل مُبطّن، بسبب شعورهم بالذنب حيال ما فعلَه ابنهم بي. لكنّهم كانوا يتهامسون حَولي كلّما إجتمَعنا وأرى في عَينَيهم الشفقة، ليس عليّ بل على ماهر. ففي نظرهم هو كان يستحقّ زوجة أفضل منّي، لكن هل طلبتُ أن أُصابَ بإعاقة أبديّة؟ فلولا قيادة ابنهم المُتهوِّرة، لمَا صِرتُ "بضاعة ناقصة ومضروبة". بقيتُ أُحِبّ ماهر وكلّ ما يتعلّق به مِن قريب أو بعيد، وهو بدأ يمقتُني يومًا بعد يوم ويُعاملُني كالعنزة الجرباء التي يجب إبعادها وعزلها، لعلّها تختفي. لكنّني لَم أختفِ، وهذا ما أغضبَه... فقرَّرَ أن يتصرّف بهذا الشأن.

نعَم... قرَّرَ ماهر أن يقتلَني.

لَم تنمُ الفكرة في رأسه على الفور بل على مرّ الزمَن، أيّ خلال ثلاث سنوات مِن زواجٍ أصفُه بالتعيس. والأمر الذي ساعدَه على أخذ قراره، كان علاقته مع امرأة أخرى تعرَّفَ إليها وأحبَّها. وأنا كنتُ عثرةً في دَرب سعادتهما. قد تقولون: "لماذا لَم يُطلّقني بدَلًا مِن مُحاولة قتلي؟"، والجواب هو أنّه لَم يكن قادِرًا إجتماعيًّا على ترك امرأة كان هو السبَب في إعاقتها. فماذا سيقول الناس عنه؟ سيُصبح إنسانًا منبوذًا ومكروهًا طوال حياته. لا، كان يجب أن أموتَ وأجعَلَ منه أرملًا شهمًا ضحّى بشبابه لتصحيح غلطته.

لكنّ ماهر لَم يكن ذكيًّا كفاية للتخطيط للقتل، لِذا إستعانَ بعشيقته وسويًّا خطَّطا واتَّفقا... ونفَّذا. لكن قَبل ذلك، أرادَت تلك المرأة البغيضة أن ترى ضحيّتها، ربّما لِتُقنِع نفسها بضرورة إزاحَتي نهائيًّا مِن دَربها. لذا هي دقَّت بابي ذات يوم بذريعة أنّها تقومُ بحملة تبرّع لطفل مريض بحاجة إلى عمليّة جراحيّة يسكنُ وأهله في الجوار. وبما أنّني كنتُ أفتقدُ لوجود طفل في حياتي، أسرَعتُ بإدخالها البيت لأستمِع لقصّة ذلك الولَد والمُساهمة بإنقاذه. أخذَت عشيقة زوجي بتزويدي بمعلومات مؤثِّرة، بينما كانت تتفحّصُني بدقّة، ثمّ سألَتني عن إعاقتي، فشرحتُ لها الظروف التي أدَّت إليها، مُضيفة أنّني لَم أُحمِّل زوجي أبدًا ذنب ما حصَلَ لي. ورأيتُ شبه بسمة على وجهها لَم أستطِع تفسيرها، فكيف لي أن أتكهنّ مَن تكون تلك المرأة حقيقةً؟ أعطيتُها بعض المال، وأكّدتُ لها أنّني سأُصلّي لذلك الولَد المسكين كلّ يوم إلى حين يشفى. هل أنّ طيبتي وصلاتي خلّصاني مِن المحتوم؟ أظنّ ذلك بقوّة. رحلَت عشيقة ماهر وفي بالها شيء واحد: على المُعوّقة أن تموت. أخبرَتُ ماهر ما جرى وهو هنّأني على قلبي الكبير... يا للماكِر!

بقيتُ مُتأثِّرة بقضيّة الولَد لأيّام، وذرفتُ الدموع مِن أجله، وتمنّيتُ لو تُعلِمُني تلك المرأة بالمُستجدّات إلّا أنّها لَم تُعطِني رقم هاتفها أو أيّ طريقة أخرى للاستفسار، فقصدتُ مُختار المحلّة الذي كان يعرفُ جميع السكّان وبإمكانه تطميني. إلّا أنّ الرجُل استغرَبَ الأمر واستنتَجَ أنّني وقعتُ ضحيّة نصّابة. للحقيقة لَم آسَف كثيرًا على المال الذي تبرَّعتُ به، فالمُهمّ أنّ ليس هناك مِن ولَد مريض وعلى حافة الموت، على الأقلّ في جوارنا. لَم أقُل لزوجي ما إكتشَفتُه خوفًا مِن الشماتة، فلَم أكن أريدُ سماع المزيد مِن التنمّر.

لكنّ الثنائيّ اقترَفَ خطأً جسيمًا، وهو أنّهما أرادَا بشكل زائد تأمين نجاح خطّتهما، فقامَت العشيقة بزيارة بيوت عدّة بالحجّة نفسها، وذلك في حال رآها أحدٌ واقِفة ببابي. وجميع الذين تبرّعوا للولَد المريض الوهميّ، راحوا يشتكون للقيّمين والشرطة، وباتَت المرأة تحت مجهر العدالة. وبينما لَم أكن أشكّ بالذي يُحاك ضدّي، كانت العشيقة مطلوبة لدى الشرطة قَبل أن تُنفِّذ وزوجي قتلي.

لا أدري تمامًا كيف تمكّنَت الشرطة مِن إيجاد المرأة، لكن انتهى المطاف بها في القسم، إلّا أنّها لَم تفهَم لماذا تمّ القبض عليها، بل اعتقَدت أنّ السبب هو التخطيط لقتلي، وظنَّت أنّ ماهر هو الذي وشى بها، فمَن غيره يعلَم بالموضوع؟ ولكثرة غضبها وامتعاضها مِن زوجي، بدأَت العشيقة تتكلّم مِن تلقاء نفسها عن الخطّة، وكيف أنّها لَم تكن موافِقة بل أنّ ماهر هو الرأس المُدبِّر. لَم يُصدِّق المُحقّق ما سمِعَه، فهو اعتقلَها بسبب عمليّة النصب، فتركَها تتكلّم قدر ما تشاء، وأخَذَ منها إفادتها ثمّ أرسَلَ شرطيّين لِجَلب زوجي مِن مقرّ عمَله. لَم يستطِع ماهر إنكار التهمّة، مع أنّه حاوَلَ إلقاء المسؤوليّة على عشيقته، إلّا أنّ المطاف انتهى بهما في السجن إلى حين موعد جلسة المحكمة.

وصَلَني اتّصال مِن المُحقّق، ورحتُ القسم حيث تلقَّيتُ الخبَر، البشِع فبدأتُ بالبكاء وأخبرتُ الرجُل بقصّتي مع ماهر منذ البدء وخاصّة الحادث.

لَم أُسقِط حقّي في ما يخصّ ماهر، فكنتُ قد تحمّلتُ الكثير منه خلال زواجنا، ولَم أكن مُستعِدّة لمُسامحته للتخطيط لقتلي. تدخَّلَ أهله لإقناعي، فسألتُهم أين كانوا حين كنتُ بحاجة إلى دعمهم ومحبّتهم وقبولهم لي؟ ألَم يسخروا منّي؟ ألَم يعزلوني؟ اليوم ماهر وعشيقته في السجن لسنوات طويلة، ولَم آسَف عليه ولو للحظة، لكنّني شكرتُه ضمنيًّا لأنّه كان السبب في تقوية شخصيّتي والتغلّب على إعاقتي، الأمر الذي ساعَدني على إيجاد عمَل بسرعة والقيام بما طُلِبَ منّي على أكمَل وجه.

لزِمَني وقت طويل لتخطّي مرحلة زواجي ومُحاولة القتل، فراودَتني الكوابيس ليلًا، وسكنَني خوف دائم، خاصّة عند تواجدي بين الناس في الأماكن العامّة. قصدتُ مُعالِجة نفسيّة، ساعَدتني كثيرًا وها أنا على الطريق الصحيح لمُواجهة مُستقبلي الواعِد. أمّا مِن الناحية العاطفيّة، فلا أزال أواجِه تردّدًا كبيرًا في الوثوق بحبّ رجُل لي، مع أنّني التقَيتُ برجال أرادوا الارتباط بي. أعلَم تمام العِلم أنّني سأكون جاهِزة قريبًا وأنّني سأكون زوجة وأمًّا سعيدة، عليّ فقط إعطاء نفسي بعض الوقت كما نصحَتني المُعالِجة. وفي تلك الأثناء، أتمتّع بحياتي بين أهلي وأصدقائي وزملائي في العمَل، ولا أنسى أبدًا شكر الله يوميًّا لأنّه خلّصَني مِن الموت.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button