فتحتُ حضانة للأطفال وحقَّقتُ بذلك حلمًا راودَني مذ قيل لي إنّني عاقر وإنّ ليس هناك مِن وسيلة لي للإنجاب. لِذا وجدتُ أنّ الطريقة الوحيدة لإشباع شعوري بالأمومة هو الاهتمام بأطفال الآخرين. عمِلتُ لفترة كحاضنة أطفال لدى العائلات، واكتسبتُ خبرة كبيرة في هذا المجال إلى حين صرتُ جاهزة لاستئجار شقّة وتحويلها إلى حضانة تستوفي جميع الشروط. عانقَني زوجي بقوّة مؤكّدًا لي أنّني سأنجَح ببراعة في مشروعي.
إنطلَقتُ بقوّة وحماس وتبّينَ أنّ الحياة تفتح لي ذراعَيها، فلقد لاقَيتُ نجاحًا واضحًا منذ البدء. وردَدتُ الأمر إلى نوايايَ الصافية ورغبَتي الفعليّة في صَبّ حبّي واهتمامي على هؤلاء الصغار. وأظنُّ أنّ تلك النوايا التي أتكلّم عنها هي بالذات ما خلّصنا مِن الذي حصَلَ لي لاحقًا.
مِن بين الحاضنات التي تتالَت لمُساعدتي، كانت هناك صبيّة اسمها دارين أحبَبتُها كثيرًا لتفانيها في خدمة الأولاد وعمَلها الجدّيّ. هي كانت قد حصلَت على شهادتها وتودّ التمرّن لدَيّ لبضع أشهُر. لكنّني قرّرتُ إبقاءها عندي بصورة دائمة، بعد أن رأيتُ كيف تتعامَل وتتفاعَل مع الصغار. وأهل الأطفال أثنوا أيضًا على أدائها، الأمر الذي أكّدَ لي ضرورة إبقائها.
لكن مع الوقت، لاحظتُ على دارين تغيّرًا واضحًا في نفسيّتها، فهي أمسَت حزينة طوال النهار، وتُحاول البقاء قدر المُستطاع في الحضانة بعد انتهاء الدّوام. تجرّأتُ وسألتُها عن سبب انتفاخ عَينَيها الذي يدلُّ وبوضوح على أنّها تبكي باستمرار. وبعد تردّد واضح قالَت لي دارين:
ـ إنّه خطيبي يا سيّدتي.
ـ وهل أنتِ مخطوبة؟ لا أرى خاتمًا في أصبعكِ.
ـ أجل... إسمه رائد ويعمَل سائقًا خاصًّا لدى رجُل أعمال.
ـ وما دخله في حالتكِ يا حبيبتي؟
ـ طبعه... قاسٍ للغاية... وهو يغارُ بشكل فظيع إذ أنّه يتّهمُني باستمرار بالخيانة وكلّ أنواع المِكر.
ـ الخيانة؟ وهل لدَيكِ الوقت لذلك؟ فأنتِ تقضين يومًا طويلاً مع الأطفال وتذهبين مُنهكة إلى البيت. إضافة إلى ذلك، لَم تتغيّبي يومًا أو جاءَ أحد ليراكِ أو يلقاكِ.
ـ هذا ما أقوله له لكنّه لا يُصدّقُني. يُريدُني أن أتركَ العمَل لدَيكِ وأبقى في البيت إلى حين نتزوّج، مع أنّني أطلعتُه على نيّتي العمَل بعد زواجنا. فأنا لَم أدخُل المدارس ولَم أنَل شهادتي لأبقى في البيت. بل أُريدُ تحقيق ذاتي والشعور بأنّني مرأة مُنتجة.
ـ لماذا لا تتراجعين عن مشروع الزواج منه إن لَم يكن هناك مِن وفاق بينكما؟
ـ أخافُ منه يا سيّدتي... أنتِ لا تعرفينه! للحقيقة، لَم أعُد أُحبّه، بل تحوّلَ شعوري إلى مزيج مِن الخوف والاشمئزاز. الحقّ يقَع عليّ!
ـ لا يا صغيرتي، فالخطوبة هي في الواقع فترة تعارف للتأكّد مِن مشاعرنا تجاه الآخر، وإن كان اختيارنا له في مكانه. أليس فسخ الخطوبة أفضل مِن الطلاق، خاصّة إن كان هناك أولاد؟ ما رأي أهلكِ في الموضوع؟
ـ أهلي؟ هم يُريدوني أن أتزوّج وأن أقضي وقتي في الأعمال المنزليّة. إضافة إلى ذلك، لقد وعَدَ رائد أبي بأن يُكلّم ربّ عمله بشأن أخي ويجِد له عملاً، فذلك الرجُل يدفعُ مبالغ كبيرة لعامليه.
ـ لِما لا تجلبين رائد إلى هنا ليرى كيف يكون العمَل في الحضانة، فقد يطمئنّ باله ويدعُكِ بسلام. وقد يخجَل مِن نفسه بعد أن يتعرّف إليّ ونتكلّم سويًّا.
جاءَ رائد إلى الحضانة بعد أيّام قليلة، ولَم أُحبُّه على الاطلاق لكنّني استقبلتُه بالبسمة والكلام اللطيف. لَم أُحبّ الشرّ الذي يتطايَر باستمرار مِن عَينَيه، وكأنّه مُستعدّ في أيّة لحظة للمناكفات والمشاكل. جلَسَ الشاب جانبًا وصارَ يُراقبُ خطيبته وهي تهتمّ بالصغار وتُلاعبُهم. راقبَها وكأنّه حارس في سجن يراقبُ المساجين برَيبة. جاءَ زوجي في فترة بعد الظهر ليجلبَ لي بعض الحاجيات وعرّفتُه على رائد. في نهاية اليوم، هو أخَذَ دارين ورحلا بصمت. تمنَّيتُ ضمنًا ألا أراه مُجدّدًا وأن تستطيع تلك الصبيّة تركه وإيجاد مَن بإمكانه إسعادها حقًّا. لكنّه كان سيعودُ مُجدّدًا وبظروف قاسية للغاية.
في اليوم التالي، سألتُ دارين عن انطباع رائد بقضاء النهار في مقرّ عملها، وهي أجابَت بإحراج:
ـ هو لَم يُحبّكِ سيّدتي.
ـ شعور مُتبادَل! لكنّني لَم أفعَل له شيئًا يُزعجه، بل استقبلتُه بطريقة حسنة، وسمحتُ له بأن يرى كيف هو سَير العمَل لدَينا.
ـ ولَم يُحِبّ زوجكِ... أعذريني.
ـ هما لَم يتبادلا سوى التحيّة!
ـ إنّه رجُل وذلك يكفي. فرائد لا يطيقُ أن أتفاعَل بأيّة طريقة مع أيّ رجُل.
ـ يا إلهي... كَم أنّكِ مسكينة يا حبيبتي! لا أحسدُكِ على حياتكِ بعد الزواج مِن رائد! فالزواج محبّة وثقة وتفانٍ. أنظري إلى مُعاملة زوجي لي، فهو يفعَل جهده لإسعادي، وهو فخور بي لأنّني أملكُ حضانة وأتواجَد بين الأطفال طوال اليوم. لَم يتركني لأنّني عاقر وكأنّني بضاعة مضروبة، بل أحبَّني أكثر ليُنسيني وضعي. عليكِ إيجاد هكذا رجُل، وليس إنسانًا لا ثقة له بنفسه ويغارُ مِن ظلّه!
وفي تلك الفترة بالذات، ولِسوء حظّنا جميعًا، حصَلَ أن أُصبتُ بوعكة صحّيّة بليغة، الأمر الذي أجبرَني على مُلازمة الفراش على مدار الساعة. أوكلتُ دارين بالاهتمام بالحضانة، وزوجي بالمرور عليها خلال النهار ليرى إن كانت بحاجة إلى أيّ شيء.
وما لَم نكن نعرفُه، هو أن الخطيب كان يقضي مُعظم وقته خارج الحضانة، ليُراقب دخول أو خروج دارين أو أيّ رجُل قد تخونه معه. وهو رأى أنّني غائبة عن الحضانة، وأنّ زوجي هو الذي يدخُل ويخرج... أيّ أنّه عشيق دارين! وفي اليوم الثالث على غيابي، دخَلَ رائد الحضانة ومعه مُسدّس شهرَه بوجه زوجي وخطيبته وبحضور الأطفال! وكلّ ما حصَلَ بعد ذلك، وصَلَ لي عن طريق الشرطيّ الذي اتّصلَ بي:
ـ سيّدتي، علِمنا أنّكِ صاحبة الحضانة... لقد حصَلَ أمرٌ فظيع... فالأطفال تُرِكوا لوحدهم.
ـ ماذا؟!؟ لكن الحاضنة وزوجي موجودان في الحضانة! هذا غير مُمكِن، لا بدّ أنكم مُخطئون!
ـ علِمنا بالأمر بفضل أمّ جاءَت مع ولدها لتسجيله بالحضانة، وهي وجدَت المكان خاليًا مِن أيّ شخص بالغ بل مليء بصراخ الأطفال.
ـ لكن...
ـ وعلِمنا مِن صاحب المحلّ المُجاوِر أنّه رأى رجُلاً يصطحبُ زوجكِ والحاضنة عنوةً في سيّارته.
ـ إنّه رائد! ذلك الرجُل هو خطيب دارين الحاضنة وطباعه شرسة للغاية! يا إلهي، لقد خطفهما!
ـ هذا ما نعتقدُه أيضًا. هل لدَيكِ معلومات بإمكانها مُساعدتنا لمعرفة مكانهم جميعًا؟
ـ أنا مريضة ولدَيّ حرارة عالية، الأمر الذي لا يُساعدُني في هذه اللحظة للتفكير بأيّ شيء، خاصّة بعد سماع هذا الخبَر!
ـ حاولي مِن فضلكِ، فحياة المخطوفَين قد تكون بخطر.
ـ حسنًا... يا إلهي، أعطِني القوّة للتفكير! كلّ ما أعرفُه هو أنّ رائد يعمَل كسائق عند رجُل مُهمّ اسمه ب. ج ولا بدّ أنّكم ستجدون معلومات إضافيّة لدى ربّ عمله.
ـ ب. ج؟ إن كان هو نفسه الذي أفكّرُ به، فذلك الرجُل لدَيه أعمال مشبوهة لكنّه يفعل جهده للبقاء ضمن حدود القانون. ما مِن عجَب أنّ سائقه بهذا الكمّ مِن العدائيّة.
ـ أرجوكَ يا حضرة المُحقّق، جِدهم بسرعة! فزوجي هو كلّ حياتي وليس لدَيّ غيره في هذه الدنيا!
ـ سنفعل جهدنا، ثقي بذلك. وسأُطلعُكِ على كلّ جديد... مهما كان.
حين أقفلتُ الخط، كنتُ واثقة مِن أنّني لن أرى زوجي مُجدّدًا، فمَن يعلَم ماذا يدورُ في هذه اللحظة بين الخاطف وضحيّتَيه؟ هل كان قد قتلَهما أم أنّه يُعذّبهما ليتلذَّذ؟ لماذا أُصبتُ بالمرض في هذه الفترة بالذات؟؟؟ أخذتُ أصلّي بكلّ قوّة إيماني وبكيتُ كلّ دموعي. وحاولتُ الاتّصال برقم زوجي ورقم دارين، على أمَل أن أسمَع صوت أحدهما أو أستطيع التكلّم مع رائد وإقناعه بالعدول عن الذي يفعله، لكن هو حتمًا أخَذَ منهما هواتفهما لأنّ ما مِن أحد أجابَ على اتصالاتي المُتكرّرة.
في هذه الأثناء كان رائد قد أخَذَ دارين وزوجي إلى أحد بيوت ربّ عمله، وهو مكان مُنعزل وهادئ، وأجبرَهما على الجلوس صامتَين بينما يروي لهما كيف أنّه علِمَ بشأن علاقتهما العاطفيّة. حاولا كلّ واحد منهما بدوره إقناعه بأنّ علاقتهما ليست عاطفيّة بل فقط مهنيّة، لكن مِن دون جدوى.
قصدَت الشرطة المدعو ب. ج وسألوه أين رائد وأين بإمكانه أن يتواجَد. وأمام سكوت الرجُل، هدّدَ المُحقّق بأنّه سيفتَح ملفًّا به وبأعماله إن رفَضَ التعاون. عندها قالَ لهم ب. ج: "قد يكون رائد في بيتي الصيفيّ... فهو طلَبَ منّي المُفتاح الأمس بحجّة أنّه نسيَ غرضًا فيه عندما بعثتُه والخادمة لتنظيف المكان."
حين دخَلَت الشرطة البيت المذكور، وجدوا رائد مُقيّدًا على كرسيّ وزوجي مُمسكًا المُسدّس بِيدَه ودارين تتّصل بأهلها لطمأنتهم. هي طلبَت منهم إخبار السلطات أنّها وزوجي بخير. للحقيقة، لَم يعرف أيٌّ منهما أين يقَع البيت بالتحديد لأنّ رائد أجبرَهما على المكوث في أرض السيّارة طوال الطريق إلى البيت. أخَذَ المُحقّق مِن زوجي المُسدّس بهدوء، وسأله كيف أنّ الخاطف صارَ مخطوفًا! فأخبرَه أنّه تمكَّنَ مِن السيطرة على الخاطف بعد أن ضربَه على رأسه بإناء زهور كان بالقرب منه، عندما كان رائد مشغولاً بالصراخ على دارين. عمَلٌ بطوليّ للغاية أثنى عليه رجل الشرطة، فقد كان رائد سيقتل زوجي على الأرجح لأنّه ظنَّ أنّه عشيق الحاضنة.
سُجِنَ رائد لأعوام عديدة، وتركَت دارين العمَل في الحضانة لأنّ المكان يُذكّرها بخطيبها المجنون. وهي سافرَت بعد ذلك عند أقارب لها في الولايات المُتحّدة ووعدَتنا بأن تبقى على اتّصال بنا. مِن جانب آخر، تأثّرَت الحضانة بالذي حدَث، خاصّة أنّ الأطفال بقوا بلا مُراقبة لفترة ساعات، لكنّني عرفتُ كيف أُطمئِن الأهل. فلقد وضعتُ كاميرات موصولة بهواتفهم وجهاز إنذار حديث. وسرعان ما عادَ العمَل كما كان قَبل عمليّة الخطف.
علاقتي بزوجي قويَت أكثر، خاصّة أنّني اعتبَرتُه بطلاً وشجاعًا، فهو حتى ذلك الحين لَم يُبيّن لي تلك الناحية مِن شخصيّته، بل كان رجُلاً صامتًا ومُسالمًا يترُكُ لي مهام أخذ القرارات. الحمد لله على كلّ شيء، وخاصّة على رعايته لنا في كلّ وقت ومكان!
حاورتها بولا جهشان