زوجتي الثرثارة

لَم أرَ عيبًا فعليًّا في ثرثرةِ زوجتي دُنيا إلا بعد الزواج. فحين كنّا مخطوبَين، كنتُ أراها بين الحينِ والآخر فقط، وهي كانت تروي لي قصصًا وجدتُها مُسلّية. صحيحٌ أنّ والدتي قالَت عنها إنّها كثيرة الكلام، وإنّها تولّدُ لدَيها صُداعًا كلّما زارَتها، إلا أنّني دافَعتُ عن حبيبتي بقوّة قائلاً:

 

- لا تبدَئي بِلَعِبِ دَور الحماة منذ الآن يا ماما!

 

آنذاك ظلَمتُ والدتي... وظلَمتُ نفسي أيضًا، فلقد تزوّجتُ بعد أشهرٍ مِن إمرأة ثرثارة.

قد تقولون إنّ الأمر ليس بهذه الخطورة، وإنّه لا يَستَدعي كتابة قصّة عنه، وسأجيبُكم بأنّ هذه العادة البَشعة والمُزعِجة لها أبعادٌ خطيرة للغاية.

فمنذ وصول دُنيا إلى بيتنا، وبعد أن قبِلَت أن تسكُنَ معي وأمّي وأختي الصّغيرة، بدأَت كثرة الكلام. فمِن القصص التي كنتُ أسمعُها منها، إنتقلَت زوجتي إلى الكلام عن الناس بِشكل مُباشَر. فكلّما ذهبَت لتتسوَّق، عادَت ومعها أخبار الحَيّ بأسره. كيف تمكّنَت مِن معرفة ما لَم نعرِفه نحن خلال سنوات طويلة، بقَيَ الأمرُ بمثابة لغزٍ للجميع. لَم يكن يهمُّ أيّ منّا مَن تزوَّجَ ومَن طلّقَ وكيف أنّ زوجة البقّال تشاجرَت مع جارتنا في الطابق الرابع. لِذا كنتُ أُديرُ أذنًا صمّاء لأخبار زوجتي، بعد أن أفهمتُها بأنّني لا أكترِثُ لِحديثها هذا، وبعد أن تجاهَلت عدَم إصغائي لها. هكذا كانت دُنيا، تفعلُ ما تشاء ساعة تشاء وكأنّ كلّ شيء مُباح لها.

مضى على زواجنا حوالي الستّة أشهر حين شعَرتُ بانزعاج كبير مِن زوجتي. فصِرتُ أتهرّبُ مِن التواجد معها كَي لا تزعج أذنيَّ لِساعات، الأمر الذي حمَلَني على البقاء في عمَلي أكثر قدر مُمكن. كنتُ أعلم أنّني هكذا أُلقي الحَمل على أمّي وأختي، لكنّني لَم أكن قادرًا على تحمّل امرأة شبيهة بِمذياع يبثُ الأخبار على مدار الساعة.

وذات يوم، جاءَ إلى مقرّ عملي رجلٌ طلَبَ رؤيتي. تفاجأتُ به لأنّني لَم أرَه يومًا في حياتي وهو عرِفَ إسمي ومكاني. إستقبلتُه في مكتبي وسألتُه عمّا يُريدُ منّي، فقال لي بِنبرة لَم تكن ودّيّة أبدًا:

 

ـ قُل لِزوجتكَ أن تكفَّ عن الثرثرة وإلا قطَعتُ لسانها بِنفسي!

 


ـ ما هذا الكلام؟!؟ إنّها زوجتي! ولا أسمحُ لكَ بأن... ولكن مَن أنتَ؟ وما الأمر؟

 

ـ أنا جارُكم في الحَيّ وأُدعى فارس... عذرًا لكنّني مُستاءٌ للغاية فالأمر خطير!

 

ـ إهدأ يا أستاذ فارس وقُل لي ما يُزعجُكَ.

 

ـ زوجتُكَ تُطلقُ الإشاعات حولَ... كيف أقولُ لكَ هذا... حولَ رجولتي!

 

إحمرَّ وجه زائري، ومع أنّ الأمر كان فظيعًا وصعب التصديق، إلا أنّني لَم أشكّ أبدًا في تهمته لدُنيا، وتذكّرتُ أنّها في إحدى المرّات قالَت أمامي شيئًا مِن هذا القبيل. لكنّني كنتُ مُجبرًا على الدفاع عن زوجتي فقلتُ للرجل:

 

ـ أنتَ حتمًا مُخطئ، ولا أسمحُ بأن تُلمِّحَ حتى أنّ زوجتي تعرفُ شيئًا عن رجولتكَ.

 

ـ لا! لا أقصدُ شيئًا كهذا! أعني أنّها تقولُ عنّي إنّني لستُ رجلاً حقيقيًّا لأنّني لا أُنجبُ.

 

ـ وما دخل الرجولة بالعُقم؟

 

ـ هي تقولُ أشياء فظيعة عنّي! صِرتُ مضحكةَ الحيّ بأسرِه، الأمر الذي حمَلَني على تفضيل البقاء في البيت وعدَم الخروج منه. إنّني غاضبٌ للغاية وأخشى أن أؤذيها يومًا، فأنا رجل هادئ ومسالم. ولكن...

 

ـ أفهمُكَ تمامًا. هل أنتَ متأكّدٌ مِن أنّها صاحبة الإشاعة؟

 

ـ أجل.

 

ـ دَع الأمرَ لي.

 

رجِعتُ إلى البيت غاضبًا، فلَم أتصوّر يومًا أن أوضَع في هكذا موقف. فلقد عِشتُ وأهلي في ذلك الحَي لِسنوات طويلة والكلّ يحترمُنا ويُثني على سيرتنا الحسنة. فور دخولي، أخذتُ دُنيا جانبًا وسألتُها عن الموضوع، وهي قالَت لي:

 

ـ قَصَدَكَ الزوج؟ كنتُ متأكّدةً مِن أنّني على حقّ! ها ها ها!

 

ـ حاولي على الأقل إنكار مسؤوليّتكِ عن بثّ تلك الإشاعة!

 

ـ إنكار؟ ولماذا؟ إشاعة؟ لا بل حقيقة!

 

شعَرتُ بِرغبة كبيرة في صَفع زوجتي، لكنّني تمالَكتُ نفسي، إلا أنّني بدأتُ أصرخُ فيها، وهدّدتُها بالكفّ عمّا تفعلُه وإلا طلقّتُها. نظرَت إليّ زوجتي وقالَت لي:

 

ـ لا أنصحُكَ بتطليقي أو تهديدي... فأنتَ صِرتَ تعرفُ قوّة لساني.

 

راحَت هي إلى الغرفة وأنا بقيتُ واقفًا مُحاولاً إستيعاب شرّ التي أحبَبتُها. لكنّني لَم أُدرِك مدى الضّرَر الذي يُمكنُه الحصول لي، لأنّني اعتقدتُ أنّ دُنيا تَنقُلُ فقط الأخبار أو تتلقّاها، ولَم يكن لدَيّ أيّ شيء أخجلُ منه.

 


بعد أقلّ مِن أسبوعَين على زيارة ذلك الرجل لي، عادَ مرّة أخرى، لكن ليس بمفرده بل مع رجلٍ آخرٍ وامرأة. كانوا بِغاية الغضَب، وبعد أن عمِلتُ جهدي لِتهدئتِهم، قالوا لي إنّ زوجتي تمادَت كثيرًا في ثرثرتها وصارَ الكلّ تقريبًا يُعاني، وبشكل كبير، مِن لسانِها. أخبرتُهم أنّني حاوَلتُ إفهامَها أنّ ما تفعله مُضرٌّ ولا يجوزُ المضيّ به. وأضَفتُ أنّني هدّدتُها بالطلاق، لكنّهم وعَدوني بأنّهم سيُسكتونَها بأنفُسِهم إن لَم أفعَل.

عُدتُ في المساء إلى البيت وكلّمتُها مُجدّدًا، شارحًا لها أنّ الناس سيتوصّلون يومًا إلى أذيّتِها وأنّني لَم أعُد أحتمِلُ أن يأتي إليّ أشخاصٌ يشتكون منها. للحقيقة، كنتُ قد توقّفتُ عن حبّ زوجتي وأصبحتُ نادمًا للغاية على الزواج منها، وأظنُّ أنّها شعَرَت بذلك مِن تصرّفاتي معها ومِن نبرة صوتي، فنظرَت إليّ بِحقدٍ عميقٍ وقالَت:

 

ـ أعلمُ أنّكَ ستطلّقُني يومًا... أو تنوي ذلك على الأقلّ، ولن أسمحَ لذلك أن يحصَل. فلا أريدُ أن يشمَتَ أيّ مِن هؤلاء البؤساء بي، فأنا التي أتكّلمُ عنهم وليس هم! إسمَع، إن فكَّرتَ بالتخلّص منّي ولو تفكيرًا، سأقولُ للحيّ بأسرِه ولموظّفي الشركة التي تعمَل فيها أنّ بينكَ وبين أختكَ أشياء رهيبة لا يتقبَّلُها إنسان! نعم، وسأقولُ أيضًا أنّ أمّكَ على علمٍ بالفجورِ الذي يحصلُ في بيتِها، وهي تسكتُ عنه لأنّ جميعكم مُنحرفون. سأدمّرُكم!

 

ـ ماذا؟!؟ أنتِ مجنونة! أنتِ حقًّا شرّيرة! لن يُصدّقُكِ أحدٌ، فالجميع يعرفُنا منذ سنوات طويلة ويعرفُ سيرَتَنا.

 

ـ ربّما... لكنّ الناس يُحبّون القصص الـ... كيف أصفُها؟ قصص الفحشاء، ويُحبّون نقلَها لِبعضهم. سأقلبُ حياتَكَ إلى جحيمٍ! إلزَم حدودَكَ معي وإلا...

 

أعترفُ أنّني خِفتُ مِن دُنيا، فهي كانت قادرةً على تدميرِ أيٍّ كان. لماذا كلّ ذلك الحقد على الناس؟ ماذا حصَلَ لها في طفولتِها لِتصبحَ هكذا؟ كلّ ما أعرفُه هو أنّني، ولأوّلِ مرّةٍ منذ صغَري، بكَيتُ. بكَيتُ على المأزَق الذي وضَعتُ نفسي فيه والذي سأضعُ عائلتي فيه أيضًا.

في اليوم التالي، أرسَلتُ أمّي وأختي إلى البلدة بحُجّة أنّني بِحاجة إلى بضعة أيّام مع زوجتي لنستمتِعَ بشيء مِن الحميميّة، مُعتقدًا أنّني سأستطيعُ تهدئة دُنيا واسترجاع احترامنا لبعضنا، ولو بعض الشيء. لكنّ وجودي مع زوجتي أعطاها الفرصة لِتنكيدِ أيّامي والمضيّ بتذكيري بتهديدها لي، لا بَل لإعداد قصّتها على سجيّتها.

كرِهتُ دُنيا كَما لَم أكرَه أحدًا، الأمر الذي فاجأني لأنّني لطالما كنتُ إنسانًا مُسالِمًا ومُحبًّا، وتساءَلتُ كيف أحبَبتُ تلك المخلوقة البشِعة. لم أعُد أُطيقُ وجودَها معي ورؤيتَها حتى، ومِن جهّة أخرى كان مِن المستحيلِ تطليقُها.

لكن قَبل يومٍ واحدٍ مِن عودة أمّي وأختي إلى البيت، وبينما كنتُ حائرًا بأمري، حصَلَ شيءٌ غيَّرَ المُعطيات كلّها.

فالناس الذي تأذّوا مِن لِسان دُنيا، لَم يعودوا قادرين على التحمّل والمُخاطرة بسمعتِهم وحياتِهم. لِذا، نصَبوا لها فخًّا في ذلك اليوم.

كانت زوجتي قد دخَلَت عند البقّال لِتشتري حاجاتَنا وللثرثرةِ طبعًا، حين سحبَها أحدٌ إلى الغرفة الخلفيّة. وهناك، تمّ شَتمُها وضربُها مِن قِبَل أشخاصٍ عديدين لَم ترَ وجهَهم. وحين انتهوا منها، رموها في الشارع. وبقيَت دُنيا وسط الطريق إلى أن توقّفَت سيّارة وأخذَها السائق إلى المشفى. هناك، طلبَت زوجتي مِن الأطبّاء إستدعاء الشرطة.

حدَثَ تحقيقٌ بالأمرِ، لكن مِن دون نتيجة. جاءَت الشرطة أيضًا إليّ لكنّني، ولِحسن حظّي، كنتُ في العمَل أثناء وقوع الإعتداء.

هل حزِنتُ على دُنيا؟ بالطبع لا!

وبالرّغم مِن ادّعاء دُنيا على البقّال والرجل الذي زارَني وأهالي الحَي، لَم يثبت شيءٌ عليهم لأنّهم تكاتفوا وأعطوا حججَ غياب لِبعضهم. وأقسَمَ البقّال أنّ زوجتي لم تطأ قدمًا عنده في ذلك اليوم، وشهِدَ معه بعض الزبائن أنّها فعلاً لَم تأتِ. فالكلّ كان يُريدُ التخلّص مِن زوجتي ومِن أذيّتِها المجّانيّة. وكانوا قد أسدوا لِنفسهم ولي خدمةً كبيرة، فلَم أكُن قادرًا على تعنيفِ دُنيا مهما حصَل.

بقيَت زوجتي في المشفى حتى شفيَت مِن رضّاتِها وكسورِها، وحين أرادَت العودة إلى البيت، منعتُها مِن ذلك قائلاً:

 

ـ آسف، لكنّني طلّقتُكِ.

 

ـ لا تستطيع فعل ذلك! سأقولُ...

 

ـ لن تقولي شيئًا! بقيتِ على قَيد الحياة هذه المرّة، فاحمدي ربّكِ. لكنّ في المرّة القادمة...

 

ـ أتُهدُّدني؟!؟

 

ـ أجل! هيّا! إرحلي واتركينا كلّنا بِسلام أيّتها الأفعى! أمّا أنا، فسأترُكُكِ لِحكم الله، ونِعمَ الوكيل!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button