هل ما قالَه والد ياسمينا لي عن تأثير تدخّلي على سيرتي المهنيّة، هو تهديد مُبطّن أم مُجرّد مُلاحظة؟ وكيف له أن يزعَم أنّ ابنته تختلِق مسألة التعنيف التي تقومُ بها زوجته؟ فقبَل أن يخرُج الرجُل مِن الدكّان، أمسكتُه بذراعه وصرختُ به:
ـ وماذا عن جروح وحروق ياسمينا وشعرها الذي قُصَّ منه خصلة كبيرة؟ هل هذا أيضًا كذب؟!؟
ـ أجل يا أستاذة... ياسمينا تفتعِل تلك الأمور، فهي التي جرحَت وأحرقَت ذراعَيها وقصَّت شعرها. إنّها مُراهقة غاضبة للغاية، صدّقيني، فلقد أثَّرَ فيها، وإلى حدّ كبير، موت أمّها وزواجي الثاني. ليكن الله بِعَون ليال، فهي لَم ترَ يومًا هنيئًا مذ قبِلَت بي زوجًا لها، وأخافُ أن أخسرَها!
ـ ولا تخاف أن تخسرَ ابنتكَ؟
ـ إسمعي يا آنستي، لن أُحبَّ زوجتي بقدر ما أُحبُّ ابنتي فهي جزء منّي. إلا أنّ كَيلي قد طفَحَ وباتَ العَيش مع تلك الفتاة بمثابة جحيم يوميّ. أردتُ أخذها إلى طبيب نفسيّ إلا أنّها هدّدَتني بالانتحار لو أجبَرتُها على ذلك. أنا في حيرة مِن أمري، وآخِر شيء أُريدُه في هذه المرحلة هو تدخّل جمعيّة أو مُحاميّة. فاتركينا بسلام، أرجوكِ!
بدا لي الرجُل صادقًا قبل أن يصعد "إلى جحيمه" كما أسماه، فاحترتُ مَن أُصدّق. هل أنّ ياسمينا بالفعل تؤذي نفسها وتتّهم ليال بتعنيفها؟ سألتُ صديقتي التي حضرَت المُقابلة عن رأيها، وهي بقيَت على موقفها الأساسيّ وهو أنّ المُراهقة ضحيّة زوجة أبيها... وأبيها.
عدتُ إلى الجمعيّة وشرحتُ للمسؤولة كلّ المُعطيات الجديدة، فقالَت:
ـ هناك احتمال أن تكون ياسمينا بالفعل تُسبّبُ لنفسها الأذى، لكن دعينا نتقصّى أكثر عن الأمر، فغالبيّة الأهل يُلقون التهمة على أولادهم ليزرعوا الشكّ في عقولنا، كما حدَثَ معكِ. في كلتَي الحالتَين، ياسمينا بحاجة إلى مُساعدة ونحن جاهزون.
ـ أشكركِ... سأرى ما باستطاعتي فعله لمعرفة الحقيقة. لن أتركَ ياسمينا مهما كلّفَ الأمر!
لَم أنَم تلك الليلة وأنا أفكّرُ بالظلم الذي يُحيط بياسمينا، فهي لا تتلقّى الشتائم والضرب فحسب، بل أنّ كلّ أفراد عائلتها مُتضامنون لمُحاربتها، لا بل تصويرها بأنّها مُراهقة مُضطربة وتُعاني مِن مشاكل نفسيّة. وكيف لها أن تشعُر بالأمان في هكذا أجواء؟
في اليوم التالي بالتمام، تلقَّيتُ اتصالاً مِن صديقتي صاحبة الدكّان، ومِن نبرة صوتها علِمتُ أنّ أمرًا خطيرًا قد حصل. فهي بالكاد استطاعَت إخباري بأنّ ياسمينا وصلَت إليها مُصابة بطعنة مقصّ في الفخذ وأنّها نُقِلَت بسرعة إلى المشفى. وقَعَ عليّ الخبَر كالصاعقة، فالمسكينة كانت تعلَم أنّ ما ينتظرُها أعظم. ماذا لو طعنَتها زوجة أبيها في البطن أو العنق؟!؟ إتّصلتُ على الفور بقسم الشرطة، وأبلغتُهم بما حصَل وكلّ ما أعرفُه عن تلك الصبيّة ومشاكلها.
حين وصلتُ المشفى وجدتُ تحرّيًا واقفًا إلى جانب سرير ياسمينا يأخذُ منها إفادتها بعدما استفاقَت مِن البنج. وحين رأتني، قالَت المسكينة:
- ها هي مُنقذتي... أرجوكِ يا أستاذة، قولي لهم ممّا أُعاني واحمليهم على إنقاذي منها!
نظَرَ إليّ المُحقّق وسألَني إن كنتُ مَن بلَّغَ عن وقوع الحادث، فأجبتُه أنّني أتابعُ القضيّة وأنا بالفعل مَن اتّصَلَ بالشرطة. ثمّ رأينا أب ياسمينة يدخُل كالمجنون غرفة ابنته والدمع يملأ عَينَيه. ولكن عندما رآني صرَخَ بي:
- ألن تتركينا وشأننا؟!؟ أرأيتِ ما فعلَته ابنتي بنفسها لإثبات مسؤوليّة ليال؟ أخرجي مِن غرفة ياسمينا!
وقفتُ مُحتارة حين طلَبَ منّي المُحقّق الخروج بحركة مِن رأسه، وفهمتُ أنّه يودّ أن يسأل الأب كلّ الأسئلة اللازمة. بقيتُ في الخارج أنتظرُ المُحقِّق، وحين خرَجَ سألتُه رأيه بالقضيّة:
ـ للحقيقة يا أستاذة، الأمر مُحيّر، فكلا الفريقان يُخبران قصّة مُقنِعة. لكنّني أخافُ على سلامة لا بل حياة تلك المُراهقة. فزوجة أبيها يُمكنُها أن تؤذيها أكثر، هذا إن كانت هي الفاعلة. وحتى لو ياسمينا هي مَن تفتعِل تلك الجروح، فبإمكانها أيضًا المُبالغة بالأمر إلى حدّ الموت. لِذا سأمنَع الزيارات عنها وأُبقيها في المشفى حتى يظهر ولو أدنى شيء عن هويّة الفاعل
عندها طلبتُ منه الإذن بالبقاء في غرفة ياسمينا لأسهَر على سلامتها وهو قبِلَ معي كوني لا مصلحة لي في القضيّة.
فرحَت ياسمينا كثيرًا لدى معرفتها بأنّني سأنامُ في غرفتها وقبّلَتني بقوّة. مِن حسن حظّها أن الجرح لَم يكن بليغًا وأنّ رِجلها لن تتأثّر لمدّة طويلة.
بعد حوالي الساعة، دخَلَ الغرفة طبيب نفسيّ أطلعَنا على قيامه بجلسة تقييم لياسمينا في اليوم التالي، وذلك بطلَب مِن الشرطة. فتلك الجلسة كافية للتأكّد مِن أقوال الصبيّة. وبعد خروج الأخصّائي، سألَتني ياسمينا إن كان يقول الحقيقة في ما يخصّ دقّة جلسة التقييم النفسيّ. فأجبتُها:
ـ صحيح ذلك، فقلّة هم الذين يستطيعون غشّ أخصائيّ نفسيّ، خاصّة مَن هم في سنّكِ. لا داع للخوف يا حبيبتي، فليس لدَيكِ ما تخفينه. ولِترتاحي أكثر، إعلَمي أنّ المُحقِّق بعثَ بزوجة أبيكِ إلى القسم وسيستجوبها بشراسة، خاصّة أنّ طعنة المقصّ تُعدّ مُحاولة قتل وقد تُعاقَب تلك المرأة بشدّة.
ـ وماذا لو أخطأ الطبيب في التقييم... ماذا قد يحصلُ لي؟
ـ كفاكِ ارتيابًا... لكنّني سأُجيبُكِ: سيدخُل ذلك في ملفّكِ الشخصيّ، على الأقلّ المرَضيّ، فلن يطالُكِ القانون لأنّكِ قاصر. لكنّ ليال هي التي ستدخُل السجن ولن تعودَ قادرة على أذيّتكِ لوقت طويل. لِما لا تنامي قليلاً، فلقد خضعتِ للجراحة وغدًا يوم حاسم بالنسبة لكِ.
ـ لا أُريدُ أن أنام! أنا خائفة! فستنتصرُ تلك الأفعى!
ـ الحقيقة وحدها تنتصرُ، إطمئنّي.
ـ وذلك ما يُخيفُني.
ـ ما قصدكِ؟
ـ لقد... لقد كذبتُ عليكِ... سامحيني!
ـ ماذا؟!؟ هل تقولين ذلك بدافع الخوف؟ أعلَمُ أنّ المسألة صارَت مُعقدّة لكن...
ـ لقد كذبتُ عليكِ منذ البداية. لا أُريدُ أن يُعاقبني القانون! أجل، أنا التي افتعلتُ تلك الأمور لنفسي: الرضّات والخدوش وقصّ شعري وأخيرًا الطعنة.
ـ أيّتها البلهاء! لو أصَبتِ شريانًا رئيسيًّا في فخدكِ لخسرتِ دمكِ وربّما ساقكِ! وماذا عن ليال التي هي الآن في قسم الشرطة، تُعامَل كمُجرمة وضيعة وتواجِه تهمًا شنيعة ومُضرّة بسُمعتها؟ هل فكّرتِ بها أم أنّ كرهكِ لها أعماكِ وأوصلكِ للتمثيل والخداع؟ آه، لو سمعتُ مِن أبيكِ، فهو حذّرَني واعتقدتُ أنّه يُهدّدُني ليُخيفني وليُبعدني عن قضيّتكِ! كيف أنّ فتاة في سنّكِ استطاعَت غشّي وغشّ سكّان مبنى بأكمله؟!؟
ـ أنا آسفة، لكنّني مُشتاقة لأمّي ولا أستطيع نسيان وجودها. جاءَت امرأة أخرى وأخذَت مكانها في حياتنا والبيت وقلب أبي الذي نسيَها بسرعة فائقة!
ـ الحياة تستمرّ بعد أن نفقد مَن نُحِبّ. قولي لي، هل أنّ ليال سيّئة معكِ حقًّا؟ أجيبي بمنتهى الصراحة!
ـ لا، فهي فعلَت وتفعَل جهدها لإرضائي والتقرّب منّي.
ـ ليُسامحكِ الله! المسكينة صبَّت اهتمامها كلّه عليكِ وعانَت منكِ كثيرًا بدلاً مِن أن تنعمَ بزواجها مِن أبيكِ وتكون سعيدة معه. إسمعي... هناك أولاد يُعانون بالفعل مِن العنف الأُسَري معنويًّا وجسديًّا، وبسببكِ وأمثالكِ هؤلاء سيجدون صعوبة كبيرة في إسماع صوتهم، فلن يعودَ يُصدّقهم أحد بل سيتّهمونهم بالتمثيل. ما موقفكِ مِن ذلك؟
ـ أنا آسفة جدًّا... فالحياة ظلمَتني عند موت أمّي، فضعتُ وسط عائلتي ولَم أفهَم كيف أنّ أختي الصغرى وأبي استطاعا المواصلة براحة تامّة. كيف نسِيا أمّي؟!؟
ـ هما لَم ينسِياها بل يحملانها في قلبهما ويعيشان حياة جديدة في آن واحد. فالحياة هي ملك الأحياء ولا مكان للموتى فيها لأنّهم في مكان آخر. سأتكلّمُ مع أبيكِ والمُحقّق، فيجب أن يُخلى سبيل المسكينة ليال.
ـ يا إلهي، ماذا سيقولون عنّي؟ لا! أرجوكِ!
ـ الكبار يتفهّمون مشاكل مَن هم أصغَر منهم. إلى جانب ذلك، ستخضعين لعلاج نفسيّ شئتِ أم أبَيتِ، على الأقلّ مِن أجل مَن يعيشون معكِ، فهم تضرّروا بسببكِ كثيرًا.
ـ كيف سأُواجِه أبي وأختي و... ليال؟
ـ الحبّ يكفي للمُسامحة يا صغيرتي، سترَين. وحين تخضعين للمُعالجة النفسيّة، ستتغيّر حياتكِ إلى الأفضل وستعيشين كسائر بنات سنّكِ.
ـ هل ستتركينني؟!؟
ـ لا، بل سأظلُّ أُتابعُ حالتكِ إلى حين تتحسّن، لا تحافي. على كلّ الأحوال، أنتِ بالفعل مُحاطة بأناس يحبّونكِ، وإلا لَما تحمّلوا ما فعلتِه بهم.
اليوم ياسمينا فتاة جامعيّة ناجحة وهادئة وعاقلة ومُستقبلها واعد جدًّا. عادَت السكينة إلى قلبها وصارَت تُحبّ ليال كثيرًا، بل تعتبرُها، إن لَم نقُل أمّا لها، فصديقة مُقرّبة وتروي لها كلّ أسرارها ومشاكلها.
لا أزالُ أواجه قضايا أولاد مُعنَفّين، وما حصَلَ مع ياسمينا لَم يزرَع الشكّ في قلبي ورأسي في ما يخصّ حقيقة مُعاناة هؤلاء المساكين. فلا يجب أن يذهبوا ضحايا الكذب والتمثيل لأنّ عذابهم حقيقيّ. آه، لو ينتهي الظلم يومًا ويختفي مِن على وجه الأرض!
حاورتها بولا جهشان