بعض المهن مناسِبة تمامًا لمَن يُريد تبرير غياباته المريبة، ومهنة زوجي كانت سائق أجرة. والذي ساعدَه أيضًا هو أنّه كان يعمل لحسابه الخاص، أي أنّه غير ملتزم بدوام مكتب سيّارات أجرة فلا يعرف أحد أين كان ومع مَن.
حسبتُ أنّ جودَت يُحبّني، لأنّه كان يُردّد لي ذلك طوال الوقت ويهتمّ بأولادنا، على الأقل عندما كنّا نراه. فهو كان يترك البيت في الصباح الباكر ليعود في المساء منهكًا، هذا إذا لم يعد عند الفجر، عندما كان يُرافق أبناء الليل الذين كانوا يطلبونه مرارًا.
كنتُ سأظلّ أجهل ما يحدث وراء ظهري لولا ذلك النهار المشؤوم. أخذتُ ابنتي للتسوّق قبل حلول العيد في شارع توجد فيه محلات أسعار ملابسها بمتناول الجميع. فالحقيقة أنّنا لم نكن أثرياء، لا بل بالكاد نستطيع دفع ما علينا مِن فواتير وأقساط مدرسيّة.
مشينا كثيرًا وكنّا تعبَتَين للغاية، فقرّرتُ الجلوس مع ابنتي على حافة الطريق لبضع دقائق. وفي تلك اللحظة بالذات، مرّ جودَت أمامنا بسيّارته إلا أنّه لم يرَنا. بالقرب منه، كانت جالسة صبيّة، وكانا يتحدّثان بطريقة وديّة لم تغب عن انتباهي. شعرتُ بانزعاج كبير، خاصّة أنّ الركّاب يجلسون عادة على المقعد الخلفيّ، وهي كانت إلى جانبه وكأنّها تعرفه معرفة وطيدة.
إنتظرتُ حتى المساء لأسأل زوجي عن نهاره، فراحَ يروي لي عمّن ركِبَ معه وأين أخذَه. لكنّه لم يأتِ على ذكر الصبيّة أو المنطقة التي رأيتُهما فيها. عندها تأكّدتُ مِن أنّ شيئًا ما يحصل.
في المساء نفسه، عندما ذهبتُ أتفقّد أولادي في أسرّتهم، سألتُ نفسي إن كان عليّ فضح جودَت أو السكوت كي لا أخسر فلذات كبدي أو أحرمهم مِن أبيهم.
في الصّباح، كنتُ قد قرّرتُ مراقبة زوجي عن بعد، راجية أن يكون في مرحلة طيش عابرة وأن يعود إلى صوابه قريبًا.
الشيء الذي كان يُثير غضبي إلى أقصى درجة، كان أنّ زوجي بقيَ يتصرّف معي وكأنّ شيئًا لم يكن، أي بوقاحة تامة. هل كان يستغبيني أم أنّه كان حقًّا يُحبّني ويستمتع فقط مع الأخرى؟
لا أدري إن كان ما حدَثَ لاحقًا وليد صدفة غريبة، أم أنّ الله أرادَني أن أفتَحَ عَينَيَّ على ما يجري. فبعد حوالي الأسبوعَين دقَّت جارتي بابي وجلسَت على الأريكة مربكة. كانت قد رأت زوجي يُقبّل امرأة في سيّارته وجاءَت لتخبرني بالأمر. ولأنّني كنتُ أشكّ بأنّ ذلك كان فعلاً يحصل، لم أتفاجأ كثيرًا بل قلتُ لها بحزن:
ـ مِن المؤسف أنّ جودَت يهوى الفتيات الشابّات... لقد كبرتُ عليه.
ـ شابّة؟ المرأة التي رأيتُها معه هي في سنّكِ، يا حبيبتي!
وصفتُ لها الصبيّة التي كانت برفقة جودَت وهي وصفَت لي التي رأتها، وكان مِن الواضح أنّنا لم نكن نتكلّم عن المرأة نفسها.
هكذا إذًا... لم يكن لزوجي نزوة بل نزوتان وربمّا أكثر مِن ذلك! أيّ وحش هو جودَت وكيف له أن يخونَني هكذا؟ ما الذي فعلتُه لأستحقّ أن أُهان بهذه الطريقة البشعة؟ لم يكن هناك مشاكل بيننا، بل العكس، كنّا متفاهمَين جدًّا وكانت حياتنا الزوجيّة ممتازة. ما الذي وجدَه زوجي بغيري وأنا لا أملكه؟ الصبا؟ لا، فالمرأة الثانية ليست صبيّة. ماذا إذًا؟
لم يكن بمقدوري ملاحقة زوجي أثناء تجوّله في طرقات العاصمة، فلم أجد سوى التفتيش بهاتفه لمعرفة الحقيقة. كان جودَت يفتح جوّاله بواسطة بصمته، لِذا انتظرتُ حتى غرِقَ تمامًا بالنوم، وأمسكتُ إصبعه ووضعتُه على الهاتف. لم أكن فخورة بنفسي، إلا أنّ زوجي هو الذي دفعَني إلى هكذا حلول مِن جرّاء كذبه عليّ وخيانته لي.
وما رأيتُه في الرسائل كان فظيعًا. كان زوجي متزوّجًا مِن اثنتَين غيري، الواحدة مطلّقة والأخرى أرملة. عندها علِمتُ أين يذهب المال، ولم أستوعب كيف لزوجي أن يحرمنا مِن أبسط الأمور ليصرف على ملذّاته. كرهتُه إلى أقصى حدّ، وتمنَّيتُ لو يموت في نومه كي لا أعاني ممّا سيحصل عندما أواجهه بالذي اكتشفتُه. لكنّ جودَت استفاقَ في الصباح وقبّلَني، وقال لي إنّه يُحبّني كثيرًا ومِن ثمّ بدأ يتحضّر للذهاب في جولاته. كان مُقنِعًا لِدرجة أنّني خلتُ أنّني حلِمتُ بمحادثاته الهاتفيّة. إلا أنّ الواقع كان مريرًا، وأخذتُ أفكر بما سأفعله بحياتي وحياة أولادي.
ولحسن حظّي أنّني كنتُ قد دوّنتُ رقم كلّ مِن زوجتَي جودَت، فاتصلتُ بالأولى، أي المطلقّة الصبيّة، ومِن دون مقدمة قلتُ لها إنّني زوجته الأولى وأمّ الأولاد. المسكينة تلبّكَت كثيرًا، لأنّها لم تكن على علم بوجود زوجة لجودَت. وكَم كانت دهشتها كبيرة عندما أخبرتُها بأنّ هناك زوجة ثالثة! أعطَيتُها موعدًا في مقهى واتصلتُ بالأخرى. كان حديثنا متشابهًا تمامًا، فهي أيضًا لم تكن على علم بشيء. قلتُ لها إنّنا سنجتمع نحن الثلاثة للتحدّث بالأمر.
عندما جلسنا سادَ سكوت رهيب، وكانت المرأتان مكسوفتَين منّي، وشعرتُ بقوّة رهيبة. بدأتُ بالكلام عن زواجي بجودَت وعن الأولاد وعدَم قبولي بما يجري. هما أيضًا كانتا مستاءتَين مِن الكذب الذي مارسَه زوجي عليهما، فقلتُ لهما:
ـ إسمعاني جيّدًا... أمامكما حلان: إمّا أن تتصرّفا كما يجب للحفاظ على كرامتكما، وذلك قبل أن تحملا مِن ذلك الغشاش، أو أن تبقيا معه وتتقبّلا الإهانة... ولكن إحترسا: فمَن يفعل ما فعَلَه يُمكنه معاودة الكرّة... كما تريان لستُ قبيحة بل العكس، ولستُ عجوزًا بل لم يتجاوز عمري الخامسة والثلاثين، أهتمّ ببيتي وأولادي وخاصّة بزوجي. لذلك فإنّ الذي دفعَه لخيانتي هو قلّة احترامه لي وللنساء عامّة، لأنّه تزوّج عليّ وعليكما... فهو فاسد ولن يتغيّر.
ـ ماذا تقترحين؟
ـ سنطرده جميعنا وأنا التي ستخسر الأكثر، لكنّني لا أستطيع العيش مع هكذا انسان بعد الآن. علينا أن نتكاتف لأنّنا بنات جنس واحد.
إتّفقنا على الخطّة وذهبَت كلّ واحدة منّا في سبيلها. بعد يوم واحد، وجَدَ جودَت أمتعته على السلالم بعد أن غيّرتُ قفل الباب. صرختُ له مِن خلف الباب:" إذهب إلى زوجتَيكَ أيّها السافل!"
وحين قصَدَ جودَت زوجته الثانية، لاقى الترحيب نفسه، فتوجّه إلى زوجته الصبيّة التي كانت لا تزال مُغرمة به ولا تملك البُعد اللازم لتقييم الأمور. هي استقبلَته وباتَ يعيش معها في منزلها.
ولأنّ جودَت كان يشعر بأنّه رجل قويّ وجبّار، لم يُمانع أن أطلّقه وآخذ حضانة أولادنا. طلّقَته أيضًا الزوجة الثانية وباتَ يعيش بنعيم مع الثالثة.
لم آسف على زوجي، بل ساعدَني طلاقي على إيجاد نفسي. فوجدتُ عملاً بسرعة وتغيَّرت حياتي بكاملها. بقيَ جودَت يدفع تكاليف تعليم أولادنا على مضض، لأنّه خافَ أن يُسجَن إن لم يفعل. أمّا بالنسبة لزوجته التي طلقّته أيضًا، فهي سافَرت إلى أوروبا عند أخيها وتزوّجَت مِن رجل صالح وأنجَبت منه إبنة.
بعد حوالي السنة، إتصلَت بي زوجة جودَت باكية ومشتكية أنّها اكتشفَت أنّه تزوّج عليها سرًّا. كانت المسكينة كئيبة جدًّا ونادمة على عدم سماع نصيحتي خاصّة أنّها أنجبَت منه طفلاً. واسَيتُها قائلة:
ـ أنتِ بمستهلّ عمركِ والحياة أمامكِ... ثقي بنفسكِ وبقدراتكِ... إن كان جودَت قد أقنعكِ، كما فعَلَ معي، بأنّكِ ضعيفة لأنّكِ أنثى، فهذا الكلام باطل. كلّ ما يخرج مِن فمه هو كذب، لأنّه لا يرى فيكِ سوى أداة متعة يسأم منها بسرعة. أنتِ إنسانة بكل معنى الكلمة، ولا يحقّ لأحد، كائنًا مَن كان، أن يُقلّل مِن شأنكِ واحترامكِ لأيّ سبب. المرأة قادرة على إنجاز كل ما تنوي فعله تمامًا كالرجل وأحيانًا أفضل منه. جِدي لنفسكِ هدفًا واعملي على تحقيقه، وبعد ذلك جِدي رفيقًا يستحقّكِ فعلاً، ويعمل جهده لإسعادكِ وليس لتحقيركِ وتدمير عزيمتكِ.
حاورتها بولا جهشان