عانَيتُ لثلاث سنوات مِن الإحباط بعدما ترَكَني زوجي فجأةً، لأُربّي إبنتنا الوحيدة داليا التي كانت لا تزال في الثانية عشرة مِن عمرها. بعد ذلك، بدأتُ أتحسَّن بفضل أهلي وعمَلي وصديقتي الحميمة التي وقفَت إلى جانبي طوال محنتي. وما لَم أكن أعرفُه، هو أنّها سجّلَتني على أحد مواقع التعارف بهدف إعطاء معنىً لحياتي، ولِتثبُت لي أنّني لا أزال قادرة على استقطاب إعجاب الرجال بعد أن بلَغتُ الأربعين مِن عمري. وهي أخذَت صورًا لي ووضعَتها على بروفايلي، ذاكرة كلّ التفاصيل اللازمة بما فيها أنّني سيّدة مُطلّقة وأمّ لمُراهقة. وبعد فترة قصيرة، جاءَت إليّ مُبتسِمة وقائلة:
ـ لقد نجحتُ!
ـ بماذا؟!؟
ـ وجدتُ لكِ الرجل المُناسب ولَم يتطلَّب الأمر كثيرًا، فأنتِ سيّدة جميلة وجذّابة وألف رجل مَن يتمنّاكِ!
وروَت لي كيف أتّصَلَ أحدٌ بالحساب التي أنشأته هي بإسمي، وأبدى إعجابه العميق بمواصفاتي ورغبته بلقائي تاركًا رقم هاتفه. كان إسمه بلال وفي العقد الخامس مِن عمره ويعيشُ بين بلدنا والولايات المُتّحدة حيث هو مهندس. أرَتني صوَره فوجدتُه وسيمًا، وسألتُ نفسي لِما شخص عازب وناجح قد يهتمّ بمرأة مُطلّقة ولدَيها إبنة. ورددتُ الأمر لكَونه يعيشُ في بلد غير شرقيّ يتقبّل الإنسان كما هو.
للحقيقة، لَم تخطُر ببالي قط أمور الحبّ والزواج، لكنّ حماس صديقتي أنساني أن أوبّخها لأنّها تصرّفَت مِن دون إطلاعي على نواياها، فقبِلتُ الإتصال ببلال والتحدّث معه. فما كنتُ سأخسره؟
إستمتعتُ كثيرًا بالأحاديث التي دارَت بيني وبين بلال، فكانت لدَينا أمور مُشتركة عديدة، لذلك اتّفقنا على لقاء سريع قبل أن يطير إلى الولايات المُتّحدة حيث كان سيُنهي مشروعًا هندسيًّا ليعود بعد ذلك إلى البلد. جرى اللقاء كما توقّعتُه تمامًا وعدتُ إلى البيت حالمة. لكن ما كانت ستكون ردّة فعل داليا إبنتي حيال دخول رجل حياتنا؟ مِن جهته، كان بلال قد أكَّدَ لي أنّه لا يرى مانعًا لوجود إبنة لي على الإطلاق، فهو لطالما أرادَ الإنجاب إلا أنّه لَم يلتقِ بالمرأة المُناسبة، ووعدَني باعتبار داليا كإبنة له.
إستمعَت إبنتي إليّ وأنا أُخبرُها عن بلال ثمّ عانقَتني مطوّلاً هامسة في أذني:
ـ أنا سعيدة مِن أجلكِ يا ماما، فأنت عانَيتِ الكثير مع أبي ومِن بعده.
ـ أُريدُكِ أن تكوني أيضًا سعيدة يا حبيبتي وليس أنا فقط. ثقي بأنّ لا أحد في الدنيا أهمّ منكِ على الإطلاق.
عادَ بلال وعرّفتُه على إبنتي المُراهقة وكلّ شيء جرى على ما يُرام. كانت حياتي تأخذُ أخيرًا المنحى الذي تمنَّيتُه وشكرتُ ربّي على محبّته لي.
مضَت سنة على هذا النحو حتى طلَبَ حبيبي منّي رسميًّا الزواج منه وأنا قبلتُ طبعًا. أقامَ بلال زفافًا جميلاً ورحتُ معه في شهر عسل رائع بينما جاءَت صديقتي إلى البيت للمكوث مع داليا أثناء غيابنا.
عُدنا وسكّنا في بيت زوجي... إلى حين زفَّ لي خبر انتقالنا القريب إلى الولايات المُتّحدة بصورة دائمة. صعقَني الخبَر إذ أنّني حسبتُ أنّني سأبقى في البلد وإبنتي بينما يروح بلال ويجيء بين الحين والآخر إلى القارّة الأميريكيّة. كانت حياتي هنا وخفتُ مِن تلك البلاد الشاسعة والغريبة عنّي بِلغتها وتقاليدها. إلا أنّني قبلتُ معه، فما عسايَ أفعل؟ إلى جانب ذلك، هو أكَّدَ لي أنّ ذلك الإنتقال مفيد للغاية لمستقبل داليا التي صارَ عمرها ستّ عشرة سنة، ولَم يتبقَّ لها سوى سنتَين لدخول الجامعة. ودّعتُ أهلي وصديقتي العزيزة والجيران وركِبنا الطائرة.
فعَلَ بلال جهده لأشعر بالإطمئنان حين وصلنا بيتنا هناك، وأخذَني وداليا إلى أماكن عديدة واشترى لنا الهدايا وكلّ ما نتمنّاه. المنزل كان بغاية الجمال، خاصّة حديقته الخضراء المُزيّنة بالورود والزهور. تعرّفتُ إلى الساكنين في المنازل المُجاورة، والذين كانوا يعرفون زوجي مِن خلال الحفلات التي يُقيمُها السكّان كما تجري العادة. تعلّمتُ اللغة مِن جديد بعد أن نسيتُ ما تلقَّيتُه مِن دروس في المدرسة. وبعد سنة، شعرتُ بتحسّن ملحوظ. إبنتي، مِن جهّتها، إنخرطَت بسهولة في المجتمع الأميركيّ وفي مدرستها الجديدة، وصارَ لها صديقات كثيرات جلبَتهنّ إلى البيت بعدما طلَب زوجي منها ذلك. فهو كان يحبّ أن يمتلئ البيت بالصبايا فهكذا كان يعيشُ مِن جديد أيّام الدراسة التي قضاها هناك. في كلمة، كانت حياتي جميلة وهنيئة وسط زوج رائع وإبنة عاقلة وناجحة وجيرة ممتازة. فماذ سأطلبُ أكثر مِن ذلك؟
لكن في أحد الأيّام، وبينما كانت إحدى جاراتي عندي، قالَت لي:
ـ لا تُسيئي فهمي يا عزيزتي، لكنّنا تفاجأنا كلّنا كثيرًا بكِ يوم وصولكِ.
ـ لماذا؟
ـ أعني بسبب سنّكِ.
ـ وما بال سنّي؟!؟
ـ لا! لستُ أقولُ إنّكِ كبيرة في السنّ! بل فقط بالنسبة لذوق بلال.
ـ وما أدراكِ بذوقه في النساء؟
ـ في الغرب، خلافًا للشرق، يعيشُ الناس حياتهم الشخصيّة علنًا، والكلّ يعرف أنّ بلال يُحبّ الفتيات اليافعات، فهو كان يجلبهنّ الواحدة تلو الأخرى إلى بيته مُفتخرًا.
ـ قد يكون ذلك صحيحًا، إلا أنّه اختارَ سيّدة ناضجة للزواج منها. وحياته قبل الزواج لا تعنيني على الإطلاق.
ـ ذكّريني بسنّ إبنتكِ؟
ـ وما دخل داليا بالموضوع؟؟؟
ـ إنّه مُجرّد سؤال يا عزيزتي، لا تُبالي.
بالرغم مِن الجهد الذي بذلتُه، لَم أستطِع نسيان كلام جارتي. فشعرتُ فجأة بأنّني عجوز لا جمال ولا جاذبيّة لها، مع أنّ الأمر كان بالفعل مُغايرًا. لَم أنسَ أيضًا كيف أنّ تلك المرأة ذكَرت إبنتي عن قصد في نهاية حديثها. فهل أنّ زوجي يهوى داليا؟؟؟ لَم يكن ذلك مُمكنًا على الإطلاق! صحيح أنّه يُدللها، لكن فقط كما قد يفعلُ أي أب مع إبنته. مهلاً... بلال ليس أب داليا! كدتُ أنسى ذلك! ركضتُ أتّصل بصديقتي في البلد لأُشاركها ما يدورُ في بالي. هي طمأنَتني في البدء، ومِن ثمّ سكتَت مطوّلاً لتقول لي بصوت خافت:
ـ لقد انتبهتُ لأمر الآن... حين أنشأتُ ذلك الحساب لكِ، وضعتُ صورًا لكِ مع داليا.
ـ وما الغريب في الأمر؟
ـ لقد سألَني بلال أسئلة كثيرة عن إبنتكِ. وأنا لَم أجِد في ذلك شيئًا مُريبًا آنذاك ولكن الآن...
ـ مِن الطبيعيّ أن يسأل، فداليا جزء مِن المُعادلة وعليه فهم ومعرفة ما ينتظرُه.
ـ أجل ولكن... يا إلهي... فقط الآن أُدركُ تلك الأمور... أعني أنّه كان قد وضَعَ على البروفايل الخاص به أنّه يبحث عن شريكة سنّها يترواح بين الثامنة عشرة والعشرين.
ـ والآن تقولين لي ذلك؟!؟
ـ نسيتُ كلّ تلك التفاصيل حين كتَبَ لي، أعني لكِ، وأبدى إعجابه بكِ. هل يعني ذلك أنّه...
ـ أنّه أرادَ إبنتي وليس أنا؟!؟ لا! نحن نتصوّر أشياءً لا وجود لها. الحقّ يقَع على تلك الجارة اللعينة.
ـ ربمّا هي كانت مُعجبة ببلال واستاءَت لأنّه تزوّجَ أخيرًا. تلك الأمور تحصل دائمًا. لا تُفكّري بشيء يا حبيبتي وعيشي زواجكِ بهناء.
لكنّ الشكّ كان قد دخَلَ بالي، وصرتُ أُراقبُ زوجي عن كثب لأرى إن كان ينظرُ إلى داليا نظرة خاصّة، ولَم أعُد أنام جيّدًا وبتُّ نحيلة مِن كثرة الهمّ. كان عليّ حماية إبنتي وفضح خطّة بلال، إن وُجِدَت.
للحقيقة، لَم أجِد شيئًا مُريبًا على الإطلاق، فاطمأنّ بالي وطردتُ أخيرًا تلك الشكوك مِن حياتي، لأُعاود العَيش كما في السابق وأستمتعُ بحياتي، فالقدَر قد أعطاني فرصة جديدة لا يحقُّ لي تفويتها.
بلغَت داليا الثامنة عشرة وأقَمنا لها حفلاً كبيرًا، واستعدَّت لدخول الجامعة التي اختارَتها بعيدًا بسبب اختصاصها. فكان عليها ترك المنزل للعَيش في حرَم الجامعة كما يفعلُ مُعظم الطلّاب. تقبَّلتُ الفكرة إن كان ذلك سيُساعدها لاحقًا، إلا أنّ بلال وقَفَ في وجه مشروع داليا، مُشيرًا إلى المخاطر التي تنتظرُها ومُضيفًا أنّ مكانها هو وسطنا. بكَت إبنتي وتوسّلَت إليه كثيرًا، ففي آخر المطاف هو مَن سيدفعُ تكاليف دراستها والكلمة الأخيرة تعودُ إليه. إلا أنّه لَم يُبدِّل رأيه على الإطلاق حتى عندما حاولتُ التوسّط لها. ولتهدئة الأجواء، وعدَنا زوجي بالتعويض لنا بتنظيم سفرة إلى إحدى الجزر الجميلة نذهب إليها جميعًا قبل بدء العام الدراسيّ.
ركبنا الطائرة ورحنا نقضي أسبوعَين في أروَع مكان على الإطلاق. بقينا معظم الوقت على الشاطئ نلعب ونأكل ونشرب ونُعرّض أجسامنا لأشعّة الشمس الدافئة. كان بلال قد حجَزَ لنا غرفتَين، واحدة له ولي والأخرى لداليا، وبالكاد مكثنا فيهما سوى للإستحمام وتبديل ملابسنا لنقصد المطعم وللنوم. شكرتُ زوجي بحرارة على ما يفعلهُ مِن أجل إبنتي وكذلك داليا.
لكن قبل عودتنا بيوم واحد، تعرّفتُ إلى حقيقة بلال البشعة. فكانت الجارة للأسف على حقّ. لماذا نتجاهل الدلائل هكذا؟ هل خوفًا مِن مواجهة واقع لَم نحسِب حسابه؟ أو لأنّنا نعتقد أنّ مجرّد إغفال الحقيقة سيجعلُها تختفي؟
في ذلك المساء، وأنا أمشي في رواق الفندق لأقصد غرفتنا، رأيتُ زوجي يخرجُ مِن غرفة داليا كاللصّ. إختبأتُ خلف الحائط كي لا يراني وانتظرتُ حوالي الدقيقة لأدقّ باب إبنتي. لحظة فتحَت لي الباب، علِمتُ أنّ شيئًا قد جرى بينهما، فهي كانت مُرتبكة وبالكاد تنظرُ إليّ. سألتُها مئة سؤال لَم تُجِب عليها فصفعتُها بقوّة صارخة فيها:
ـ ماذا كان يفعلُ بلال هنا؟!؟ أجيبي وإلا أبرحتُكِ ضربًا!
ـ ليست أوّل مرّة يقصدُني في غرفتي، فمنذ وصولنا الجزيرة وهو يحاول...
ـ يُحاولُ ماذا؟!؟
ـ يُريدُ إقامة علاقة حميمة معي. لكنّني لَم أقبَل، صدّقيني! فقط سمحتُ له أن...
ـ أكملي!
ـ الليلة فقط سمحتُ له بلَمسي. أنا آسفة يا ماما لكنّه هدّدَني بعدَم تسجيلي بأيّة جامعة على الأطلاق، وإجباري على العمَل لتسديد ما صرفَه عليّ منذ زواجكما.
ـ السافل! وهل كنتِ تنوين إخباري بكّل ذلك؟
ـ لا... فأنتِ مُتيّمة به ورؤيتكِ سعيدة هكذا أهمّ مِن كلّ شيء.
ـ حسنًا... سأنتظرُ حتى نعود إلى البيت غدًا. نامي الآن ولا تُفكّري بشيء، فمهمّتي كأمّ هي حمايتكِ وليس العكس. أعدُكِ بأنّ ذلك الوحش لن يمسّ شعرة مِن شعركِ بعد الآن!
وفور وصولنا البيت، بدأتُ أُحضّر الحقائب. إستغرَبَ بلال كثيرًا ممّا أفعلُه، فسألَني عمّا يحصل فأجبتُه بغضب شديد:
ـ أنا راحلة مع إبنتي، فهي أخبرَتني كلّ شيء. أنتَ إنسان سافل وحقير وصرتُ أشمئزّ منكَ. ستقطَع لنا تذكرتَي العودة وتُحرِّر لي شيكًا ضخمًا لتُكمل داليا دراستها في بلدنا وإلا...
ـ وإلا ماذا؟
ـ سأرفعُ عليكَ دعوى قضائيّة.
ـ داليا لَم تعُد قاصرًا.
ـ بل هي إمرأة قد تعرّضَت للتحرّش مِن قِبَل زوج أمّها! قضيّتي رابحة وأنتَ تعلمُ ذلك. هيّا، أخرِج دفتر الشيكات على الفور! سؤال أخير: هل أحبَبتَني يومًا؟
ـ للحقيقة لا. أردتُ فقط داليا وانتظرتُ أن تصبح بالغة قانونيًّا. أنا آسف.
بعد وصولنا البلد، نسيتُ بلال بسرعة فائقة وكأنّه لَم يوجَد قط. راقبتُ إبنتي لأرى إن تأثَّرَت بالذي حصَلَ لها، إلا أنّها هي الأخرى تغلّبَت بسرعة على الأمر. وحده بلال كان الخاسر الكبير... لأنّني لَم أنسَ إخبار جارَتي بالذي فعلَه، عالمةً تمام العلم أنّها ستنشرُ الخبَر حولها مُدمِّرة بذلك سُمعته نهائيًّا. فهناك مئة طريقة للإنتقام.
لَم أفكِّر بعد ذلك بالرجال بل فقط بإبنتي ومحيطي الذي حضَنَني لدى عودتي. لَم أُخبِر أحدًا الحقيقة، إلا صديقتي التي شعرَت بذنب كبير. وبرَّرتُ طلاقي أمام الناس بأنّني لَم أُحبّ العيش هناك بسبب الفرق في التقاليد والحياة، والكلّ صدّقَني. ففي آخر المطاف، وكما ذكرتُ سابقًا، يُصدِّق المرء ما يراه مُناسبًا له.
حاورتها بولا جهشان