لَم يطلب أحدٌ رأيي بهادي أو إن كنتُ أريدُ ربط حياتي به، بل تقرَّرَ ذلك فور زيارة والده لأبي. إجتمَعَ الرجلان لمدّة لَم تتعدّى الساعة، ومِن ثمّ قال والدي بضع كلمات لأمّي، وهي نادَتني إلى المطبخ حيث كانت تعُدُّ وجبة العشاء وقالَت لي:
ـ مبروك يا حبيبتي... ستتزوّجين مِن إبن ضيفنا.
ـ ماذا؟!؟ بهذه البساطة؟
ـ هكذا قرَّرَ أبوكِ وأنا أثقُ بقراراته.
ـ تعنين أنّكِ تُنفّذين قرارته كعادتكِ... لطالما كنتِ زوجة مُطيعة.
ـ لا داعٍ لكلامكِ الجارح... عندما تُطيعُ الزوجة زوجها تجري الأمور على أفضل حال. هل سمِعتِنا يومًا نتشاجر؟
ـ ولِما تتشاجران إن كنتِ لا تقفين بوجهه، أو تُبدين ولو رأيًا واحدًا خاصًّا بكِ. كلّ ما تفعلينَه هو تنفيذ رغبات رجل أنانيّ لا يُحبّ سوى نفسه.
ـ لا أسمحُ لكِ بـ...
ـ هل تظنين أنّني لا أعلَم أنّكِ لستِ سعيدة مع أبي؟ لَم أرَكِ تحلَمين أو حتى تُخطّطين يومًا... هل هذا هو المصير الذي تُريدينَه لي؟ أن أصير مثلكِ؟ ألهذا الهدف دخلتُ المدرسة ومِن ثمّ الجامعة؟ ألَن يكون لي رأيٌ خاصّ بي ورؤية لحياتي؟
ـ زوجُكِ سيفعلُ ذلك عنكِ.
ـ لستُ معوّقة عقليًّا يا أمّي، بل فتاة ذكيّة وعاقلة... لدَيَّ طموحات كثيرة مهنيّة وعاطفيّة، وأنا قادرة على تنفيذها على أكمل وجه.
ـ أعلم ذلك يا حبيبتي لكن...
ـ ما ذنبي إن كنتُ قد ولِدتُ في عائلة كهذه؟ بالأحرى لماذا أنجَبتماني، لأكون مجرّد سلعة للتبادل مُقابل منافع مادّيّة أو اجتماعيّة؟ لو كنتُ شابًّا لمَا حصَلَ ذلك، أليس كذلك؟
ـ أجل.
ـ لن أتزوَّجَ مِن ذلك الشاب، مهما كلَّفَ الأمر.
ـ سيصبُّ والدكِ غضبه عليّ.
ـ هذه مُشكلتكِ يا أمّي، فأنتِ التي تزوّجتِه وصِبرتِ عليه وأعطَيتِه الفرصة ليُسَيطر عليكِ... وعليكِ تحمّل العواقب وعدَم تحميلي إيّاها.
بدأَت والدتي بالبكاء، وحزنتُ مِن أجلها حقًّا، إلا أنّني لَم أكن مُستعدّة لتدمير حياتي بالزواج مِن إنسان لَم أرَه ولو مرّة واحدة. كنتُ أعلم أنّ المعركة ستكون صعبة، وأنّ والدي لَن يتراجع عن وعده بي، لكنّني كنتُ مستعدّة للنضال مِن أجل وجودي وكياني.
أخبرَت أمّي زوجها برفضي القاطع، وسمعتُه يصرخُ ويُهدّد ويَعِدُ بأخذ تدابير قاسية تجاهها وتجاهي. إلا أنّه لَم يقل لي شيئًا مُباشرًا، ربمّا لأنّه يعرفُ كَم أنا قويّة بعزيمتي. بدلاً مِن ذلك، دبَّرَ لقاءً بيني وبين عريسي، آملاً أن يُعجبُني ذلك الشاب وتنحلُّ المُشكلة مِن تلقاء نفسها.
كان هادي شابًا وسيمًا لكن غليظًا للغاية. فتشاوفه بشكله وماله يتغلّبَ على كلّ شيء، وكان مِن الصعب عليّ أو على أيّة شابّة إستلطافه. طوال الجلسة، بقيَ هادي ينظرُ إليّ وكأنّني إحدى جواريه، أي باحتقار وكأنّني يجدرُ بي حمد الله على وجوده معي. إلى جانب ذلك، كان مِن الواضح مِن نظراته لي أنّه يتخيّلُ مُسبقًا ما سيفعله بي عندما نصيرُ خلف باب مُغلق. كلّ ذلك أشعرَني بانزعاج عميق تمثَّلَ بصمتي، فلَم أتفوّه سوى بكلمات قليلة راجية أن يمرّ الوقت بسرعة، وينتهي عذابي. وهكذا فشِلَت خطّة أبي فشلاً ذريعًا.
مِن بعدها دارَ شجار عنيف بين والدي وأمّي، فهو لَم يفهَم كيف أنّها لَم تستطع إقناعي بالعريس أو إجباري به. فبالنسبة له، كانت والدتي، مرّة أخرى، غير مؤهّلة لشيء، الأمر الذي حمَلَه على احتقارها أكثر. حزِنتُ مِن أجلها، لكنّني بقيتُ صامدة لأنّ، كما قلتُ لها، ليس عليّ تحمّل نتائج زواجها الفاشل.
بعد أيّام قليلة، فوجئتُ بمحتوى مكالمة وصلَتني مِن هادي. فبدلاً مِن أن يُحاول إقناعي بالزواج منه، عَرَضَ عليّ أن نُقاوم سويًّا قرارًا لَم يكن يُريدُه هو أيضًا. فرِحتُ للخبر طبعًا، فذلك كان يعني أنّ الزواج لن يتمّ. سألتُ هادي مازحة هل يرفضُني لأنّني قبيحة للغاية، فأجابَ ضاحكًا أنّني رائعة لكنّ قلبه مأخوذ. تمنَّيتُ له التوفيق وأقفلتُ الخط والبسمة على وجهي. لَم أخبر أحدًا بهذه المُكالمة وأخذتُ أنتظرُ المُستجدَّات بصبر.
إلا أنّ ما مِن شيء حصل، وبقيَ مشروع الزواج قائمًا. لِذا اتّصَلتُ بهادي لأستفسر عن الأمر فطلَبَ أن يلتقي بي، فما يُريدُ قوله لي يستوجب الحذر والسرّيّة التامة. قبلتُ دعوته إلى مقهى معروف ورحتُ لأقابلُه. هو لَم يأتِ لوحده بل مع صديق له. فسألتُه على الفور:
ـ قلتَ إنّ الأمر هام وسرّيّ، وها أنتَ تجلبُ معكَ أحد الأصدقاء.
ـ عامر هو المشكلة بحدّ ذاتها.
سكَتَ هادي مطوّلاً غير قادر على إيجاد طريقة لقَول لي ما يُتعِبُه، إلا أنّه بدأ بالكلام:
ـ عامر هو حبيبي... أجل أنا مثليّ... أرجوكِ ألا تحكمي عليّ... هكذا وُلِدتُ وهكذا سأموتُ ولا حول ولا قوّة لي لتغيير ميولي. ذهبتُ لأطبّاء نفسيّين كثر، ولَم يستطع أيّ منهم إصلاحي. أبقيتُ الأمر سرًّا طوال حياتي، بل ظهرتُ على العلَن مع أجمل الفتيات وأجبرتُ نفسي على مُعانقتهنّ وحتى تقبيلهنّ، لكنّني كنتُ أتعَس الناس... إلى حين التقَيتُ بعامر الذي هو الآن أعزّ إنسان على قلبي. وعندما قرَّرَ أبي تزويجي لكِ، خفتُ أن أضطّر للعب دور العشيق والزوج، ممّا كان سيُدمّرُ حياتي وحياتكِ. لِذا اعترفتُ لأبي بالحقيقة، الأمر الذي جلَبَ لي غضبًا لم أتصوّره مُمكنًا. لكن بدلاً مِن أن يوقف والدي مشروع زواجنا، أجبرَني على القبول به كي تبقى حقيقة ميولي مخفيّة. وهو هدّدني بحرماني مِن الميراث وحتى التبليغ عنّي.
ـ يا إلهي... ما العمل إذًا؟
ـ علينا أن نتزوّج.
ـ ماذا؟ لقد قلتَ للتوّ أنّكَ مثليّ!
ـ صحيح، عَنيتُ أن نتزوّجَ صوَريًّا ونطلّق بعد سنة.
ـ أُقدّرُ صعوبة موقفكَ، ألا أنّني لستُ مستعدّة لتضييع سنة مِن حياتي ويُلصَق بي لقَب مُطلّقة مِن أجل زواج زائف!
خرجتُ مِن المقهى غاضبة وذهبتُ إلى البيت. هناك رأيتُ والدتي تبكي كلّ دموعها. حاولتُ مؤاساتها، إلا أنّها كانت حقًّا تعيسة بعد أن شتمَها أبي وهدّدَها بطردها مِن المنزل إن لَم أتزوّج مِن هادي. في البدء إعتقدتُ أنّها تضغطُ عليّ وأنّ حزنها مُزيف، لكنّها كانت حقًّا مُنهارة. طمأنتُها بأنّ الأمور لن تصل إلى حدّ الطلاق، وقبّلتُها بحرارة ومِن ثمّ دخلتُ غرفتي لأفكّر بعرض هادي وإن كان يستحقُّ المُحاولة.
في المساء، عادَ أبي والشرّ في عَينَيه، وبدأ بالصراخ على مَن أسماها "أكبر خطأ في حياته." ومِن أجل المسكينة أمّي وحفاظًا على ما تبقّى لها مِن كرامة، إتّصلتُ بهادي لأخبرُه بأنّني موافقة.
والذي ساعَدني على القبول، إضافة إلى تجنيب أمّي المزيد مِن الذلّ، هو أنّني لن أضطرّ فعلاً للعب دور الزوجة مع هادي بل التظاهر فقط لمدّة سنة. نوَيتُ أيضًا الحفاظ على عمَلي وأصدقائي وحياتي بأكملها، لأعود إليها بعد الطلاق. زفَّيتُ خبر موافقتي إلى والدتي التي أسرعَت بتنشيف دموعها وإبلاغ زوجها. الكلّ كان راضٍ وعادَ جوّ الوفاق إلى البيت.
بدأَت تحضيرات الزفاف، ومثّلتُ دور الفتاة السعيدة والمُتحمّسة على أكمَل وجه. وأعترفُ أنّني تلذَّذتُ بذلك عالمةً أنّني وهادي لدَينا مُخطّط لا يشكُّ به أحد.
وتبَّينَ لي أنّ الله يُحبُّني. فلِما أنا بالذات في حين هو يدَعُ غيري يقَع ويتعذّب ويُعاني؟ فلَم أكن فتاة مُميّزة أو مُبالغة بإيمانها؟ لَم أجد الجواب حتى اليوم، فليس للخالق أن يُقدّم تفسيرات أو مُبرّرات.
فحدَثَ أن سمِعتُ حديثًا دارَ بين والدَيَّ في الليلة التي سبقَت موعد زواجي. كنتُ قد خلدتُ إلى النوم باكرًا للإستعداد لنهار حافل، إلا أنّني استيقظتُ بعد حوالي الساعَتين مِن دون سبب. بقيتُ في فراشي بضع دقائق على أمل أن أغفو، إلا أنّني لم أغرق في النوم مجدّدًا. لِذا خرجتُ مِن غرفتي إلى المطبخ لأُحضّر لنفسي كوبًا مِن الحليب الساخن، وسمعتُهما يتحدّثان. كانت أمّي تقولُ لأبي:
ـ تعلَم رأيي بالموضوع... لن أسامحكَ على ما تفعله... لطالما كنتَ ماكرًا.
ـ إخرسي! يا لوقاحتكِ! منذ متى تتجرّئين على الكلام معي هكذا؟
ـ منذ ما انقلَبتَ على ابنتكَ الوحيدة مِن أجل إعطائكَ كلمة لصديقكَ.
ـ هو ليس صديقي، بل رجل أودُّ التقرّب منه عائليًّا وإقامة أعمال معه. على كلّ الأحوال، البنت قبِلَت به، فما الذي يُزعجُكِ؟
ـ قبِلَت به بعدما ألّفتَ هذه القصّة العجيبة بأنّ العريس شاذ!
ـ ها ها ها... أرأيتِ ذكاء زوجكِ؟ لن أدَعَ فتاة تُقرّرُ عنّي وتُجبرُني على التراجع عن كلمتي.
ـ يا لَيتني لَم أتزوّجكِ! لكنّني افتقَدتُ جرأة إبنتي يوم فرضوكَ عليّ.
ـ وما الذي ينقصُكَ معي؟ لدَيكَ كلّ شيء!
ـ ينقصُني الإحترام والمودّة والحبّ، أي أنّكَ لَم تُعطِني شيئًا إلا بعض المال وهذا البيت القبيح الذي يُشبهكَ.
ـ إن لَم تخرسي فسوف أعلّمُكِ التهذيب!
رفَعَ أبي يدَه ليصفَع أمّي فركضتُ أمنعُه مِن ذلك صارخة:
ـ إيّاكَ أن تلمس أمّي أيّها الجبان!
ـ ماذا؟!؟ كيف...
ـ وحده الجبان يضربُ النساء... ووحده الجبان يُحيكَ المؤامرات لإيقاع ابنته والإنتفاع منها... أنا أخجل بكَ بدلاً مِن أن أفتخر بكَ وأشعرُ بالأمان معكَ. أمثالكَ لا يجب أن يتزوّجوا وأن ينجبوا. والآن بعدما علِمتُ الحقيقة، يستحيل أن أتزوّجَ مِن هادي... كيف استطعتَ غشّي إلى هذه الدرجة؟ أقنعتموني بأنّ عريسي مثليّ وأنّنا لن نعيش كزوج وزوجة حقيقيّين، لكن ما كان سيحصل فعلاً ليلة زفافنا عندما يريدُ عريسي ممارسة حقّه الزوجيّ معي؟
ـ تفعلين ما يتوجّب عليكِ كزوجة.
ـ كما فعَلت أمّي معكَ مِن قبل... مِن دون شغف أو حبّ لكن باشمئزاز وعذاب. هل تُدرك يا أبي أنّ أمّي لو استطاعَت ذلك لكانت تركَتكَ ربمّا منذ اليوم الأوّل ورحَلت؟ إنّكَ تعيش مع إمرأة تمقتكَ لأنّكَ تسيء مُعاملتها. سيأتي يوم وتفقدُ قوّتكَ وتمرض، وستحتاج لحنان واهتمام زوجتكَ وابنتكَ... لكنّني لستُ متأكّدة مِن أنّكَ ستجد أيًّا منّا إلى جانبكَ. ستمرض وتموت لوحدكَ بسببكَ.
ـ هذا لن يحصل.
ـ سنرى... قل للممثّل البارع أنّني لن أتزوّجه غدًا مهما كلّفَ الأمر.
نظرتُ إلى أمّي ورأيتُ في عَينَيها الفخر والإعتزاز، فكنتُ قد أخذتُ لها حقّها مِن طاغٍ عذّبَها طوال عشرين سنة.
لَم يتمّ الزواج طبعًا، بل حدَثَ أمرٌ عجيب: تغيَّرَ أبي معنا. هل ذلك لأنّه خافَ مِن أن ينتهي الأمر به وحيدًا أم لأنّه فهِمَ أنّ الأب والزوج هو الذي يُعطي الشعور بالأمان، ويحمي مَن يُحبّ مِن كلّ شرّ ويُعطيهم حبّه غير المشروط؟ لستُ أدري، لكنّ أمّي أصبحَت شبه سعيدة.
تزوّجتُ بعد ثلاث سنوات مِن شاب إختَرتُه بنفسي، وبارَكَ أبي زواجنا وأوصى صهره بأن يُحسن مُعاملتي قائلاً إنّ "المرأة وردة جميلة ورقيقة فعليكَ الإهتمام بها وإعطاؤها كلّ حبّكَ". ضحكتُ في سرّي لهذا التحوّل وأملتُ أن يدوم طويلاً.
حاورتها بولا جهشان
