روميو وجولييت

عندما علِمتُ بحبّ أختي عبير لِوجيه إبن العم خليل، تذكّرتُ فورًا قصّة روميو وجولييت لِوليَم شكسبير. وقلتُ لِعبير مازحة:

ـ أرجو الّا تلقيا المصير نفسه".

 

فالوضع بين عائلتنا وعائلة وجيه كان مشدودًا لِدرجة لا توصف، والخلاف بينهما كان يعود إلى زمَن بعيد حين كان أبوانا أعزّ الأصدقاء. ولكنّ المال والمصالح دمّرَت تلك الصداقة وحوّلَتها إلى عداوة لا مثيل لها. وموقف الزوجَتَين لم يُحسّن الوضع بل زاده سوءاً وبتنا نتجّنب حتى ذكر إسم هؤلاء الناس تحت طائلة العقاب القاسي.

 

وشاءَت الأقدار أن يكون للعم خليل إبنًا وسيمًا وطيّباً بعيداً كلّ البعد عن أخلاق والدَيه. لم يكن يفهم ذلك الشاب كيف لأصدقاء أن يتحوّلوا إلى أعداء، وحاول جهده الدخول في مصالحة لم يقبل بها أحد.

 

ولم يكن وجيه آنذاك يعرف أختي، ولكن عندما رآها صدفة وقعَ فورًا في حبّها. وحاولَ جهده الإلتقاء بها مجدّدًا ولكنّه لم يستطع. ومرَّت سنة بِكاملها حتى جمعَتهما الصّدف مجدّدًا. عندها لم يتردّد وجيه في التكلّم مع التي سرقَت قلبه مِن أوّل نظرة. فركَضَ إليها بينما كانت تتسوّق وقال لها:

ـ أنا وجيه... إبن خليل... الصديق السابق لوالدكِ.

ـ تعني عدوّه اللدود؟

ـ أجل...

ـ وتعلم تمام العلم أنّني لا أستطيع حتى إلقاء التحيّة عليكَ؟

ـ وما دخلنا نحن؟ سأكون بمنتهى الصّراحة معكِ... أنت تعجبيني وكثيرًا، وإن لم يكن لديكِ مانع أوّد رؤيتكِ مجدّدًا.

ـ آسفة.

ـ هل أنا بهذا الكم مِن القباحة أو الغلاظة؟

ـ بالعكس...

ـ أذًا علينا أن نلتقي... بدون أن نخبر أحدًا بالأمر طبعًا.


عادَت أختي إلى البيت والبسمة على وجهها، وقصَّت عليّ ما حدَث مع وجيه. عندها صَرَختُ بها:

ـ هل فقدتِ عقلكِ؟ تعلمين ما قد يحصل إن علِمَ أبوانا بالأمر.

ـ أجل... أعلم... ولكن لن يعرف أحد... إلاّ إذا وشَيتِ بي.

ـ حبيبتي... ما نفع اللقاء به أو حبّه إن كنتِ لا تستطيعين بناء مستقبل معه... أنا أختكِ الكبيرة... إسمعي كلامي وابتعدي عنه.

 

ولكنّها لم تفعل، بل بدأت تواعده سرًّا ويجلسان معًا ويتحدّثان عن المشاكل بين العائلتَين محاولان إيجاد حلول لها. ولكنّ الكبار ليسوا ببساطة الصغار، خاصة إن كان الحقد قد احتلّ مكان العقل. وأمام ذلك الطريق المسدود، قرّرَ وجيه فرض حبّه على أهله. وأتذكّر قلق عبير في ذلك اليوم:

ـ سيُكلّم أهله اليوم... يا ربّ أستر!

ـ لن يوافقوا... سترَين.

ـ كفى شؤمًا! ألا تريدين رؤيتي سعيدة؟

ـ أنا بلى ولكنّهم كلّهم مشغولون بتغذية غضبهم... لن تنتهي القصّة عندنا، بل سيُجبروننا على حملها لأولادنا وربما لأولاد أولادنا.

 

وكما توقَعتُ إصطدَم وجيه برفض قاطع مصحوب بشتّى التهديدات. ولم يكتفِ خليل بذلك، بل بعث بمرسال إلى أبي لِيطلب منه أن يُبعد ابنته عن إبنه. وجُنّ والدي وصَرَخ وشتَمَ وعاقبَ أختي، وهدّدها بإرسالها بعيدًا إلى عمّتي التي تسكن في مكان بعيد جدّاً!

 

ولكنّ عبير لم تخف منه وجابهَته:

ـ ألن تنتهي هذه القصّة أبدًا؟ وما ذنبي أنا؟ حلّوا خلافاتكم أو أتركونا بسلام! سأتزوّج مِن وجيه شئتَ أم أبَيتَ!

عندها رأيتُ الشرّ في عَينيّ أبي الذي صرَخَ بها:

ـ سترحلين إلى عمّتَكِ في الصباح الباكر! ولن أتراجع عن قراري!

حاولنا أنا وأمّي تهدئته ولكن مِن دون جدوى. وبكينا ولم نَنَم طوال الليل ونحن نفكّر بطريقة لتغيير رأيه. وقامَت عبير مِن سريرها ولبسَت ثيابها. وقبل أن تخرج مِن البيت قالت لي:

ـ لا أريد أن أقحمَكِ بمشكلتي... قولي إنّني هربتُ أثناء نومكِ.

ـ إلى أين أنتِ ذاهبة يا مجنونة؟!؟

ـ إلى حبيبي..."


وأدركتُ أنّ كارثة كانت ستحدث ولكن لم أشكّ أبدًا بِمداها.

 

وعندما استفاقَ أبي ولم يجد أختي، سكتَ مطوّلًا وكنتُ أعلم معنى صمته. ثم ذهَبَ إلى غرفة نومه وفتَحَ الخزانة وأخرَجَ منها بندقيّة صيد وقال لأمّي:

ـ قد لا أعود... إهتمّي بالبيت.

ـ يا إلهي! لا، يا جلال! لا! إجلس قليلًا... فكّر بما قد تفعله! أرجوكَ!

 

ولكنّه خرَجَ مِن دون أن ينظر حتى إلينا. وركضتُ أتصل بالشرطة كي أمنَعه مِن قتل أحد، فتأنيبٌ بسيط أفضل مِن السجن المؤبد... ولكنّ الخطوط كانت جميعها مشغولة. لِذا لحقتُ به آملة ان أقنعه بالعدول عمّا في باله.

 

إلا أنني وصلت متاخّرة فقد كان والدي قد دخَلَ بيت خليل، وسمعتُ صوت صراخ وتهديد. وبعد دقائق، خرَجَ أبي مع غريمه ووقفا بِصمت أمام المنزل. هرعتُ إليه وسألتُه عما جرى فقال لي:

- إبنهم ليس هنا...هرب هو الآخر ...ولكننا سنجدهما معاً.

ـ الآن أصبحتما متّفقين؟ وعلى ماذا؟ على أذيّة ولدَيكما؟ جمعكما القتل؟ اسمع يا أبي... إن لمستَ شعرة مِن رأس عبير لن

ترى وجهي مجدّدًا! لا أريد أبًا مجرمًا! لا أريد أبًا غطَّسَ يدَيه بدم إبنته الصّغرى! ما بالكما؟ لقد طلَبَ وجيه الإرتباط بأختي رسميًّا... أين العار بذلك؟ العار الوحيد هو موقفكما الشنيع... نسيتما خلافاً دام سنيناً مِن أجل تصفية حساباتكما مع فلذتَي كبدكما؟ أبي... لم أتصوّر يومًا أنّني سأقول لكَ ذلك ولكنّني أخجل بكِ".

 

ونظَرَ أبي إليّ بِتعجّب ومِن ثمّ بِحزن. كان قد أدركَ مدى حماقته. حاوَلَ التكلّم معي ولكنّني أضفتُ:

ـ هيّا إلى البيت... أمّي تنتظرنا على أحرّ مِن الجمر.

 

ولحقَ بي أبي وعاد خليل إلى بيته. وانتظرنا عودة عبير أو أيّ خبر عنها بدون جدوى. بعثنا بأناس للتفتيش عنها كي لا تخاف إن رأت أبي وتختفي إلى الأبد.

 

وهبط الليل ولم نكفّ جميعًا عن البكاء. وأقسمَ والدي أنّه لن يلمس أختي أو حتى يُوبّخها إن هي عادَت. وهدّدَته أمّي بتركه إن حصل أيّ مكروه لعبير. أمّا أنا فتذكّرتُ قصّة روميو وجولييت وخفتُ كثيرًا، ولكنّني لم أشارك أحدًا مخاوفي.

وفي الصّباح وصلَنا الخبر. كان بعض السكان قد رأى دخانًا يتصاعد مِن أعلى الجبل، ولكنّهم لم يشكّوا في أنّ لإختفاء أختي علاقة بالموضوع.

 

ووجدوا سيّارة وجيه محروقة تمامًا وهو بداخلها مع أختي. كانا قد فضّلا إنهاء حياتهما على العيش مِن دون الآخر.

وجدوهما متعانقَين في محاولة أخيرة لعيش حبهما في هذه الدنيا.

 

وحين سمَعَ أبي الخبر، دخَلَ الغرفة وأخَذَ سلاحه مجدّدًا ولكن ليُصوّبه نحوه. ولولاي وأمّي لكان قد لحق بعبير. وبدأ يُردّد:" صغيرتي... قتلتُ صغيرتي.

 

وبقيتُ أسمعه يُتمتم هذه العبارة حتى آخر أيّامه التي أمضاها في الصّلاة وطلب الغفران. لم تتركه أمّي بالرّغم أنّها توقّفَت عن حبّه ولكنّها بقيَت مِن أجلي.

 

ولِسخرية القدر، نسيَت العائلتان خلافهما بعدما جمعهما الحزن على ولَدَيهما، وصار أهل وجيه يأتون أسبوعيًّا إلى بيتنا ويذهَب والدَيّ إليهم.ولكنّني بقيتُ أرفض زيارتهم لأثبت للجميع أنّني لم أنسَ عبير التي ذهبَت ضحيّة الكره وصغر العقل.

وتزوّجتُ بعد سنين قليلة لأبعد قدر المستطاع عن أجواء الحزن والنَدَم. وبالطبع أسميتُ إبنتي الأولى عبير.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button